الباحث القرآني
(p-٢٧٥)قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -:
﴿ما جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ ولا سائِبَةٍ ولا وصِيلَةٍ ولا حامٍ ولَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلى اللهُ الكَذِبَ وأكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ ﴿وَإذا قِيلَ لَهم تَعالَوْا إلى ما أنْزَلَ اللهُ وإلى الرَسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أوَلَوْ كانَ آباؤُهم لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا ولا يَهْتَدُونَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ إلى اللهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
لَمّا سَألَ قَوْمٌ عن هَذِهِ الأحْكامِ الَّتِي كانَتْ في الجاهِلِيَّةِ: هَلْ تُلْحَقُ بِحُكْمِ اللهِ في تَعْظِيمِ الكَعْبَةِ والحَرَمِ؟ أخْبَرَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا مِنها؛ ولا سَنَّهُ لِعِبادِهِ؛ المَعْنى: "وَلَكِنَّ الكُفّارَ فَعَلُوا ذَلِكَ؛ إذْ أكابِرُهم ورُؤَساؤُهُمْ؛ كَعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ؛ وغَيْرِهِ؛ يَفْتَرُونَ عَلى اللهِ الكَذِبَ؛ ويَقُولُونَ: هَذِهِ قُرْبَةٌ إلى اللهِ وأمْرٌ يُرْضِيهِ؛ وأكْثَرُهم - يَعْنِي الأتْباعَ - لا يَعْقِلُونَ؛ بَلْ يَتَّبِعُونَ هَذِهِ الأُمُورَ تَقْلِيدًا؛ وضَلالًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ"؛ و"جَعَلَ"؛ في هَذِهِ الآيَةِ لا يُتَّجَهُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى: "خَلَقَ اللهُ"؛ لِأنَّ اللهَ تَعالى خَلَقَ هَذِهِ الأشْياءَ كُلَّها؛ ولا هي بِمَعْنى: "صَيَّرَ"؛ لِعَدَمِ المَفْعُولِ الثانِي؛ وإنَّما هي بِمَعْنى: "ما سَنَّ؛ ولا شَرَعَ"؛ فَتَعَدَّتْ تَعَدِّيَ هَذا الَّذِي هي بِمَعْناهُ إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ.
والبَحِيرَةُ: "فَعِيلَةٌ"؛ بِمَعْنى "مَفْعُولَةٌ"؛ و"بَحَرَ": شَقَّ؛ كانُوا إذا أنْتَجَتِ الناقَةُ عَشَرَةَ بُطُونٍ؛ شَقُّوا أُذُنَها بِنِصْفَيْنِ؛ طُولًا؛ فَهي مَبْحُورَةٌ؛ وتُرِكَتْ تَرْعى؛ وتَرِدُ الماءَ؛ ولا يُنْتَفَعُ مِنها بِشَيْءٍ؛ ويَحْرُمُ لَحْمُها - إذا ماتَتْ - عَلى النِساءِ؛ ويَحِلُّ لِلرِّجالِ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما -: كانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِها إذا أنْتَجَتْ خَمْسَةَ بُطُونٍ؛ وقالَ مَسْرُوقٌ: إذا ولَدَتْ خَمْسًا؛ أو سَبْعًا؛ شَقُّوا أُذُنَها.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ويَظْهَرُ مِمّا يُرْوى في هَذا أنَّ العَرَبَ كانَتْ تَخْتَلِفُ في المَبْلَغِ الَّذِي تُبْحَرُ عِنْدَهُ آذانُ النُوقِ؛ فَلِكُلٍّ سُنَّةٌ؛ وهي كُلُّها ضَلالٌ؛ قالَ ابْنُ سِيدَةَ: ويُقالُ: اَلْبَحِيرَةُ هي الَّتِي خُلِّيَتْ بِلا راعٍ؛ ويُقالُ لِلنّاقَةِ الغَزِيرَةِ: "بَحِيرَةٌ".
(p-٢٧٦)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: أرى أنَّ البَحِيرَةَ تَصْلُحُ؛ وتَسْمَنُ؛ ويَغْزُرُ لَبَنُها؛ فَتُشَبَّهُ الغَزِيراتُ بِالبَحْرِ؛ وعَلى هَذا يَجِيءُ قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ:
؎ فِيهِ مِنَ الأخْرَجِ المُرْتاعِ قَرْقَرَةٌ ∗∗∗ هَدْرَ الدَيامِيِّ وسْطَ الهَجْمَةِ البُحُرِ
فَإنَّما يُرِيدُ النُوقَ العِظامَ؛ وإنْ لَمْ تَكُنْ مُشَقَّقَةَ الآذانِ.
ورَوى الشَعْبِيُّ ؛ «عن أبِي الأحْوَصِ ؛ عن أبِيهِ قالَ: دَخَلْتُ عَلى النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَقالَ لِي: "أرَأيْتَ إبِلَكَ؟ ألَسْتَ تُنْتِجُها مُسَلَّمَةً آذانُها؛ فَتَأْخُذُ المُوسى فَتَقْطَعُ آذانَها؛ فَتَقُولُ: هَذِهِ بُحُرٌ؛ وتَقْطَعُ جُلُودَها؛ فَتَقُولُ: هَذِهِ صُرُمٌ؛ فَتُحَرِّمُها عَلَيْكَ وعَلى أهْلِكَ؟"؛ قالَ: نَعَمْ؛ قالَ: "فَإنَّ ما آتاكَ اللهُ لَكَ حِلٌّ؛ وساعِدُ اللهِ أشَدُّ؛ ومُوسى اللهِ أحَدُّ".»
والسائِبَةُ: هي الناقَةُ الَّتِي تُسَيَّبُ لِلْآلِهَةِ؛ والناقَةُ أيْضًا إذا تابَعَتِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ إناثًا؛ لَيْسَ فِيهِنَّ ذَكَرٌ؛ سُيِّبَتْ؛ «وَقالَ رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لِأكْثَمَ بْنِ الجَوْنِ الخُزاعِيِّ: "يا أكْثَمُ؛ رَأيْتَ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خَنْدَقٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ في النارِ؛ فَما رَأيْتُ أشْبَهَ بِهِ مِنكَ"؛ قالَ أكْثَمُ: أيَضُرُّنِي شَبَهُهُ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: "لا؛ إنَّكَ مُؤْمِنٌ؛ وإنَّهُ كافِرٌ؛ هو أوَّلُ مَن غَيَّرَ دِينَ إسْماعِيلَ - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ ونَصَبَ الأوثانَ؛ وسَيَّبَ السَوائِبَ"؛» وكانَتِ السَوائِبُ أيْضًا في العَرَبِ كالقُرْبَةِ عِنْدَ المَرَضِ يُبْرَأُ مِنهُ؛ والقُدُومِ مِنَ السَفَرِ؛ وإذا نَزَلَ بِأحَدِهِمْ أمْرٌ (p-٢٧٧)يَشْكُرُ اللهَ عَلَيْهِ؛ تَقَرَّبَ بِأنْ يُسَيِّبَ ناقَةً؛ فَلا يُنْتَفَعُ مِنها بِلَبَنٍ؛ ولا ظَهْرٍ؛ ولا غَيْرِهِ؛ يَرَوْنَ ذَلِكَ كَعِتْقِ بَنِي آدَمَ؛ ذَكَرَهُ السُدِّيُّ وغَيْرُهُ؛ وكانَتِ العَرَبُ تَعْتَقِدُ أنَّ مَن عَرَضَ لِهَذِهِ النُوقِ فَأخَذَها؛ أوِ انْتَفَعَ مِنها بِشَيْءٍ؛ فَإنَّهُ تَلْحَقُهُ عُقُوبَةٌ مِنَ النارِ.
والوَصِيلَةُ: قالَ أكْثَرُ الناسِ: إنَّ الوَصِيلَةَ في الغَنَمِ؛ قالُوا: إذا ولَدَتِ الشاةُ ثَلاثَةَ بُطُونٍ؛ أو خَمْسَةً؛ فَإنْ كانَ آخِرُها جَدْيًا ذَبَحُوهُ لِبَيْتِ الآلِهَةِ؛ وإنْ كانَتْ عِناقًا اسْتَحْيَوْها؛ وإنْ كانَ جَدْيًا وعِناقًا اسْتَحْيَوْهُما؛ وقالُوا: هَذِهِ العِناقُ وصَلَتْ أخاها؛ فَمَنَعَتْهُ مِن أنْ يُذْبَحَ.
وعَلى أنَّ الوَصِيلَةَ في الغَنَمِ جاءَتِ الرِواياتُ عن أكْثَرِ الناسِ؛ ورُوِيَ عن سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ أنَّ الوَصِيلَةَ مِنَ الإبِلِ؛ كانَتِ الناقَةُ إذا ابْتَكَرَتْ بِأُنْثى؛ ثُمَّ ثَنَّتْ بِأُخْرى قالُوا: وصَلَتْ أُنْثَيَيْنِ؛ فَكانُوا يَجْدَعُونَها لِطَواغِيتِهِمْ؛ أو يَذْبَحُونَها؛ شَكَّ الطَبَرِيُّ في إحْدى اللَفْظَتَيْنِ.
وأمّا "اَلْحامِي"؛ فَإنَّهُ الفَحْلُ مِنَ الإبِلِ إذا ضَرَبَ في الإبِلِ عَشْرَ سِنِينَ؛ وقِيلَ: إذا وُلِدَ مِن صُلْبِهِ عَشْرٌ؛ وقِيلَ: إذا وُلِدَ مِن ولَدِ ولَدِهِ؛ قالُوا: حُمِيَ ظَهْرُهُ؛ فَسَيَّبُوهُ؛ لَمْ يُرْكَبْ؛ ولا سُخِّرَ في شَيْءٍ؛ وقالَ عَلْقَمَةُ لِمَن سَألَهُ في هَذِهِ الأشْياءِ: ما تُرِيدُ إلى شَيْءٍ كانَ مِن عَمَلِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ؛ وقَدْ ذَهَبَ؟ وقالَ نَحْوَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وجُمْلَةُ ما يَظْهَرُ مِن هَذِهِ الأُمُورِ أنَّ اللهَ تَعالى قَدْ جَعَلَ هَذِهِ الأنْعامَ رِفْقًا لِعِبادِهِ؛ ونِعْمَةً عَدَّدَها عَلَيْهِمْ؛ ومَنفَعَةً بالِغَةً؛ فَكانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَقْطَعُونَ طَرِيقَ الِانْتِفاعِ؛ ويُذْهِبُونَ (p-٢٧٨)نِعْمَةَ اللهِ فِيها؛ ويُزِيلُونَ المَصْلَحَةَ الَّتِي لِلْعِبادِ في تِلْكَ الإبِلِ؛ وبِهَذا فارَقَتْ هَذِهِ الأُمُورُ الأحْباسَ والأوقافَ؛ فَإنَّ المالِكَ الَّذِي لَهُ أنْ يَهَبَ ويَتَصَدَّقَ؛ لَهُ أنْ يَصْرِفَ المَنفَعَةَ في أيِّ طَرِيقٍ مِنَ البِرِّ؛ ولَمْ يُسْدَّ الطَرِيقَ إلَيْها جُمْلَةً؛ كَما فُعِلَ بِالبَحِيرَةِ؛ والسائِبَةِ.
وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ: لا تَجُوزُ الأحْباسُ والأوقافُ؛ وقاسُوا عَلى البَحِيرَةِ؛ والسائِبَةِ؛ والفارِقُ بَيِّنٌ؛ ولَوْ عَمَدَ رَجُلٌ إلى ضَيْعَةٍ لَهُ فَقالَ: هَذِهِ تَكُونُ حَبْسًا؛ لا يُجْتَنى ثَمَرُها؛ ولا تُزْرَعُ أرْضُها؛ ولا يُنْتَفَعُ مِنها بِنَفْعٍ؛ لَجازَ أنْ يُشَبَّهَ هَذا بِالبَحِيرَةِ؛ والسائِبَةِ؛ وأمّا الحَبْسُ البَيِّنُ طَرِيقُهُ؛ واسْتِمْرارُ الِانْتِفاعِ بِهِ؛ فَلَيْسَ مِن هَذا؛ وحَسْبُكَ بِأنَّ «النَبِيَّ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - قالَ لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - في مالٍ لَهُ: "اِجْعَلْهُ حَبْسًا؛ لا يُباعُ أصْلُهُ"؛» وحَبَسَ أصْحابُ النَبِيِّ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ المُفْتَرِينَ هُمُ المُبْتَدِعُونَ؛ وأنَّ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ هُمُ الأتْباعُ؛ وكَذَلِكَ نَصَّ الشَعْبِيُّ وغَيْرُهُ؛ وهو الَّذِي تُعْطِيهِ الآيَةُ؛ وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ أبِي مُوسى: اَلَّذِينَ كَفَرُوا وافْتَرَوْا هم أهْلُ الكِتابِ؛ والَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ هم أهْلُ الأوثانِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا تَفْسِيرُ مَنِ انْتَزَعَ ألْفاظَ آخِرِ الآيَةِ عَمّا تَقَدَّمَها؛ وارْتَبَطَ بِها مِنَ المَعْنى؛ وعَمّا تَأخَّرَ أيْضًا مِن قَوْلِهِ: ﴿ "وَإذا قِيلَ لَهُمْ"؛﴾ والأوَّلُ مِنَ التَأْوِيلَيْنِ أرْجَحُ.
والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿ "قِيلَ لَهُمْ"؛﴾ عائِدٌ عَلى الكُفّارِ المُسْتَنِّينَ بِهَذِهِ الأشْياءِ؛ و﴿ "تَعالَوْا"؛﴾ نِداءٌ بَيِّنٌ؛ هَذا أصْلُهُ؛ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ حَيْثُ البِرُّ؛ وحَيْثُ ضِدُّهُ؛ و﴿ "إلى ما أنْزَلَ اللهُ"؛﴾ يَعْنِي القُرْآنَ؛ الَّذِي فِيهِ التَحْرِيمُ الصَحِيحُ؛ و﴿ "حَسْبُنا"؛﴾ مَعْناهُ: كَفانا؛ وقَوْلُهُ: ﴿ "أوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ"؛﴾ ألِفُ التَوْقِيفِ دَخَلَتْ عَلى واوِ العَطْفِ؛ كَأنَّهم عَطَفُوا بِهَذِهِ الجُمْلَةِ عَلى (p-٢٧٩)الأُولى؛ والتَزَمُوا شَنِيعَ القَوْلِ؛ فَإنَّما التَوْقِيفُ تَوْبِيخٌ لَهُمْ؛ كَأنَّهم يَقُولُونَ بَعْدَهُ: "نَعَمْ؛ ولَوْ كانُوا كَذَلِكَ".
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ ؛ اِخْتَلَفَ الناسُ في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ؛ فَقالَ «أبُو أُمَيَّةَ الشَعْبانِيُّ: سَألْتُ أبا ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيَّ عن هَذِهِ الآيَةِ؛ فَقالَ: لَقَدْ سَألْتَ عنها خَبِيرًا؛ سَألْتُ عنها رَسُولَ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَقالَ: "اِئْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ؛ وانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ؛ فَإذا رَأيْتَ دُنْيا مُؤْثَرَةً؛ وشُحًّا مُطاعًا؛ وإعْجابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ؛ فَعَلَيْكَ بِخُوَيْصَةِ نَفْسِكَ؛ وذَرْ عَوامَّهُمْ؛ فَإنَّ وراءَكم أيّامًا أجْرُ العامِلِ فِيها كَأجْرِ خَمْسِينَ مِنكُمْ".»
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا التَأْوِيلُ الَّذِي لا نَظَرَ لِأحَدٍ مَعَهُ؛ لِأنَّهُ مُسْتَوْفٍ لِلصَّلاحِ؛ صادِرٌ عَنِ النَبِيِّ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ.
ويَظْهَرُ مِن كَلامِ أبِي بَكْرٍ الصِدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - أنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ بَعْضَ الناسِ تَأوَّلَ الآيَةَ أنَّها لا يَلْزَمُ مَعَها أمْرٌ بِمَعْرُوفٍ؛ ولا نَهْيٌ عن مُنْكَرٍ؛ فَصَعِدَ المِنبَرَ فَقالَ: "أيُّها الناسُ؛ لا تَغْتَرُّوا بِقَوْلِ اللهِ: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ ؛ فَيَقُولَ أحَدُكُمْ: عَلَيَّ نَفْسِي؛ واللهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ؛ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ؛ أو لَيُسْتَعْمَلَنَّ عَلَيْكم شِرارُكم فَلَيَسُومُنَّكم سُوءَ العَذابِ".
ورُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: لَيْسَ هَذا بِزَمانِ هَذِهِ الآيَةِ؛ قُولُوا الحَقَّ ما قُبِلَ مِنكُمْ؛ فَإذا رُدَّ عَلَيْكم فَعَلَيْكم أنْفُسَكم.
(p-٢٨٠)«وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ في بَعْضِ أوقاتِ الفِتَنِ: لَوْ تَرَكْتَ القَوْلَ في هَذِهِ الأيّامِ؛ فَلَمْ تَأْمُرْ؛ ولَمْ تَنْهَ؛ فَقالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ لَنا: "لِيُبَلِّغِ الشاهِدُ الغائِبَ"؛ ونَحْنُ شَهِدْنا؛ فَيَلْزَمُنا أنْ نُبَلِّغَكُمْ؛ وسَيَأْتِي زَمانٌ إذا قِيلَ فِيهِ الحَقُّ لَمْ يُقْبَلْ.»
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وجُمْلَةُ ما عَلَيْهِ أهْلُ العِلْمِ في هَذا أنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ مُتَعَيَّنٌ مَتى رُجِيَ القَبُولُ؛ أو رُجِيَ رَدُّ المَظالِمِ؛ ولَوْ بِعُنْفٍ؛ ما لَمْ يَخَفِ المَرْءُ ضَرَرًا يَلْحَقُهُ في خاصَّتِهِ؛ أو فِتْنَةً يُدْخِلُها عَلى المُسْلِمِينَ؛ إمّا بِشَقِّ عَصًا؛ وإمّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُ طائِفَةً مِنَ الناسِ؛ فَإذا خِيفَ هَذا فَعَلَيْكم أنْفُسَكم بِحُكْمٍ واجِبٍ أنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ.
وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ ؛ فالتَزِمُوا شَرْعَكم بِما فِيهِ مِن جِهادٍ؛ وأمْرٍ بِمَعْرُوفِ؛ وغَيْرِهِ؛ ولا يَضُرُّكم ضَلالُ أهْلِ الكِتابِ إذا اهْتَدَيْتُمْ.
وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنى الآيَةِ: "يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مِن أبْناءِ أُولَئِكَ الَّذِينَ بَحَرُوا البَحِيرَةَ؛ وسَيَّبُوا السَوائِبَ؛ عَلَيْكم أنْفُسَكم في الِاسْتِقامَةِ عَلى الدِينِ؛ ولا يَضُرُّكم ضَلالُ الأسْلافِ إذا اهْتَدَيْتُمْ"؛ قالَ: وكانَ الرَجُلُ إذا أسْلَمَ قالَ لَهُ الكُفّارُ: سَفَّهْتَ آباءَكَ؛ وضَلَّلْتَهُمْ؛ وفَعَلْتَ؛ وفَعَلْتَ؛ فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ - فِيما عَلِمْتُ -: إنَّها آيَةُ مُوادَعَةٍ لِلْكُفّارِ؛ وكَذَلِكَ يَنْبَغِي ألّا يُعارَضَ بِها شَيْءٌ مِمّا أمَرَ اللهُ بِهِ في غَيْرِ ما آيَةٍ؛ مِنَ القِيامِ بِالقِسْطِ؛ والأمْرِ بِالمَعْرُوفِ؛ قالَ المَهْدَوِيُّ: وقَدْ قِيلَ: هي مَنسُوخَةٌ بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ؛ والنَهْيِ عَنِ المُنْكَرِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا ضَعِيفٌ؛ ولا يُعْلَمُ قائِلُهُ.
وقالَ بَعْضُ الناسِ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ ارْتِدادِ بَعْضِ المُؤْمِنِينَ وافْتِتانِهِمْ؛ كابْنِ أبِي سَرْحٍ وغَيْرِهِ؛ فَقِيلَ لِلْمُؤْمِنِينَ: لا يَضُرُّكم ضَلالُهم.
(p-٢٨١)وَقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "لا يَضُرُّكُمْ"؛ بِضَمِّ الضادِ؛ وشَدِّ الراءِ المَضْمُومَةِ؛ وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "لا يَضُرْكُمْ"؛ بِضَمِّ الضادِ؛ وسُكُونِ الراءِ؛ وقَرَأ إبْراهِيمُ: "لا يَضِرْكُمْ"؛ بِكَسْرِ الضادِ؛ وهي كُلُّها لُغاتٌ؛ بِمَعْنى: "ضَرَّ؛ يَضُرُّ"؛ و"ضارَّ؛ يَضُورُ؛ ويَضِيرُ".
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلى اللهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ تَذْكِيرٌ بِالحَشْرِ؛ وما بَعْدَهُ؛ وذَلِكَ مُسَلٍّ عن أُمُورِ الدُنْيا؛ ومَكْرُوهِها؛ ومَحْبُوبِها؛ ورُوِيَ عن بَعْضِ الصالِحِينَ أنَّهُ قالَ: "ما مِن يَوْمٍ إلّا يَجِيءُ الشَيْطانُ فَيَقُولُ: ما تَأْكُلُ؟ وما تَلْبَسُ؟ وأيْنَ تَسْكُنُ؟ فَأقُولُ لَهُ: آكُلُ المَوْتَ؛ وألْبَسُ الكَفَنَ؛ وأسْكُنُ القَبْرَ".
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: فَمَن فَكَّرَ في مَرْجِعِهِ إلى اللهِ فَهَذِهِ حالُهُ.
{"ayahs_start":103,"ayahs":["مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِیرَةࣲ وَلَا سَاۤىِٕبَةࣲ وَلَا وَصِیلَةࣲ وَلَا حَامࣲ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ","وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡا۟ إِلَىٰ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُوا۟ حَسۡبُنَا مَا وَجَدۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَاۤؤُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَهۡتَدُونَ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ عَلَیۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا یَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَیۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِیعࣰا فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ"],"ayah":"مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِیرَةࣲ وَلَا سَاۤىِٕبَةࣲ وَلَا وَصِیلَةࣲ وَلَا حَامࣲ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق