الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿إذْ قالَ اللهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعَلى والِدَتِكَ إذْ أيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ الناسَ في المَهْدِ وكَهْلا وإذْ عَلَّمْتُكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَوْراةَ والإنْجِيلَ وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِينِ كَهَيْئَةِ الطَيْرِ بِإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْرًا بِإذْنِي وتُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ بِإذْنِي وإذْ تُخْرِجُ المَوْتى بِإذْنِي وإذْ كَفَفْتُ بَنِي إسْرائِيلَ عنكَ إذْ جِئْتَهم بِالبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم إنْ هَذا إلا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ العامِلُ في "إذْ" فِعْلًا مُضْمَرًا؛ تَقْدِيرُهُ: "اُذْكُرْ يا مُحَمَّدُ إذْ جِئْتَهم (p-٢٩٥)بِالبَيِّناتِ؛ و"قالَ"؛ هُنا بِمَعْنى: "يَقُولُ"؛ لِأنَّ ظاهِرَ هَذا القَوْلِ أنَّهُ في القِيامَةِ؛ تَقْدِمَةً لِقَوْلِهِ: ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦] ؛ وذَلِكَ كُلُّهُ أحْكامٌ لِتَوْبِيخِ الَّذِينَ يُتَحَصَّلُونَ كافِرِينَ بِاللهِ في ادِّعائِهِمْ أُلُوهِيَّةَ عِيسى. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "إذْ"؛ بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ﴾ [المائدة: ١٠٩]. ونِعْمَةُ اللهِ عَلى عِيسى هي بِالنُبُوَّةِ؛ وسائِرِ ما ذُكِرَ؛ وما عُلِمَ مِمّا لا تُحْصى؛ وعُدِّدَتْ عَلَيْهِ النِعْمَةُ عَلى أُمَّهُ إذْ هي نِعْمَةٌ صائِرَةٌ إلَيْهِ؛ وبِسَبَبِهِ كانَتْ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "أيَّدْتُكَ"؛﴾ بِتَشْدِيدِ الياءِ؛ وقَرَأ مُجاهِدٌ ؛ وابْنُ مُحَيْصِنٍ: "آيَدْتُكَ"؛ عَلى وزْنِ "فاعَلْتُكَ"؛ ويَظْهَرُ أنَّ الأصْلَ في القِراءَتَيْنِ "أيَّدْتُكَ"؛ عَلى وزْنِ "أفْعَلْتُكَ"؛ ثُمَّ اخْتَلَفَ الإعْلالُ؛ والمَعْنى فِيهِما: "قَوَّيْتُكَ"؛ مِن "اَلْأيْدُ"؛ وقالَ عَبْدُ المُطَّلِبِ: ؎ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الأعَزِّ الأكْرَمْ ∗∗∗ أيَّدَنا يَوْمَ زُحُوفِ الأشْرَمْ ورُوحُ القُدُسِ هو جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ وقَوْلُهُ: ﴿ "فِي المَهْدِ"﴾ حالٌ؛ كَأنَّهُ قالَ: صَغِيرًا؛ "وَكَهْلًا" حالَ أيْضًا مَعْطُوفَةٌ عَلى الأوَّلِ؛ ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿دَعانا لِجَنْبِهِ أو قاعِدًا أو قائِمًا﴾ [يونس: ١٢] ؛ والكُهُولَةٌ مِنَ الأرْبَعِينَ إلى الخَمْسِينَ؛ وقِيلَ: هي مِن ثَلاثَةٍ وثَلاثِينَ؛ و"اَلْكِتابَ"؛ في هَذِهِ الآيَةِ: مَصْدَرُ "كَتَبَ؛ يَكْتُبُ"؛ أيْ: "عَلَّمْتُكَ الخَطَّ"؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ اسْمَ جِنْسٍ في صُحُفِ إبْراهِيمَ ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ؛ ثُمَّ خَصَّ بَعْدَ ذَلِكَ التَوْراةَ والإنْجِيلَ بِالذِكْرِ؛ تَشْرِيفًا. "والحِكْمَةُ" هي الفَهْمُ؛ والإدْراكُ في أُمُورِ الشَرْعِ؛ وقَدْ وهَبَ اللهُ الأنْبِياءَ مِنها ما هم بِهِ مُخْتَصُّونَ؛ مَعْصُومُونَ؛ لا يَنْطِقُونَ عن هَوًى. قَوْلُهُ تَعالى: "وَإذْ"؛ في هَذِهِ الآيَةِ؛ حَيْثُما تَكَرَّرَتْ؛ فَهي عَطْفٌ عَلى الأُولى الَّتِي عَمِلَتْ فِيها "نِعْمَتِي". و"تَخْلُقُ" مَعْناهُ: تُقَدِّرُ؛ وتُهَيِّئُ تَقْدِيرًا مُسْتَوِيًا؛ مُتْقَنًا؛ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ولَأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبَعْـ ∗∗∗ ∗∗∗ ـضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي (p-٢٩٦)أيْ: يُهَيِّئُ؛ ويُقَدِّرُ لِيَعْمَلَ ويُكْمِلَ؛ ثُمَّ لا يَفْعَلُ؛ ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ مَن كانَ يَخْلُقُ ما يَقُو ∗∗∗ ∗∗∗ لُ فَحِيلَتِي فِيهِ قَلِيلَةْ وكانَ عِيسى - عَلَيْهِ السَلامُ - يُصَوِّرُ مِنَ الطِينِ أمْثالَ الخَفافِيشِ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيها أمامَ الناسِ؛ فَتَحْيا؛ وتَطِيرُ بِإذْنِ اللهِ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ هَذا القَصَصُ في "آلِ عِمْرانَ ". وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "كَهَيْئَةِ" بِالهَمْزِ؛ وهو مَصْدَرٌ مِن قَوْلِهِمْ: "هاءَ الشَيْءُ؛ يَهاءُ"؛ إذا ثَبَتَ؛ واسْتَقَرَّ عَلى أمْرٍ حَسَنٍ؛ قالَ اللِحْيانِيُّ: ويُقالُ "يَهِيءُ"؛ وقَرَأ الزُهْرِيُّ: "كَهَيَّةِ"؛ بِتَشْدِيدِ الياءِ؛ مِن غَيْرِ هَمْزٍ؛ وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ: "كَهَيْئَةِ الطائِرِ". والإذْنُ في هَذِهِ الآيَةِ - كَيْفَ تَكَرَّرَ - مَعْناهُ: اَلتَّمْكِينُ؛ مَعَ العِلْمِ بِما يُصْنَعُ؛ وما يُقْصَدُ مِن دُعاءِ الناسِ إلى الإيمانِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "فَتَنْفُخُ فِيها"؛﴾ هو النَفْخُ المَعْرُوفُ مِنَ البَشَرِ؛ وإنَّما جَعَلَ اللهُ الأمْرَ هَكَذا لِيَظْهَرَ تَلَبُّسُ عِيسى بِالمُعْجِزَةِ؛ وصُدُورُها مِنهُ؛ وهَذا كَطَرْحِ مُوسى - عَلَيْهِ السَلامُ - العَصا؛ وكَإيرادِ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - القُرْآنَ؛ وهَذا أحَدُ شُرُوطِ المُعْجِزاتِ؛ وقَوْلُهُ: "فِيها"؛ بِضَمِيرِ مُؤَنَّثٍ؛ مَعَ مَجِيءِ ذَلِكَ في "آلِ عِمْرانَ ": ﴿فَأنْفُخُ فِيهِ﴾ [آل عمران: ٤٩] ؛ بِضَمِيرِ مُذَكَّرٍ؛ مَوْضِعٌ قَدِ اضْطَرَبَ المُفَسِّرُونَ فِيهِ؛ قالَ مَكِّيٌّ: هو في "آلِ عِمْرانَ "؛ عائِدٌ عَلى الطائِرِ؛ وفي "اَلْمائِدَةِ"؛ عائِدٌ عَلى الهَيْئَةِ؛ قالَ: ويَصِحُّ عَكْسُ هَذا؛ وقالَ غَيْرُهُ: اَلضَّمِيرُ المُذَكَّرُ عائِدٌ عَلى الطِينِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ولا يَصِحُّ عَوْدُ هَذا الضَمِيرِ؛ لا عَلى الطَيْرِ؛ ولا عَلى الطِينِ؛ ولا عَلى الهَيْئَةِ؛ لِأنَّ الطِينَ؛ والطائِرَ الَّذِي يَجِيءُ الطِينُ عَلى هَيْئَتِهِ؛ لا نَفْخَ فِيهِ البَتَّةَ؛ وكَذَلِكَ لا نَفْخَ في هَيْئَتِهِ الخاصَّةِ بِجَسَدِهِ؛ وهي المَذْكُورَةُ في الآيَةِ؛ وكَذَلِكَ الطِينُ المَذْكُورُ في الآيَةِ إنَّما هو الطِينُ العامُّ؛ ولا نَفْخَ في ذَلِكَ؛ وإنَّما النَفْخُ في الصُوَرِ المَخْصُوصَةِ مِنهُ؛ الَّتِي رَتَّبَتْها يَدُ عِيسى - عَلَيْهِ (p-٢٩٧)السَلامُ -؛ فالوَجْهُ أنْ يُقالَ في عَوْدِ الضَمِيرِ المُؤَنَّثِ: إنَّهُ عائِدٌ عَلى ما تَقْتَضِيهِ الآيَةُ ضَرُورَةً؛ وذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِينِ كَهَيْئَةِ الطَيْرِ﴾ ؛ يَقْتَضِي صُوَرًا؛ أو أجْسامًا؛ أو أشْكالًا؛ وكَذَلِكَ الضَمِيرُ المُذَكَّرُ يَعُودُ عَلى المَخْلُوقِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ "تَخْلُقُ"؛ ولَكَ أنْ تُعِيدَهُ عَلى ما تَدُلُّ عَلَيْهِ الكافُ في مَعْنى المِثْلِ؛ لِأنَّ المَعْنى: "وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِينِ مِثْلَ هَيْئَتِهِ". ولَكَ أنْ تُعِيدَ الضَمِيرَ عَلى الكافِ نَفْسِهِ؛ فِيمَن يُجَوِّزُ أنْ يَكُونَ اسْمًا في غَيْرِ الشِعْرِ؛ وتَكُونُ الكافُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ المُرادِ؛ تَقْدِيرُهُ: "وَإذْ تَخْلُقُ خَلْقًا مِنَ الطِينِ كَهَيْئَةِ الطَيْرِ". وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبّاسٍ: "كَهَيْئَةِ الطَيْرِ فَتَنْفُخُها فَيَكُونُ"؛ وقَرَأ الجُمْهُورُ: "فَتَكُونُ"؛ بِالتاءِ؛ مِن فَوْقُ؛ وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ: "فِيها فَيَكُونُ"؛ بِالياءِ مِن تَحْتُ؛ وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ: "فَتَكُونَ طائِرًا"؛ وقَرَأ الباقُونَ: "طَيْرًا"؛ بِغَيْرِ ألِفٍ؛ والقِراءَتانِ مُسْتَفِيضَتانِ في الناسِ؛ فَـ "اَلطَّيْرُ": جَمْعُ "طائِرٌ"؛ كَـ "تاجِرٌ"؛ و"تَجْرٌ"؛ و"صاحِبٌ"؛ و"صَحْبٌ"؛ و"راكِبٌ"؛ و"رَكْبٌ"؛ والطائِرُ: اِسْمٌ مُفْرَدٌ؛ والمَعْنى عَلى قِراءَةِ نافِعٍ: "فَتَكُونُ كُلُّ قِطْعَةٍ مِن تِلْكَ المَخْلُوقاتِ طائِرًا". قالَ أبُو عَلِيٍّ: ولَوْ قالَ قائِلٌ: إنَّ الطائِرَ قَدْ يَكُونُ جَمْعًا؛ كَـ "اَلْحامِلُ"؛ و"الباقِرُ"؛ فَيَكُونُ عَلى هَذا مَعْنى القِراءَتَيْنِ واحِدًا؛ لَكانَ قِياسًا؛ ويُقَوِّي ذَلِكَ ما حَكاهُ أبُو الحَسَنِ مِن قَوْلِهِمْ: "طائِرَةٌ"؛ فَيَكُونُ مِن بابِ: "شَعِيرَةٌ" و"شَعِيرٌ"؛ و"تَمْرَةٌ"؛ و"تَمْرٌ". وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في الأكْمَهِ؛ والأبْرَصِ؛ وفي قَصَصِ إحْيائِهِ المَوْتى في "آلِ عِمْرانَ "؛ و﴿تُخْرِجُ المَوْتى﴾ ؛ مَعْناهُ: مِن قُبُورِهِمْ؛ وكَفُّ بَنِي إسْرائِيلَ عنهُ - عَلَيْهِ السَلامُ - هو رَفْعُهُ؛ حِينَ أحاطُوا بِهِ في البَيْتِ مَعَ الحَوارِيِّينَ؛ ومِن أوَّلِ ما مَنَعَهُ اللهُ مِنهم هو الكَفُّ؛ إلى تِلْكَ النازِلَةِ الآخِرَةِ؛ فَهُنالِكَ ظَهَرَ عِظَمُ الكَفِّ؛ والبَيِّناتُ: هي مُعْجِزاتُهُ؛ وإنْجِيلُهُ؛ وجَمِيعُ ما جاءَ بِهِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ؛ وعاصِمٌ - هُنا؛ وفي "هُودٍ"؛ و"اَلصَّفِّ" -: ﴿ "إلا سِحْرٌ"؛﴾ بِغَيْرِ ألِفٍ؛ وقَرَأ حَمْزَةُ ؛ والكِسائِيُّ - في المَواضِعِ الأرْبَعَةِ -: "ساحِرٌ"؛ بِألِفٍ؛ فَمَن قَرَأ "سِحْرٌ"؛ جَعَلَ الإشارَةَ إلى البَيِّناتِ؛ والحَدِيثِ؛ وما جاءَ بِهِ؛ ومَن قَرَأ "ساحِرٌ"؛ جَعَلَ الإشارَةَ إلى الشَخْصِ؛ إذْ هو ذُو سِحْرٍ عِنْدَهُمْ؛ وهَذا مُطَّرِدٌ في القُرْآنِ كُلِّهِ؛ حَيْثُما ورَدَ هَذا الخِلافُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب