الباحث القرآني
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -:
﴿وَإذْ قالَ اللهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهُ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ إنَّكَ أنْتَ عَلامُ الغُيُوبِ﴾ ﴿ما قُلْتُ لَهم إلا ما أمَرْتَنِي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي ورَبَّكم وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرَقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾
اِخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في وقْتِ وُقُوعِ هَذا القَوْلِ؛ فَقالَ السُدِّيُّ وغَيْرُهُ: لَمّا رَفَعَ اللهُ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - إلَيْهِ؛ قالَتِ النَصارى ما قالَتْ؛ وزَعَمُوا أنَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - أمَرَهم بِذَلِكَ؛ فَسَألَهُ تَعالى حِينَئِذٍ عن قَوْلِهِمْ؛ فَقالَ: ﴿ "سُبْحانَكَ"؛﴾ اَلْآيَةَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: فَتَجِيءُ "قالَ"؛ عَلى هَذا مُتَمَكِّنَةٌ في المُضِيِّ؛ ويَجِيءُ قَوْلُهُ آخِرًا: ﴿وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [المائدة: ١١٨] ؛ أيْ بِالتَوْبَةِ مِنَ الكُفْرِ؛ لِأنَّ هَذا ما قالَهُ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - وهم أحْياءٌ في الدُنْيا.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وقَتادَةُ ؛ وجُمْهُورُ الناسِ: هَذا القَوْلُ مِنَ اللهِ إنَّما هو في يَوْمِ القِيامَةِ؛ (p-٣٠٤)يَقُولُ اللهُ لَهُ عَلى رُؤُوسِ الخَلائِقِ؛ فَيَرى الكُفّارُ تَبَرِّيهِ مِنهُمْ؛ ويَعْلَمُونَ أنَّ ما كانُوا فِيهِ باطِلٌ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: و"قالَ" - عَلى هَذا التَأْوِيلِ - بِمَعْنى: "يَقُولُ"؛ ونُزِّلَ الماضِي مَوْضِعَ المُسْتَقْبَلِ دَلالَةً عَلى كَوْنِ الأمْرِ وثُبُوتِهِ؛ وقَوْلُهُ آخِرًا: ﴿وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ [المائدة: ١١٨] ؛ مَعْناهُ: إنْ عَذَّبْتَ العالَمَ كُلَّهُ فَبِحَقِّكَ؛ وإنْ غَفَرْتَ؛ وسَبَقَ ذَلِكَ في عِلْمِكَ؛ فَلِأنَّكَ أهْلٌ لِذَلِكَ؛ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِكَ؛ ولا مُنازِعَ لَكَ؛ ولَيْسَ المَعْنى أنَّهُ لا بُدَّ مِن أنْ تَفْعَلَ أحَدَ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ؛ بَلْ قالَ هَذا القَوْلَ مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ؛ وفائِدَةُ هَذا التَوْقِيفِ - عَلى قَوْلِ مَن قالَ إنَّهُ في يَوْمِ القِيامَةِ - ظُهُورُ الذَنْبِ عَلى الكَفَرَةِ في عِبادَةِ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ وهو تَوْقِيفٌ لَهُ يَتَبَيَّنُ مِنهُ بَيانُ ضَلالِ الضالِّينَ.
و"سُبْحانَكَ"؛ مَعْناهُ: تَنْزِيهًا لَكَ عن أنْ يُقالَ هَذا؛ ويُنْطَقَ بِهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿ما يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ نَفْيٌ يُعَضِّدُهُ دَلِيلُ العَقْلِ؛ فَهَذا مُمْتَنِعٌ عَقْلًا أنْ يَكُونَ لِبَشَرٍ مُحْدَثٍ أنْ يَدَّعِيَ الأُلُوهِيَّةَ؛ وقَدْ تَجِيءُ هَذِهِ الصِيغَةُ فِيما لا يَنْبَغِي؛ ولا يَحْسُنُ؛ مَعَ إمْكانِهِ؛ ومِنهُ قَوْلُ الصِدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: "ما كانَ لِابْنِ أبِي قُحافَةَ أنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ".
ثُمَّ قالَ: ﴿إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ ؛ فَوَفَّقَ اللهُ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - لِهَذِهِ الحُجَّةِ البالِغَةِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي﴾ ؛ بِإحاطَةِ اللهِ بِهِ؛ وخَصَّ النَفْسَ بِالذِكْرِ لِأنَّها مَظِنَّةُ الكَتْمِ والِانْطِواءِ عَلى المَعْلُوماتِ؛ والمَعْنى إنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما في نَفْسِ عِيسى ويَعْلَمُ كُلَّ أمْرِهِ؛ مِمّا عَسى ألّا يَكُونَ في نَفْسِهِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿وَلا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ﴾ ؛ مَعْناهُ: ولا أعْلَمُ ما عِنْدَكَ مِنَ المَعْلُوماتِ؛ وما أحَطْتَ بِهِ؛ وذِكْرُ النَفْسِ هُنا مُقابَلَةٌ لَفْظِيَّةٌ في اللِسانِ العَرَبِيِّ؛ يَقْتَضِيها الإيجازُ؛ وهَذا يَنْظُرُ مِن طَرَفٍ خَفِيٍّ إلى قَوْلِهِ: (p-٣٠٥)﴿وَمَكَرُوا ومَكَرَ اللهُ﴾ [آل عمران: ٥٤] ؛ ﴿اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] ؛ فَتَسْمِيَةُ العُقُوبَةِ بِاسْمِ الذَنْبِ إنَّما قادَ إلَيْها طَلَبُ المُقابَلَةِ اللَفْظِيَّةِ؛ إذْ هي مِن فَصِيحِ الكَلامِ؛ وبارِعِ العِبارَةِ؛ ثُمَّ أقَرَّ - عَلَيْهِ السَلامُ - لِلَّهِ تَعالى بِأنَّهُ عَلّامُ الغُيُوبِ؛ والمَعْنى: "وَلا عِلْمَ لِي أنا بِغَيْبٍ؛ فَكَيْفَ تَكُونُ لِيَ الأُلُوهِيَّةُ؟"؛ ثُمَّ أخْبَرَ عَمّا صَنَعَ في الدُنْيا؛ وقالَ في تَبْلِيغِهِ؛ وهو أنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ أمْرَ اللهِ في أنْ أمَرَهم بِعِبادَتِهِ ؛ وأقَرَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ؛ و"أنْ"؛ في قَوْلِهِ: ﴿أنِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ ؛ مُفَسِّرَةٌ؛ لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ؛ ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ بَدَلًا مِن "ما"؛ ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ؛ عَلى تَقْدِيرِ: "بِأنِ اعْبُدُوا اللهَ"؛ ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَمِيرِ في "بِهِ".
ثُمَّ أخْبَرَ - عَلَيْهِ السَلامُ - أنَّهُ كانَ شَهِيدًا ما دامَ فِيهِمْ في الدُنْيا؛ فَـ "ما"؛ ظَرْفِيَّةٌ.
وقَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ ؛ أيْ: قَبَضْتَنِي إلَيْكَ بِالرَفْعِ؛ والتَصْيِيرِ في السَماءِ؛ و"اَلرَّقِيبُ": اَلْحافِظُ المُراعِي.
{"ayahs_start":116,"ayahs":["وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِی وَأُمِّیَ إِلَـٰهَیۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَـٰنَكَ مَا یَكُونُ لِیۤ أَنۡ أَقُولَ مَا لَیۡسَ لِی بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِی نَفۡسِی وَلَاۤ أَعۡلَمُ مَا فِی نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُیُوبِ","مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَاۤ أَمَرۡتَنِی بِهِۦۤ أَنِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ رَبِّی وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَیۡهِمۡ شَهِیدࣰا مَّا دُمۡتُ فِیهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّیۡتَنِی كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِیبَ عَلَیۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ"],"ayah":"وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِی وَأُمِّیَ إِلَـٰهَیۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَـٰنَكَ مَا یَكُونُ لِیۤ أَنۡ أَقُولَ مَا لَیۡسَ لِی بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِی نَفۡسِی وَلَاۤ أَعۡلَمُ مَا فِی نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُیُوبِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق