الباحث القرآني
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -:
﴿قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَماءِ تَكُونُ لَنا عِيدًا لأوَّلِنا وآخِرِنا وآيَةً مِنكَ وارْزُقْنا وأنْتَ خَيْرُ الرازِقِينَ﴾ ﴿قالَ اللهُ إنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكم فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكم فَإنِّي أُعَذِّبُهُ عَذابًا لا أُعَذِّبُهُ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ﴾
ذَكَرَ اللهُ تَعالى عن عِيسى أنَّهُ أجابَهم إلى دُعاءِ اللهِ في أمْرِ المائِدَةِ؛ فَرُوِيَ أنَّهُ لَبِسَ جُبَّةَ شَعْرٍ؛ ورِداءَ شَعْرٍ؛ وقامَ يُصَلِّي؛ ويَبْكِي؛ ويَدْعُو.
و﴿ "اللهُمَّ"؛﴾ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أصْلُها: "يا اَللَّهُ"؛ فَجُعِلَتِ المِيمانِ بَدَلًا مِن "يا"؛ و"رَبَّنا"؛ مُنادًى آخَرُ؛ ولا يَكُونُ صِفَةً؛ لِأنَّ "اَللَّهُمَّ"؛ يُجْرى مُجْرى الأصْواتِ؛ مِن أجْلِ ما لَحِقَهُ مِنَ التَغْيِيرِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ "تَكُونُ لَنا"؛﴾ عَلى الصِفَةِ لِلْمائِدَةِ؛ وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ ؛ والأعْمَشُ: "تَكُنْ لَنا"؛ عَلى جَوابِ "أنْزِلْ".
و"اَلْعِيدُ": اَلْمُجْتَمَعُ؛ واليَوْمُ المَشْهُودُ؛ وعُرْفُهُ أنْ يُقالَ فِيما يَسْتَدِيرُ بِالسَنَةِ؛ أو بِالشَهْرِ؛ والجُمُعَةِ؛ ونَحْوِهِ؛ وهو مِن "عادَ؛ يَعُودُ"؛ فَأصْلُهُ الواوُ؛ ولَكِنْ لَزِمَتْهُ الياءُ مِن أجْلِ كَسْرَةِ العَيْنِ.
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "لِأوَّلِنا وآخِرِنا"؛ وقَرَأ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ ؛ وابْنُ مُحَيْصِنٍ؛ والجَحْدَرِيُّ: "لِأُولانا وأُخْرانا".
واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في مَعْنى ذَلِكَ؛ فَقالَ السُدِّيُّ ؛ وقَتادَةُ ؛ وابْنُ جُرَيْجٍ ؛ وسُفْيانُ: "لِأوَّلِنا"؛ مَعْناهُ: لِأوَّلِ الأُمَّةِ؛ ثُمَّ لِمَن بَعْدَهُمْ؛ حَتّى لِآخِرِها؛ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا؛ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - أنَّ المَعْنى: (p-٣٠٢)"يَكُونُ مُجْتَمَعًا لِجَمِيعِنا؛ أوَّلِنا؛ وآخِرِنا"؛ قالَ: وأكَلَ مِنَ المائِدَةِ حِينَ وُضِعَتْ أوَّلُ الناسِ؛ كَما أكَلَ آخِرُهم.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: فالعِيدُ - عَلى هَذا - لا يُرادُ بِهِ المُسْتَدِيرُ.
وقَوْلُهُ: ﴿ "وَآيَةً مِنكَ"؛﴾ أيْ: عَلامَةً عَلى صِدْقِي؛ وتَشْرِيفِي؛ فَأجابَ اللهُ دَعْوَةَ عِيسى؛ وقالَ: ﴿إنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ﴾ ؛ ثُمَّ شَرَطَ عَلَيْهِمْ شَرْطَهُ المُتَعارَفَ في الأُمَمِ؛ أنَّهُ مَن كَفَرَ بَعْدَ آيَةِ الِاقْتِراحِ عُذِّبَ أشَدَّ عَذابٍ.
وقَرَأ نافِعٌ ؛ وابْنُ عامِرٍ ؛ وعاصِمٌ: "إنِّي مُنَزِّلُها"؛ بِفَتْحِ النُونِ؛ وشَدِّ الزايِ؛ وقَرَأ الباقُونَ: "مُنْزِلُها"؛ بِسُكُونِ النُونِ؛ والقِراءَتانِ مُتَّجَهَتانِ؛ "نَزَلَ"؛ و"أنْزَلَ"؛ بِمَعْنًى واحِدٍ؛ وقَرَأ الأعْمَشُ ؛ وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "قالَ اللهُ إنِّي سَأُنْزِلُها عَلَيْكُمْ".
واخْتَلَفَ الناسُ في نُزُولِ المائِدَةِ؛ فَقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ؛ ومُجاهِدٌ: إنَّهم لَمّا سَمِعُوا الشَرْطَ في تَعْذِيبِ مَن كَفَرَ اسْتَعْفَوْها؛ فَلَمْ تَنْزِلْ؛ قالَ مُجاهِدٌ: فَهو مِثْلُ ضَرْبِهِ اللهُ تَعالى لِلنّاسِ لِئَلّا يَسْألُوا هَذِهِ الآياتِ؛ وقالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: نَزَلَتِ المائِدَةُ؛ ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الرِواياتُ في كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ؛ فَرَوى الشَعْبِيُّ عن أبِي عَبْدِ الرَحْمَنِ السُلَمِيِّ قالَ: نَزَلَتِ المائِدَةُ خُبْزًا؛ وسَمَكًا؛ وقالَ عَطِيَّةُ: اَلْمائِدَةُ سَمَكَةٌ فِيها طَعْمُ كُلِّ طَعامٍ؛ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَ خُوانٌ عَلَيْهِ خُبْزٌ وسَمَكٌ؛ يَأْكُلُونَ مِنهُ أيْنَما نَزَلُوا؛ إذا شاؤُوا؛ وقالَهُ وهْبُ بْنُ مُنْبِهٍ ؛ قالَ إسْحاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: نَزَلَتِ المائِدَةُ عَلَيْها سَبْعَةُ أرْغِفَةٍ؛ وسَبْعَةُ أحْواتٍ؛ قالَ: فَسَرَقَ مِنها بَعْضُهُمْ؛ فَرُفِعَتْ؛ وقالَ عَمّارُ بْنُ ياسِرٍ: سَألُوا عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - مائِدَةً يَكُونُ عَلَيْها طَعامٌ لا يَنْفَدُ؛ فَقِيلَ لَهُمْ: فَإنَّها مُقِيمَةٌ لَكُمْ؛ ما لَمْ تُخَبِّئُوا؛ أو تَخُونُوا؛ فَإنْ فَعَلْتُمْ عُذِّبْتُمْ؛ قالَ: فَما مَضى يَوْمٌ حَتّى خَبَّؤُوا؛ وخانُوا؛ فَمُسِخُوا قِرَدَةً وخَنازِيرَ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - في المائِدَةِ أيْضًا -: كانَ طَعامًا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ حَيْثُما نَزَلُوا؛ وقالَ عَمّارُ بْنُ ياسِرٍ: نَزَلَتِ المائِدَةُ عَلَيْها ثِمارٌ مِن ثِمارِ الجَنَّةِ؛ وقالَ مَيْسَرَةُ: كانَتِ المائِدَةُ إذا وُضِعَتْ لِبَنِي إسْرائِيلَ اخْتَلَفَتْ عَلَيْها الأيْدِي بِكُلِّ طَعامٍ؛ إلّا اللَحْمَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وكَثَّرَ الناسُ في قَصَصِ هَذِهِ المائِدَةِ بِما رَأيْتُ اخْتِصارَهُ لِعَدَمِ سَنَدِهِ؛ وقالَ قَوْمٌ: لا يَصِحُّ ألّا تُنَزَّلَ المائِدَةُ؛ لِأنَّ اللهَ تَعالى أخْبَرَ أنَّهُ مُنْزِلُها.
(p-٣٠٣)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا غَيْرُ لازِمٍ؛ لِأنَّ الخَبَرَ مَقْرُونٌ بِشَرْطٍ يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ﴾ ؛ وسائِغٌ ما قالَ الحَسَنُ؛ أما إنَّ الجُمْهُورَ عَلى أنَّها نَزَلَتْ؛ وكَفَرَتْ جَماعَةٌ مِنهُمْ؛ فَمَسَخَهُمُ اللهُ خَنازِيرَ؛ قالَهُ قَتادَةُ ؛ وغَيْرُهُ؛ وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عنهُما -: أشَدُّ الناسِ عَذابًا يَوْمَ القِيامَةِ مَن كَفَرَ مِن أصْحابِ المائِدَةِ؛ والمُنافِقُونَ؛ وآلُ فِرْعَوْنَ؛ ويُذْكَرُ أنَّ شَمْعُونَ؛ رَأْسَ الحَوارِيِّينَ؛ قالَ لِعِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - حِينَ رَأى طَعامَ المائِدَةِ: يا رُوحَ اللهِ؛ أمِن طَعامِ الدُنْيا هُوَ؛ أمْ مِن طَعامِ الآخِرَةِ؟ قالَ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ -: "ألَمْ يَنْهَكُمُ اللهُ عن هَذِهِ السُؤالاتِ؟ هَذا طَعامٌ لَيْسَ مِن طَعامِ الدُنْيا؛ ولا مِن طَعامِ الآخِرَةِ؛ بَلْ هو بِالقُدْرَةِ الغالِبَةِ؛ قالَ اللهُ لَهُ: كُنْ؛ فَكانَ"؛ ورُوِيَ أنَّهُ كانَ عَلى المائِدَةِ بُقُولٌ؛ سِوى الثُومِ؛ والكُرّاثِ؛ والبَصَلِ؛ وقِيلَ: كانَ عَلَيْها زَيْتُونٌ؛ وتَمْرٌ؛ وحَبٌّ؛ ورُمّانٌ.
{"ayahs_start":114,"ayahs":["قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَاۤ أَنزِلۡ عَلَیۡنَا مَاۤىِٕدَةࣰ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ تَكُونُ لَنَا عِیدࣰا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَایَةࣰ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰزِقِینَ","قَالَ ٱللَّهُ إِنِّی مُنَزِّلُهَا عَلَیۡكُمۡۖ فَمَن یَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّیۤ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابࣰا لَّاۤ أُعَذِّبُهُۥۤ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَاۤ أَنزِلۡ عَلَیۡنَا مَاۤىِٕدَةࣰ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ تَكُونُ لَنَا عِیدࣰا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَایَةࣰ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰزِقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق