الباحث القرآني

قَوْله عَزَّ وجَلَّ: ﴿يا أيُّها الناسُ إنّا خَلَقْناكم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى وجَعَلْناكم شُعُوبًا وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكم عِنْدَ اللهِ أتْقاكم إنَّ اللهِ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ ﴿قالَتِ الأعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا ولَمّا يَدْخُلِ الإيمانُ (p-٢٣)فِي قُلُوبِكم وإنْ تُطِيعُوا اللهَ ورَسُولَهُ لا يَلِتْكم مِن أعْمالِكم شَيْئًا إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن ذَكَرٍ وأُنْثى﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ آدَمَ وحَوّاءَ عَلَيْهِما السَلامُ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: إنّا خُلِقْنًا جَمِيعًا مِن آدَمَ وحَوّاءَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ الذَكَرَ والأُنْثى اسْمَ الجِنْسِ، وكَأنَّهُ تَعالى قالَ: إنّا خَلَقْنا كُلَّ واحِدٍ مِنكم مِن ماءٍ ذَكَرٍ وأُنْثى، وقَصْدُ هَذِهِ الآيَةِ التَسْوِيَةُ بَيْنَ الناسِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وَجَعَلْناكم شُعُوبًا وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا﴾، أيْ: لِئَلّا تُفاخِرُوا ويُرِيدُ بَعْضُكم أنْ يَكُونَ أكْرَمَ مِن بَعْضٍ، فَإنَّ الطَرِيقَ إلى الكَرَمِ غَيْرُ هَذا، ﴿إنَّ أكْرَمَكم عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ﴾. ورَوى أبُو بَكَرَةَ: «قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، مَن خَيْرُ الناسِ؟ قالَ: "مَن طالَ عُمْرُهُ، وحَسُنَ عَمَلُهُ"،» وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَن خَيْرُ الناسِ؟ قالَ: "آمَرُهم بِالمَعْرُوفِ، وأنْهاهم عن مُنْكَرٍ، وأوصَلُهم لِلرَّحِمِ، وأتْقاهُمْ".» وحَكى الزَهْراوِيُّ أنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ غَضَبُ الحارِثِ بْنِ هِشامٍ، وعَتّابِ بْنِ أُسِيدٍ حِينَ أذَّنَ بِلالٌ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلى الكَعْبَةِ. وحَكى الثَعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ سَبَبَها «قَوْلُ ثابِتِ بْنِ قَيْسٍ لِرَجُلٍ لَمْ يُفْسَحْ لَهُ عِنْدَ النَبِيِّ ﷺ: يا ابْنَ فُلانَةَ، فَوَبَّخَهُ النَبِيُّ ﷺ، وقالَ لَهُ: إنَّكَ لا تُفَضِّلُ أحَدًا إلّا في الدِينِ والتَقْوى، فَنَزَلَتْ (p-٢٤)هَذِهِ الآيَةُ،» ونَزَلَ الأمْرُ بِالتَفَسُّحِ في ذَلِكَ أيْضًا. و"الشُعُوبُ" جَمْعُ شَعْبٍ، وهو أعْظَمُ ما يُوجَدُ مِن جَماعاتِ الناسِ مُرْتَبِطًا بِنَسَبٍ واحِدٍ، ويَتْلُوهُ القَبِيلَةُ ثُمَّ العِمارَةُ ثُمَّ البَطْنُ ثُمَّ الفَخْذُ ثُمَّ الأُسْرَةُ والفَصِيلَةُ، وهُما قَرابَةُ الرَجُلِ الأدْنَوْنَ، فَمُضَرٌ ورَبِيعَةُ وحِمْيَرٌ شُعُوبٌ، وقَيْسٌ وتَمِيمٌ ومُذْحِجٌ ومُرادٌ قَبائِلُ، مُشَبَّهَةٌ بِقَبائِلِ الرَأْسِ لِأنَّها قِطَعٌ تَقابَلَتْ، وقُرَيْشٌ ومُحارِبُ عِماراتٌ، وبَنُو قَصِّي وبَنُو مَخْزُومٍ بُطُونٌ، وبَنُو هاشِمٍ وبَنُو أُمَيَّةَ ونَحْوُهُما أفْخاذٌ، وبَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ أُسْرَةٌ وفَصِيلَةٌ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الشُعُوبُ: الأفْخاذُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: الشُعُوبُ: البُطُونُ، وهَذا غَيْرُ ما تَمالَأ عَلَيْهِ اللُغَوِيُّونَ. قالَ الثَعْلَبِيُّ: وقِيلَ: الشُعُوبُ في العَجَمِ والقَبائِلُ في العَرَبِ والأسْباطُ في بَنِي إسْرائِيلَ، وأمّا الشَعْبُ الَّذِي في هَمْدانَ الَّذِي يُنْسَبُ إلَيْهِ الشَعْبِيُّ فَهو بَطْنٌ يُقالُ لَهُ: الشِعْبُ، وقِيلَ لِلْأُمَمِ الَّتِي لَيْسَتْ بِعَرَبٍ: "شُعُوبِيَّةٌ" نِسْبَةً إلى الشُعُوبِ، وذَلِكَ أنَّ تَفْصِيلَ أنْسابِها خَفِيَ فَلَمْ يُعْرَفْ أحَدٌ مِنهم إلّا بِأنْ يُقالَ: فارِسِيٌّ، تُرْكِيٌّ، رُومِيٌّ، فَكَأنَّهم عُرِفُوا بِشُعُوبِهِمْ وهي أعَمُّ ما يُعَبَّرُ بِهِ عن جَماعَتِهِمْ، ويُقالُ لَهُمُ الشَعُوبِيَّةُ بِفَتْحِ الشِينِ، وهَذا مِن تَغْيِيرِ النَسَبِ، وقَدْ قِيلَ فِيهِمْ غَيْرُ ما ذَكَرْتُ، وهَذا أولى عِنْدِي. وقَرَأ الأعْمَشُ: "لِتَتَعارَفُوا"، وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "لِتَعْرِفُوا أنَّ" عَلى وزْنِ "تَفْعَلُوا" بِكَسْرِ العَيْنِ وفَتْحِ الألِفِ مِن "أنَّ" وإعْمالِ "تَعْرِفُوا" فِيها، ويَحْتَمِلُ -عَلى هَذِهِ القِراءَةِ- أنْ تَكُونَ اللامُ في قَوْلِهِ تَعالى: "لِتَعْرِفُوا" لامَ "كَيْ"، ويَضْطَرِبُ مَعْنى الآيَةِ مَعَ ذَلِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لامَ الأمْرِ، وهو أجْوَدُ في المَعْنى، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (p-٢٥)المَفْعُولُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: "الحَقَّ"، وإذا كانَتْ لامَ "كَيْ" فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: يا أيُّها الناسُ أنْتُمْ سَواءٌ مِن حَيْثُ أنْتُمْ مَخْلُوقُونَ، وإنَّما جُعِلْتُمْ قَبائِلَ لِأنْ تَتَعارَفُوا ولِأنْ تَعْرِفُوا الحَقائِقَ، وأمّا الشَرَفُ والكَرَمُ فَهو بِتَقْوى اللهِ تَعالى وسَلامَةِ القُلُوبِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "لِتَعارَفُوا بَيْنَكُمْ، وخَيْرُكم عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ"، ورُوِيَ أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: « "مَن سَرَّهُ أنْ يَكُونَ أكْرَمَ الناسِ، فَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ".» ثُمَّ نَبَّهَ تَعالى عَلى الحَذَرِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ أيْ بِالمُتَّقِي الَّذِي يَسْتَحِقُّ رُتْبَةَ الكَرَمِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَتِ الأعْرابُ آمَنّا﴾، قالَ مُجاهِدٌ: نَزَلَتْ في بَنى أسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وهى قَبِيلَةٌ كانَتْ تُجاوِرُ المَدِينَةَ، وكانُوا قَدْ أظْهَرُوا الإسْلامَ، وكانَتْ نُفُوسُهم مَعَ ذَلِكَ- دَخِلَةٌ، إنَّما يُحِبُّونَ المَغانِمَ وعَرَضَ الدُنْيا، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: وذَهَبُوا مَرَّةً إلى أنْ يَتَّسِمُوا بِالمُهاجِرِينَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُسَمِّيَةً لَهم بِالأعْرابِ، مُعَرِّفَةً لَهم بِذَلِكَ أقْدارَهُمْ، ومُخْرِجَةً ما في صُدُورِهِمْ مِن صُوَرِ مُعْتَقَدِهِمْ، وهم أعْرابٌ مَخْصُوصُونَ كَما ذَكَرْنا، قالَ أبُو حاتِمٍ عَنِ ابْنِ الزُبَيْرِ: «سَمِعَ النَبِيُّ ﷺ رَجُلًا يَقْرَأُ: "قالَتِ الأعْرابُ" بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَرَدَّ عَلَيْهِ بِهَمْزِ قَطْعٍ.» وقَدْ أخْبَرَ اللهُ تَعالى أنْ يَقُولَ لِهَؤُلاءِ المُدَّعِينَ في الإيمانِ: "لَمْ تُؤْمِنُوا"، أيْ: لَمْ تُصَدِّقُوا بِقُلُوبِكُمْ، ﴿وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا﴾. والإسْلامُ يُقالُ بِمَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما الَّذِي يَعُمُّ الإيمانَ والأعْمالَ، وهو الَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الدِينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، والَّذِي في قَوْلِهِ ﷺ: « "بُنِيَ الإسْلامُ عَلى خَمْسٍ"،» والَّذِي في تَعْلِيمِ النَبِيِّ ﷺ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ حِينَ «قالَ: ما الإسْلامُ؟ (p-٢٦)قالَ: "أنْ تَعْبُدَ اللهَ وحْدَهُ ولا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وتُقِيمَ الصَلاةَ، وتُؤْتِيَ الزَكاةَ، وتَصُومَ رَمَضانَ، وتَحُجَّ البَيْتَ إنِ اسْتَطَعْتَ إلَيْهِ سَبِيلًا"،» والَّذِي في «قَوْلِهِ ﷺ لِسَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "أو مُسْلِمًا، إنِّي لَأُعْطِي الرَجُلَ وغَيْرُهُ أحَبُّ إلَيَّ مِنهُ"» الحَدِيثُ، فَهَذا الإسْلامُ لَيْسَ هو في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا﴾ والمَعْنى الثانِي لِلَفْظِ الإسْلامِ هو الِاسْتِسْلامُ والإظْهارُ الَّذِي يَسْتَعْصِمُ بِهِ ويَحْقِنُ الدَمَ، وهَذا هو الإسْلامُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا﴾، والإيمانُ الَّذِي هو التَصْدِيقُ أخَصُّ مِنَ الأوَّلِ. ثُمَّ صَرَّحَ تَعالى لَهم بِأنَّ الإيمانَ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ، ثُمَّ فَتَحَ تَعالى لَهم بابَ التَوْبَةِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وَإنْ تُطِيعُوا اللهَ ورَسُولَهُ﴾ الآيَةُ، وطاعَةُ اللهِ تَعالى ورَسُولِهِ ﷺ في ضِمْنِها الإيمانُ والأعْمالُ. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "لا يَلِتْكُمْ"، مِن "لاتَ يَلِيتُ" إذا نَقَصَ، يُقالُ: "لاتَهُ حَقَّهُ" إذا نَقَصَهُ مِنهُ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، والأعْرَجُ، والحَسَنُ، وعَمْرٌو: "لا يَأْلِتْكُمْ" مِن "ألَتَ (p-٢٧)يَأْلِتُ" وهو بِمَعْنى "لاتَ"، وكَذَلِكَ يُقالُ: "ألِتَ" بِكَسْرِ اللامِ "يَأْلِتُ"، ويُقالُ أيْضًا في مَعْنى "لاتَ: "ألَتَ يُولِتُ"، ولَمْ يَقْرَأْ بِهَذِهِ اللُغَةِ. وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ في التَرْجِيَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب