الباحث القرآني

(p-٦٦٤)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةُ الفَتْحِ هَذِهِ السُورَةُ نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ مُنْصَرَفُهُ مِنَ الحُدَيْبِيَةَ، وفي ذَلِكَ أحادِيثٌ كَثِيرَةٌ عن أنَسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ وغَيْرِهِما تَقْتَضِي صِحَّتُهُ، وهي بِهَذا في حُكْمِ المَدَنِيِّ، وقالَ الزَهْراوِيُّ عن مُجاهِدٍ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إنَّها نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، والأوَّلُ أصَحُّ، ويُشْبِهُ أنَّ مِنها بَعْضًا نَزَلَ بِالمَدِينَةِ، وأمّا صَدْرُ السُورَةِ ومُعْظَمُها فَكَما قُلْنا، ويَقْضِي بِذَلِكَ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ وهُما في تِلْكَ السُفْرَةِ: « "لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَيْلَةَ سُورَةٌ هي أحَبُّ إلَيَّ مِنَ الدُنْيا وما فِيهِا"،» ذَكَرَ مَكِّيٌّ هُنا أنَّ المَعْنى: بِشَرْطِ أنْ تَبْقى الدُنْيا ولا تَفْنى، وفي هَذا نَظَرٌ، وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ خَرَجَ في تِلْكَ الوُجْهَةِ لِيَعْتَمِرَ بِمَكَّةَ، فَصَدَّهُ المُشْرِكُونَ - القِصَّةُ المَشْهُورَةُ - سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الهِجْرَةِ. (p-٦٦٥)قوله عزّ وجلّ: ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ ﴿وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ السَكِينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إيمانًا مَعَ إيمانِهِمْ ولِلَّهِ جُنُودُ السَماواتِ والأرْضِ وكانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ قالَ قَوْمٌ - فِيما حَكى الزَهْراوِيُّ -: ﴿فَتَحْنا لَكَ﴾ يُرِيدُ بِهِ فَتْحَ مَكَّةَ، وحَكاهُ الثَعْلَبِيُّ أيْضًا، ونَسَبَهُ النِقاشُ إلى الكَلْبِيِّ، وأخْبَرَهُ تَعالى بِهِ عَلى مَعْنى: قَضَيْنا بِهِ، و"الفَتّاحُ": القاضِي بِلُغَةِ اليَمَنِ، وقِيلَ: المُرادُ إنّا فَتَحْنا لَكَ بِأنْ هَدَيْناكَ إلى الإسْلامِ لِيَغْفِرَ، وقالَ جُمْهُورُ الناسِ - والصَحِيحُ الَّذِي تُعَضِّدُهُ قِصَّةُ الحُدَيْبِيَةِ -: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ﴾ إنَّما مَعْناهُ: إنَّ ما يُسِرُّ اللهُ لَكَ في تِلْكَ الخَرْجَةِ فَتْحٌ مُبِينٌ تَسْتَقْبِلُهُ، ونَزَلَتِ السُورَةُ مُؤْنِسَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِأنَّهم كانُوا اسْتَوْحَشُوا مَن رَدِّ قُرَيْشٍ لَهُمْ، ومِن تِلْكَ المُهادَنَةِ الَّتِي هادَنَهُمُ النَبِيُّ ﷺ، فَنَزَلَتِ السُورَةُ مُؤْنِسَةً لَهم في صَدِّهِمْ عَنِ البَيْتِ، ومُذْهِبَةٌ ما كانَ في قُلُوبِهِمْ، ومِنهُ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ الشَهِيرُ، وما قالَهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ ولِأبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، واسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ في تِلْكَ السُفْرَةِ أنَّهُ هادَنَ عَدْوَهُ رَيْثَما يَتَقَوّى هُوَ، وظَهَرَتْ عَلى يَدَيْهِ آيَةُ الماءِ في بِئْرِ الحُدَيْبِيَةِ، حَيْثُ وضَعَ فِيهِ سَهْمَهُ وثابَ الماءَ حَتّى كَفى الجَيْشُ، واتَّفَقَتْ بَيْعَةُ الرِضْوانِ، وهي الفَتْحُ الأعْظَمُ، قالَهُ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، والبَراءُ بْنُ عازِبٍ، وبَلَغَ هَدْيُهُ مَحَلَّهُ، قالَهُ الشَعْبِيُّ، واسْتَقْبَلَ فَتْحَ خَيْبَرَ، وامْتَلَأتْ أيْدِي المُؤْمِنِينَ خَيْرًا، ولَمْ يَفْتَحْها إلّا أهْلُ الحُدَيْبِيَةِ، ولَمْ يُشْرِكْهم فِيها أحَدٌ، وفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّ أصْحابَ السَفِينَةِ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ شارَكُوهم في القِسْمِ، فَيَنْبَغِي أنْ يُقالَ: لَمْ يُشْرِكْهم أحَدٌ مِنَ المُتَخَلِّفِينَ عَنِ الحُدَيْبِيَةِ، واتَّفَقَتْ في ذَلِكَ الوَقْتِ مَلْحَمَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الرُومِ وفارِسٍ ظَهَرَتْ فِيها الرُومُ، فَكانَتْ مِن جُمْلَةِ الفَتْحِ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وسُرَّ بِها هو والمُؤْمِنُونَ لِظُهُورِ أهْلِ الكِتابِ عَلى المَجُوسِ وانْخِضادِ الشَوْكَةِ العُظْمى مِنَ الكُفْرِ. ثُمَّ عَظَّمَ اللهُ تَعالى أمْرَ نَبِيِّهِ ﷺ وشَرَّفَهُ بِأنْ نَبَّأهُ أنَّهُ غَفَرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأخَّرَ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "لِيَغْفِرَ"﴾ هي لامُ "كَيْ"، لَكِنَّها تُخالِفُها في المَعْنى، والمُرادُ هُنا أنَّ اللهَ فَتَحَ لَكَ لِكَيْ يَجْعَلَ ذَلِكَ أمارَةً وعَلامَةً لِغُفْرانِهِ لَكَ، فَكَأنَّها لامُ صَيْرُورَةٍ، ولِهَذا قالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "لَقَدْ أُنْزَلِتْ عَلَيَّ اللَيْلَةَ سُورَةٌ هي أحَبُّ إلَيَّ (p-٦٦٦)مِنَ الدُنْيا"،» وقالَ الطَبَرِيُّ وابْنُ كَيْسانَ: المَعْنى: إنّا فَتَحْنا لَكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ لِيَغْفِرَ لَكَ، وبَنَيا هَذِهِ الآيَةَ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ والفَتْحُ﴾ [النصر: ١] السُورَةُ، وهَذا ضَعِيفٌ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنَّ سُورَةَ ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ﴾ [النصر: ١] إنَّما نَزَلَتْ مِن آخِرِ مُدَّةِ النَبِيِّ ﷺ ناعِيَةً لَهُ نَفْسَهُ حَسَبَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عِنْدَما سَألَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ عن ذَلِكَ، والآخِرُ أنَّ تَخْصِيصَ النَبِيِّ ﷺ بِالتَشْرِيفِ كانَ يَذْهَبُ، لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ مُخاطَبٌ بِهَذا الَّذِي قالَ الطَبَرِيُّ، أيْ: سَبِّحْ واسْتَغْفِرْ لِكَيْ يَغْفِرَ اللهُ لَكَ، ولا يَقْتَضِي هَذا أنَّ الغُفْرانَ قَدْ وقَعَ، وما قَدَّمْناهُ أوَّلًا يَقْتَضِي وُقُوعُ الغُفْرانِ لِلنَّبِيِّ ﷺ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُ الصَحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم لَهُ ﷺ حِينَ قامَ حَتّى تَوَرَّمَتْ قَدَماهُ: أتُفْعَلُ هَذا يا رَسُولَ اللهِ وقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ؟ قالَ: « "أفَلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا"؟» فَهَذا نَصٌّ في أنَّ الغُفْرانَ قَدْ وقَعَ، وقالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: المَعْنى: مُجاهَدَتُكَ بِاللهِ تَعالى المُقْتَرِنَةِ بِالفَتْحِ هي لِيَغْفِرَ، وحَكى الثَعْلَبِيُّ عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ الفَضْلِ أنَّ المَعْنى: إنّا فَتَحْنا لَكَ فاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ...... الآيَةُ، وهَذا نَحْوُ قَوْلِالطَبَرِيِّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ قالَ سُفْيانُ الثَوْرِيُّ: ﴿ما تَقَدَّمَ﴾ يُرِيدُ بِهِ (p-٦٦٧)قَبْلَ النُبُوَّةِ و"ما تَأخَّرَ" كُلُّ شَيْءٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، وهَذا ضَعِيفٌ، وإنَّما المَعْنى التَشْرِيفُ بِهَذا الحُكْمِ ولَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ ذُنُوبٌ البَتَّةَ، وأجْمَعَ العُلَماءُ عَلى عِصْمَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَلاةُ والسَلامُ مِنَ الكَبائِرِ ومِنَ الصَغائِرِ الَّتِي هي رَذائِلُ، [وَجَوَّزَ بَعْضُهُمُ الصَغائِرَ الَّتِي لَيْسَتْ بِرَذائِلَ]، واخْتَلَفُوا هَلْ وقَعَ ذَلِكَ مِن مُحَمَّدٍ ﷺ أو لَمْ يَقَعْ؟ وحَكى الثَعْلَبِيُّ عن عَطاءٍ الخُراسانِيِّ أنَّهُ قالَ: ﴿ما تَقَدَّمَ﴾ هو ذَنْبُ آدَمَ وحَوّاءَ عَلَيْهِما السَلامُ، أيْ بِبَرَكَتِكَ، و"ما تَأخَّرَ" هي ذُنُوبُ أُمَّتِكَ، بِدُعائِكَ، قالَ الثَعْلَبِيُّ: الإمامِيَّةُ لا تَجُوزُ الصَغائِرُ عَلى النَبِيِّ ﷺ ولا عَلى الإمامِ، والآيَةِ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وقالَ بَعْضُهُمْ: "وَما تَقَدَّمَ" هو قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ يَوْمَ بَدْرٍ: « "اللهُمَّ، إنَّ تَهْلَكْ هَذِهِ العِصابَةُ لَنْ تَعْبُدَ"،» و"ما تَأخَّرَ" هو قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ يَوْمَ حُنَيْنٍ: « "لَنْ نُغْلَبَ اليَوْمَ مِن قِلَّةٍ".» هَذا كُلُّهُ مُعْتَرِضٌ. و"إتْمامُ النِعْمَةِ عَلَيْهِ" هو إظْهارُهُ وتَغَلُّبُهُ عَلى عَدُوِّهِ والرِضْوانِ في الآخِرَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ مَعْناهُ: إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَحَذَفَ الجارُّ فَتَعَدّى الفِعْلُ، وقَدْ يَتَعَدّى هَذا بِغَيْرِ حَرْفِ جَرٍّ. و"النَصْرُ العَزِيزُ" هو الَّذِي مَعَهُ غَلَبَةُ العَدُوِّ والظُهُورِ عَلَيْهِ، والنَصْرُ غَيْرُ العَزِيزِ هو الَّذِي مُضَمِّنُهُ الحِمايَةُ ودَفْعُ العَدُوِّ فَقَطْ. و"إنْزالُ السِكِّينَةِ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ" - وهي فِعْلِيَّةٌ مِنَ السُكُونِ - هو تَسْكِينُها لِتِلْكَ الهُدْنَةِ مَعَ قُرَيْشٍ حَتّى اطْمَأنَّتْ، وعَلِمُوا أنَّ وعْدَ اللهِ تَعالى عَلى لِسانِ رَسُولِهِ ﷺ حَقٌّ، فازْدادُوا بِذَلِكَ إيمانًا إلى إيمانِهِمُ الأوَّلِ وكَثُرَ تَصْدِيقُهُمْ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: لَمّا آمَنُوا بِالتَوْحِيدِ زادَهُمُ العِباداتُ شَيْئًا شَيْئًا، فَكانُوا يَزِيدُونَ إيمانًا حَتّى قالَ لَهُمْ: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣] فَمَنَحَهم أكْمَلَ إيمانَ أهْلِ السَماواتِ والأرْضِ، لا إلَهَ إلّا اللهُ، وفَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما السَكِينَةَ بِالرَحْمَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَماواتِ والأرْضِ﴾ إشارَةٌ إلى تَسْكِينِ النُفُوسِ أيْضًا، وأنْ تَكُونَ مُسْلِمَةً، لِأنَّهُ يَنْصُرُ مَتى شاءَ وعَلى أيِّ صُورَةٍ شاءَ، مِمّا لا يُدَبِّرُهُ البَشَرُ، ومِن جُنْدِهِ: السَكِينَةُ الَّتِي أنْزَلَها في قُلُوبِ أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَثَبَّتَ بَصائِرَهُمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكانَ اللهُ﴾ أيْ: ويَكُونُ: فَهي دالَّةٌ عَلى الوُجُودِ بِهَذِهِ الصِفَةِ لا مُعَيَّنَةً وقْتًا ماضِيًا، و"العِلْمُ" و"الإحْكامُ" صِفَتانِ مُقْتَضِيَتانِ عِزَّةَ النَصْرِ لِمَن أرادَ المَوْصُوفُ بِهِما نَصْرَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب