الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٌ عَسى أنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنهم ولا نِساءٌ مِن نِساءٌ عَسى أنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أنْفُسَكم ولا تَنابَزُوا بِالألْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمانِ ومَن لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظالِمُونَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَنِّ إنَّ بَعْضَ الظَنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا ولا يَغْتَبْ بَعْضُكم بَعْضًا أيُحِبُّ أحَدُكم أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ﴾ هَذِهِ الآياتُ والَّتِي بَعْدَها نَزَلَتْ في خَلْقِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّهم كانُوا يَجْرُونَ مَعَ شَهَواتِ نُفُوسِهِمْ، لَمْ يُقَوِّمْهم أمْرٌ مِنَ اللهِ تَعالى ولا نَهْيٌ، فَكانَ الرَجُلُ يَسْخَرُ ويَلْمِزُ ويَنْبِزُ بِالألْقابِ ويَظُنُّ الظُنُونَ فَيَتَكَلَّمُ بِها ويَغْتابُ ويَفْتَخِرُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن أخْلاقِ النُفُوسِ الباطِلَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَأْدِيبًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. وذَكَرَ بَعْضُ الناسِ لِهَذِهِ الآياتِ أسْبابًا، فَمِمّا قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ ﴿لا يَسْخَرْ قَوْمٌ﴾ نَزَلَتْ بِسَبَبِ عِكْرِمَةَ بْنِ أبِي جَهْلٍ، وذَلِكَ أنَّهُ كانَ يَمْشِي بِالمَدِينَةِ مُسَلَّحًا، فَقالَ لَهُ قَوْمٌ: هَذا ابْنُ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ، فَعَزَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وشَكاهُ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، والقَوِيُّ عِنْدِي أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ تَقْوِيمًا لِسائِرِ الخَلْقِ، ولَوْ تَتَبَّعْتَ الأسْبابَ لَكانَتْ أكْثَرَ مِن أنْ تُحْصى. و"يَسْخَرُ" مَعْناهُ: يَسْتَهْزِئُ، والهُزْءُ إنَّما يَتَرَتَّبُ مَتى ضَعُفَ امْرُؤٌ إمّا لِصِغَرٍ وإمّا لِعِلَّةٍ حادِثَةٍ أو لِرَزِيَّةٍ أو لِنَقِيصَةٍ يَأْتِيها، فَيُنْهِي المُؤْمِنُونَ عَنِ الِاسْتِهْزاءِ في هَذِهِ الأُمُورِ وغَيْرِها نَهْيًا عامًّا، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ المُسْتَهْزَأُ بِهِ خَيْرًا مِنَ الساخِرِ. و"القَوْمُ" في كَلامِ العَرَبِ واقِعٌ عَلى الذُكْرانِ، وهو مِن أسْماءِ الجَمْعِ كالرَهْطِ وقَوْلِ مَن قالَ: إنَّهُ مِنَ القِيامِ أو جَمْعِ قائِمٍ ضَعِيفٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ وهو زُهَيْرٌ: ؎ وما أدْرِي وسَوْفَ إخالُ أدْرِي أقْوَمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِساءُ؟ (p-١٦)وَهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي اخْتِصاصَ القَوْمِ بِالذُكْرانِ، وقَدْ يَكُونُ مَعَ الذُكْرانِ نِساءٌ فَيُقالُ لَهُمْ: "قَوْمٌ" عَلى تَغْلِيبِ حالِ الذُكُورِ، ثُمَّ نَهى تَعالى النِساءَ عَمّا نَهى عنهُ الرِجالَ مِن ذَلِكَ، وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ: "عَسَوْا أنْ يَكُونُوا"و"عَسَيْنَ أنْ يَكُنَّ". و"تَلْمِزُوا" مَعْناهُ: يَطْعَنُ بَعْضُكم عَلى بَعْضٍ بِذِكْرِ النَقائِصِ ونَحْوِهِ، وقَدْ يَكُونُ "اللَمْزُ" بِالقَوْلِ وبِالإشارَةِ ونَحْوِ هَذا مِمّا يَفْهَمُهُ آخَرُ، و"الهَمْزُ" لا يَكُونُ إلّا بِاللِسانِ، وهو مُشَبَّهٌ بِالهَمْزِ بِالعُودِ ونَحْوِهِ مِمّا يَقْتَضِي المُماسَّةَ، قالَ الشاعِرُ: ؎ ومَن هَمَزْنا عِزَّهُ تَبَرْكَعا وقِيلَ لِأعْرابِيٍّ: أتَهْمِزُ الفَأْرَةَ؟ فَقالَ: الهِرُّ يَهْمِزُها، وحَكى الثَعْلَبِيُّ أنَّ "اللَمْزَ" ما كانَ في المَشْهَدِ، وأنَّ "الهَمْزَ" ما كانَ في المَغِيبِ، وحَكى الزَهْراوِيُّ عن عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمانَ عَكْسٌ مِن ذَلِكَ، فَقالَ: الهَمْزُ أنْ تَعِيبَ بِالحَضْرَةِ واللَمْزُ في الغَيْبَةِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١]، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِنهم مَن يَلْمِزُكَ في الصَدَقاتِ،﴾ [التوبة: ٥٨] وقَرَأ الجُمْهُورُ: "تَلْمِزُوا" بِكَسْرِ المِيمِ، وقَرَأ الأعْرَجُ والحَسَنُ بِضَمِّها، قالَ أبُو عَمْرِو بْنِ العَلاءِ: هي عَرَبِيَّةٌ، قِراءَتُنا بِالضَمِّ وأحْيانًا بِالكَسْرِ، وقَوْلُهُ تَعالى: "أنْفُسَكُمْ" مَعْناهُ: بَعْضُكم بَعْضًا كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]، كَأنَّ المُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إذْ هم إخْوَةٌ فَهم كَما قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "كالجَسَدِ إذا اشْتَكى مِنهُ عُضْوٌ تَداعى سائِرُهُ بِالسَهَرِ (p-١٧)والحُمّى"،» وهم كَما قالَ أيْضًا: « "كالبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا".» و"التَنابُزُ": التَلَقُّبُ، والنَبْزُ واللَقَبُ واحِدٌ، إذِ اللَقَبُ هو ما يُعْرَفُ بِهِ الإنْسانُ مِنَ الأسْماءِ الَّتِي يَكْرَهُ سَماعَها، ورُوِيَ «أنَّ بَنِي سَلَمَةَ كانُوا قَدْ كَثُرَتْ فِيهِمُ الألْقابُ، فَدَعا رَسُولُ اللهِ ﷺ رَجُلًا مِنهم فَقالَ لَهُ: يا فُلانُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ يَغْضَبُ مِن هَذا الِاسْمِ، ثُمَّ دَعا آخِرَ كَذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في هَذا،» ولَيْسَ مِن هَذا قَوْلُ المُحَدِّثِينَ: سُلَيْمانُ الأعْمَشُ، وواصِلُ الأحْدَبُ. ونَحْوُهُ مِمّا تَدْعُو الضَرُورَةُ إلَيْهِ ولَيْسَ فِيهِ قَصْدُ اسْتِخْفافٍ وأذًى، وقَدْ قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ لِعَلْقَمَةَ: وتَقُولُ أنْتَ ذَلِكَ يا أعْوَرُ؟ وأسْنَدَ النَقّاشُ إلى عَطاءٍ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "كُفُّوا أولادَكُمْ"،» قالَ عَطاءٌ، مَخافَةُ الألْقابِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ. مَعْنى: ﴿وَلا تَنابَزُوا بِالألْقابِ﴾ أيْ: لا يَقِلُّ أحَدٌ لِآخَرَ: يا يَهُودِيُّ بَعْدَ إسْلامِهِ، ولا يا "فاسِقُ" بَعْدَ تَوْبَتِهِ، ونَحْوُ هَذا، وحَكى النَقّاشُ أنَّ (p-١٨)كَعْبَ بْنَ مالِكٍ، وابْنَ أبِي حَدْرَدٍ تَلاحَيا، فَقالَ لَهُ كَعْبٌ: يا أعْرابِيُّ، يُرِيدُ أنْ يُبْعِدَهُ مِنَ الهِجْرَةِ، فَقالَ لَهُ الآخَرُ: يا يَهُودِيُّ؛ لِمُخالَطَةِ الأنْصارِ اليَهُودَ في يَثْرِبَ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمانِ﴾ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما بِئْسَ اسْمٌ تَكْتَسِبُونَهُ بِعِصْيانِكم ونَبْزِكم بِالألْقابِ فَتَكُونُونَ فُسّاقًا بِالمَعْصِيَةِ بَعْدَ إيمانِكُمْ، والثانِي بِئْسَ ما يَقُولُ الرَجُلُ لِأخِيهِ يا فاسِقُ بَعْدَ إيمانِهِ، وقالَ الرُمّانِيُّ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَجْتَمِعُ الفُسُوقُ والإيمانُ، وهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ، ثُمَّ شَدَّدَ اللهُ تَعالى عَلَيْهِمُ النَهْيَ بِأنْ حَكَمَ بِظُلْمِ مَن لَمْ يَتُبْ ويُقْلِعْ عن هَذِهِ الأشْياءِ الَّتِي نَهى عنها. ثُمَّ أمَرَ تَبارَكَ وتَعالى المُؤْمِنِينَ بِاجْتِنابِ كَثِيرٍ مِنَ الظَنِّ، وأنْ لا يَعْمَلُوا ولا يَتَكَلَّمُوا بِحَسَبِهِ لِما في ذَلِكَ وفي التَجَسُّسِ مِنَ التَقاطُعِ والتَدارِ وحَكَمَ عَلى بَعْضِهِ أنَّهُ إثْمٌ؛ إذْ بَعْضُهُ لَيْسَ بِإثْمٍ ولا يَلْزَمُ اجْتِنابَهُ، وهو ظَنُّ الخَيْرِ بِالناسِ، وحُسْنُهُ بِاللهِ تَعالى، والمَظْنُونُ مِن شَهاداتِ الشُهُودِ، والمَظْنُونُ بِهِ مِن أهْلِ الشَرِّ، فَإنَّ ذَلِكَ سُقُوطُ عَدالَتِهِ وغَيْرِ ذَلِكَ هي مَن حُكْمِ الظَنِّ بِهِ، وظَنُّ الخَيْرِ بِالمُؤْمِنِ مَحْمُودٌ، والظَنُّ المَنهِيُّ عنهُ هو أنْ تَظُنَّ سُوءًا بِرَجُلٍ ظاهِرُهُ الصَلاحُ، بَلِ الواجِبُ يُزِيلُ الظَنَّ وحَكَمَهُ ويَتَأوَّلُ الخَيْرَ، وقالَ بَعْضُ الناسِ: "إثْمٌ" مَعْناهُ: كَذِبٌ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيُّ ﷺ: « "إيّاكم والظَنَّ فَإنَّ الظَنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ".» وقالَ بَعْضُ الناسِ: مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ بَعْضَ الظَنِّ إثْمٌ﴾ أيّ إذا تَكَلَّمَ الظانُّ أثِمَ، وما لَمْ يَتَكَلَّمْ فَهو في فُسْحَةٍ لِأنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى دَفْعِ الخَواطِرِ الَّتِي يُبِيحُها قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "الحَزْمُ سُوءُ الظَنِّ".» (p-١٩)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وما زالَ أُولُو العِلْمِ يَحْتَرِسُونَ مِن سُوءِ الظَنِّ ويَسُدُّونَ ذَرائِعَهُ، قالَ سَلْمانُ الفارِسِيُّ: إنِّي لَأعُدُّ عُراقَ قِدْرِي مَخافَةَ الظَنِّ، وكانَ أبُو العالِيَةِ يَخْتِمُ عَلى بَقِيَّةِ طَعامِهِ مَخافَةَ سُوءِ الظَنِّ بِخادِمِهِ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: الأمانَةُ خَيْرٌ مِنَ الخاتَمِ، والخاتَمُ خَيْرٌ مِن ظَنِّ السُوءِ. قَوْلُهُ تَعالى: "وَلا تَجَسَّسُوا"، أيْ: لا تَبْحَثُوا عَلى مُخَبَّآتِ أُمُورِ الناسِ، وادْفَعُوا بِالَّتِي هي أحْسَنُ، واجْتَزُّوا بِالظَواهِرِ الحَسَنَةِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ، وابْنُ سِيرِينَ، والهُذَلِيُّونَ: "وَلا تَحَسَّسُوا" بِالحاءِ غَيْرِ مَنقُوطَةٍ، وقالَ بَعْضُ الناسِ: التَجَسُّسُ بِالجِيمِ- في الشَرِّ، والتَحَسُّسُ بِالحاءِ- في الخَيْرِ، وهَكَذا ورَدَ القُرْآنُ ولَكِنْ قَدْ يَتَداخَلانِ في الِاسْتِعْمالِ، وقالَ أبُو عَمْرِو بْنِ العَلاءِ: التَجَسُّسُ: ما كانَ مِن وراءَ وراءَ، والتَحَسُّسُ: الدُخُولُ والِاسْتِعْلامُ، وصَحَّ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "وَلا تَحَسَّسُوا ولا تَجَسَّسُوا ولا تَحاسَدُوا ولا تَدابَرُوا، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا".» وذَكَرَ الثَعْلَبِيُّ حَدِيثَ حِراسَةِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ مَعَ ابْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما ووُجُودُهُما الشُرْبُ في رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وذَكَرَ أيْضًا حَدِيثَهُ في ذَلِكَ مَعَ أبِي مِحْجَنٍ الثَقَفِيِّ، وقالَ زَيْدُ بْنُ وهْبٍ: قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ لَكَ في الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ تَقْطُرُ (p-٢٠)لِحْيَتُهُ خَمْرًا؟ فَقالَ: إنّا قَدْ نُهِينا عَنِ التَجَسُّسِ، فَإنْ يَظْهَرْ لَنا أمْرٌ أخَذْنا بِهِ. "وَلا يَغْتَبْ" مَعْناهُ: ولا يَذْكُرْ أحَدُكم مِن أخِيهِ شَيْئًا هو فِيهِ يَكْرَهُ سَماعَهُ، ورُوِيَ «أنَّ عائِشَةَ رِضى الله تَعالى عنها قالَتْ عَنِ امْرَأةٍ: ما رَأيْتُ أجْمَلَ مِنها إلّا أنَّها قَصِيرَةٌ، فَقالَ لَها النَبِيُّ ﷺ: "اغْتَبْتَها، نَظَرْتَ إلى أسْوَأِ ما فِيها فَذَكَرْتَهُ"،» وقَدْ قالَ النَبِيُّ ﷺ: « "إذا ذَكَرْتَ ما في أخِيكَ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وإذا ذَكَرْتَ ما لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ"،» وفي حَدِيثٍ آخَرَ: « "الغَيْبَةُ أنْ تَذَكُرَ المُؤْمِنَ بِما يَكْرَهُ"، قِيلَ: وإنْ كانَ حَقًّا؟ قالَ: إذا قُلْتَ باطِلًا فَذَلِكَ هو البُهْتانُ"،» وقالَ مُعاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، وأبُو إسْحاقَ السَبِيعِيُّ: إذا مَرَّ بِكَ رَجُلٌ أقْطَعُ فَقُلْتَ: ذَلِكَ الأقْطَعُ، كانَ ذَلِكَ غَيْبَةً، وحَكى الزَهْراوِيُّ عن جابِرٍ عَنِ النَبِيِّ ﷺ قالَ: « "الغَيْبَةُ أشَدُّ مِنَ الزِنا، لِأنَّ الزانِيَ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ، والَّذِي يَغْتابُ يَتُوبُ فَلا يُتابُ عَلَيْهِ حَتّى يَسْتَحِلَّ".» (p-٢١)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدْ يَمُوتُ مَنِ اغْتَبْتَ، أو يَأْبى، ورُوِيَ أنَّ رَجُلًا قالَ لِابْنِ سِيرِينَ: إنِّي قَدِ اغْتَبْتُكَ فَحَلِّلْنِي، فَقالَ: إنِّي لا أُحَلِّلُ ما حَرَّمَ اللهُ، والغَيْبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِن "غابَ يَغِيبُ"، وهي القَوْلُ في الغائِبِ، واسْتُعْمِلَتْ في المَكْرُوهِ، ولَمْ يَبُحْ في هَذا المَعْنى إلّا ما تَدْعُو الضَرُورَةُ إلَيْهِ كَتَجْرِيحِ الشُهُودِ، وفي التَعْرِيفِ لِمَنِ اسْتَنْصَحَ في الخِطابِ ونَحْوِهِ لِقَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: « "أمّا مُعاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مالَ لَهُ"،» وما يُقالُ في الفَسَقَةِ أيْضًا وفي وُلاةِ الجَوْرِ ويَقْصِدُ بِهِ التَحْذِيرَ مِنهُمْ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "أعَنِ الفاجِرِ تَرْعَوْنَ؟ اذْكُرُوا الفاجِرَ بِما فِيهِ حَتّى يَعْرِفَهُ الناسُ إذا لَمْ تَذْكُرُوهُ"،» ومِنهُ قَوْلُهُ: « "بِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ".» ثُمَّ مَثَّلَ تَعالى الغَيْبَةَ بِأكْلِ لَحْمِ ابْنِ آدَمَ المَيِّتِ، والعَرَبُ تُشَبِّهُ الغَيْبَةَ بِأكْلِ اللَحْمِ، فَمِنهُ قَوْلُ سُوَيْدِ بْنِ أبِي كاهِلٍ: ؎ فَإذا لاقَيْتُهُ عَظَّمَنِي ∗∗∗ وإذا يَخْلُو لَهُ لَحْمِي رَتَعَ (p-٢٢)وَمِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ إذْ أكَلُوا لَحْمِي وفَرْتُ لُحُومَهم ∗∗∗ وإنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهم مَجْدا فَوَقَّفَهُمُ اللهُ تَعالى -عَلى جِهَةِ التَوْبِيخِ- بِقَوْلِهِ: ﴿أيُحِبُّ أحَدُكم أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتًا﴾ فالجَوابُ عن هَذا: لا، وهم في حُكْمِ مَن يَقُولُها، فَخُوطِبُوا عَلى أنَّهم قالُوا: لا، فَقِيلَ لَهُمْ: "فَكَرِهْتُمُوهُ"، وبَعْدَ هَذا مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ: فَكَذَلِكَ فاكْرَهُوا الغَيْبَةَ الَّتِي هي نَظِيرُ ذَلِكَ، وعَلى هَذا المُقَدَّرِ يُعْطَفُ قَوْلُهُ: "واتَّقُوا اللهَ"، قالَهُ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ، وقالَ الرُمّانِيُّ: كَراهِيَةُ هَذا اللَحْمِ يَدْعُو إلَيْها الطَبْعُ، وكَراهِيَةُ الغَيْبَةِ يَدْعُو إلَيْها العَقْلُ، وهو أحَقُّ أنْ يُجابَ لِأنَّهُ بَصِيرٌ عالِمٌ، والطَبْعُ أعْمى جاهِلٌ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "مَيْتًا" بِسُكُونِ الياءِ خَفِيفَةً، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ القَعْقاعِ، وشَيْبَةُ، ومُجاهِدٌ بِكَسْرِهِا مُشَدَّدَةً، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "فَكَرِهْتُمُوهُ" بِضَمِّ الكافِ وشَدِّ الراءِ. ورَواها أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ. ثُمَّ أعْلَمَهُمُ اللهُ تَعالى بِأنَّهُ تَوّابٌ رَحِيمٌ إبْقاءً مِنهُ تَعالى وإمْهالًا وتَمْكِينًا مِنَ التَوْبَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب