الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُؤْيا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ إنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكم ومُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِينِ كُلِّهِ وكَفى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ والَّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهم تَراهم رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللهِ ورِضْوانًا سِيماهم في وُجُوهِهِمْ مِنَ أثَرِ السُجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهم في التَوْراةِ ومَثَلُهم في الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فَآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارِ وعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ مِنهم مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا﴾ رُوِيَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَأى في مَنامِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ إلى العُمْرَةِ أنَّهُ يَطُوفُ بِالبَيْتِ هو وأصْحابُهُ، بَعْضُهم مُحَلِّقُونَ وبَعْضُهم مُقَصِّرُونَ، وقالَ مُجاهِدٌ: أرى ذَلِكَ بِالحُدَيْبِيَةِ، فَأخْبَرَ الناسَ بِهَذِهِ الرُؤْيا، ووَثِقَ الجَمِيعُ بِأنَّ ذَلِكَ يَكُونُ في وُجْهَتِهِمْ تِلْكَ، وقَدْ كانَ سَبَقَ في عِلْمِ اللهِ تَعالى أنَّ ذَلِكَ يَكُونُ، لَكِنْ لَيْسَ في تِلْكَ الجِهَةِ، ورُوِيَ أنَّ رُؤْياهُ ﷺ إنَّما كانَتْ أنَّ مَلِكًا جاءَهُ فَقالَ لَهُ: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ إنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكم ومُقَصِّرِينَ﴾، وأنَّهُ بِهَذا أعْلَمُ الناسِ، فَلَمّا قَضى اللهُ تَعالى بِالصُلْحِ في الحُدَيْبِيَةِ، وأخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ في الصَدْرِ، وقالَ المُنافِقُونَ: وأيْنَ الرُؤْيا؟ ووَقَعَ في نُفُوسِ المُسْلِمِينَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، فَأنْزَلَ اللهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُؤْيا بِالحَقِّ﴾، و﴿ "صَدَقَ"﴾ هَذِهِ تَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ، تَقُولُ: صَدَقْتُ زَيْدًا الحَدِيثَ، واللامُ في ﴿ "لَتَدْخُلُنَّ"﴾ لامُ القَسَمِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ "صَدَقَ"؛ لِأنَّها مِن قَبِيلِ: تُبَيِّنُ وتُحَقِّقُ، ونَحْوُ هَذا مِمّا يُعْطِي القَسَمَ. (p-٦٨٧)واخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى الِاسْتِثْناءِ في هَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ: هو اسْتِثْناءٌ مِنَ المَلَكِ المُخْبِرِ لِلنَّبِيِّ ﷺ في قَوْلِهِ، فَذَكَرَ اللهُ تَعالى مَقالَتَهُ كَما وقَعَتْ، وقالَ آخَرُونَ: هو أخْذٌ مِنَ اللهِ تَعالى عِبادَهُ بِأدَبِهِ في اسْتِعْمالِ الِاسْتِثْناءِ في كُلِّ فِعْلٍ يُوجِبُ وُقُوعَهُ، كانَ ذَلِكَ مِمّا يَكُونُ ولا بُدَّ، أو كانَ مِمّا قَدْ يَكُونُ وقَدْ لا يَكُونُ، وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: إنَّما اسْتَثْنى مِن حَيْثُ كَلُّ واحِدٍ مِنَ الناسِ مَتى رَدَّ هَذا الوَعْدَ إلى نَفْسِهِ أمْكَنَ أنْ يَتِمَّ الوَعْدُ فِيهِ وأنْ لا يَتِمَّ، إذْ قَدْ يَمُوتُ الإنْسانُ أو يَمْرَضُ أو يَغِيبُ، وكُلُّ واحِدٍ في ذاتِهِ مُحْتاجٌ إلى الِاسْتِثْناءِ، فَلِذَلِكَ اسْتَثْنى عَزَّ وجَلَّ في الجُمْلَةِ إذْ فِيهِمْ ولا بُدَّ مَن يَمُوتُ، وقالَ آخَرُونَ: اسْتَثْنى لِأجْلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "آمِنِينَ"﴾ لا لِأجْلِ إعْلامِهِ بِالدُخُولِ، فَكَأنَّ الِاسْتِثْناءَ مُؤَخَّرٌ عن مَوْضِعِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِثْناءِ مِن أجْلِ الأمْنِ أو مِن أجْلِ الدُخُولِ؛ لِأنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى قَدْ أخْبَرَ بِهِما ووَقَعَتِ الثِقَةُ بِالأمْرَيْنِ، فالِاسْتِثْناءُ مِن أيِّهِما كانَ فَهو اسْتِثْناءٌ مِن واجِبٍ. وقالَ قَوْمٌ: "إنْ" بِمَعْنى "إذْ" فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: "إذْ شاءَ اللهُ، وهَذا حَسَنٌ في مَعْناهُ لَكِنَّ كَوْنَ "إنْ" بِمَعْنى "إذْ" غَيْرُ مَوْجُودٍ في لِسانِ العَرَبِ، ولِلنّاسِ بَعْدُ في هَذا الِاسْتِثْناءِ أقْوالٌ مُخَلَّطَةٌ غَيْرَ هَذِهِ لا طائِلَ فِيها اخْتَصَرْتُها، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "إنْ شاءَ اللهُ لا تَخافُونَ" بَدَلُ "آمِنِينَ". ولَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلِمَ المُسْلِمُونَ أنَّ تِلْكَ الرُؤْيا فِيما يَسْتَأْنِفُونَهُ مِنَ الزَمانِ، واطْمَأنَّتْ قُلُوبُهم بِذَلِكَ وسَكَنَتْ، فَخَرَجَتْ في العامِ المُقْبِلِ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلى مَكَّةَ في ذِي القِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، ودَخَلَها ثَلاثَةَ أيّامٍ هو وأصْحابُهُ، وصَدَقَتْ رُؤْياهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا﴾ يُرِيدُ ما قَدَّرَهُ مِن ظُهُورِ الإسْلامِ في تِلْكَ المُدَّةِ ودُخُولِ الناسِ فِيهِ، وما كانَ أيْضًا بِمَكَّةَ مِنَ المُؤْمِنِينَ دَفَعَ اللهُ تَعالى بِهِمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن دُونِ ذَلِكَ﴾ أيْ: مِن قَبْلِ ذَلِكَ وفِيما يَدْنُو إلَيْكم. واخْتَلَفَ الناسُ في الفَتْحِ القَرِيبِ، فَقالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ: هو بَيْعَةُ (p-٦٨٨)الرِضْوانِ، ورُوِيَ عن مُجاهِدٍ وابْنِ إسْحاقَ أنَّهُ الصُلْحُ بِالحُدَيْبِيَةِ، وقَدْ رُوِيَ «أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أوَ فَتْحٌ هو يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: نَعَمْ،» وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الفَتْحُ القَرِيبُ هو فَتْحُ مَكَّةَ، وهَذا ضَعِيفٌ لِأنَّ فَتْحَ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ مِن دُونِ دُخُولِ النَبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ مَكَّةَ، بَلْ كانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِعامٍ، لِأنَّ الفَتْحَ كانَ سَنَةَ ثَمانٍ مِنَ الهِجْرَةِ، ويَحْسُنُ أنْ يَكُونَ "الفَتْحُ" هُنا اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ كُلَّ ما وقَعَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِيهِ ظُهُورٌ وفَتْحٌ عَلَيْهِ، وقَدْ حَكى مَكِّيٌّ في تَرْتِيبِ أعْوامِ هَذِهِ الأخْبارِ عن قُطْرُبٍ قَوْلًا خَطَأً جَعَلَ فِيهِ الفَتْحَ سَنَةَ عَشْرٍ، وجُعِلَ حَجُّ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَبْلَ الفَتْحِ، وذَلِكَ كُلُّهُ تَخْلِيطٌ وخَوْضٌ فِيما لَمْ يُتْقِنْهُ مَعْرِفَةً. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ الآيَةُ، تَعْظِيمٌ لِأمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وإعْلامٌ بِأنَّهُ يُظْهِرُهُ عَلى جَمِيعِ الأدْيانِ، ورَأى بَعْضُ الناسِ "أنَّ" لَفْظَةَ "لِيُظْهِرَهُ" تَقْتَضِي مَحْوَ غَيْرِهِ بِهِ فَلِذَلِكَ قالُوا: إنَّ هَذا الخَبَرَ يَظْهَرُ لِلْوُجُودِ عِنْدَ نُزُولِ عِيسى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِما السَلامُ، فَإنَّهُ لا يَبْقى في وقْتِهِ دِينٌ إلّا الإسْلامُ، وهو قَوْلُ الطَبَرِيِّ والثَعْلَبِيِّ، ورَأى قَوْمٌ أنَّ الإظْهارَ هو الإعْلاءُ وإنْ بَقِيَ مِنَ الدِينِ الآخَرِ أجْزاءٌ، وهَذا مَوْجُودٌ الآنَ في دِينِ الإسْلامِ، فَإنَّهُ قَدْ كانَ عَمَّ أكْثَرَ الأرْضِ وظَهَرَ عَلى كُلِّ دِينٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكَفى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ مَعْناهُ: شاهِدًا، وذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: شاهِدًا عِنْدَكم بِهَذا الخَبَرِ ومُعَلِّمًا بِهِ، والثانِي: شاهِدًا عَلى هَؤُلاءِ الكُفّارِ المُنْكِرِينَ أمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ الرادِّينَ في صَدْرِهِ، ومُعاقِبًا لَهم بِحُكْمِ الشَهادَةِ، فالآيَةُ - عَلى هَذا - وعِيدٌ لِلْكُفّارِ الَّذِينَ شاحُوا في أنْ يَكْتُبَ "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ﷺ"، فَرَدَّ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الآيَةِ كُلِّها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ﴾، قالَ جُمْهُورُ الناسِ: هو ابْتِداءٌ وخَبَرٌ اسْتُوفِيَ فِيهِ تَعْظِيمُ مَنزِلَةِ النَبِيِّ ﷺ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ مَعَهُ﴾ ابْتِداءٌ وخَبَرُهُ ﴿ "أشِدّاءُ"،﴾ و﴿ "رُحَماءُ"﴾ خَبَرٌ ثانٍ، وقالَ قَوْمٌ مِنَ المُتَأوِّلِينَ: "مُحَمَّدٌ" ابْتِداءٌ، و" رَسُولُ اللهِ " صِفَةٌ لَهُ، و"الَّذِينَ" عَطْفٌ عَلَيْهِ، و﴿ "أشِدّاءُ"﴾ خَبَرٌ عَنِ الجَمِيعِ، و"رُحَماءُ" خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، فَفي القَوْلِ الأوَّلِ اخْتَصَّ النَبِيُّ ﷺ بِوَصْفِهِ وهَؤُلاءِ بِوَصْفِهِمْ، وفي القَوْلِ الثانِي اشْتَرَكَ الجَمِيعُ في الشِدَّةِ (p-٦٨٩)والرَحْمَةِ، والأوَّلُ عِنْدِي أرْجَحُ، لِأنَّهُ خَبَرٌ مُضادٌّ لِقَوْلِ الكُفّارِ: لا نَكْتُبُ "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ"، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ مَعَهُ﴾ إشارَةٌ إلى جَمِيعِ الصَحابَةِ رِضْوانُ اللهِ عنهم عِنْدَ الجُمْهُورِ، وحَكى الثَعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ الإشارَةَ إلى مَن شَهِدَ الحُدَيْبِيَةَ ب"الَّذِينَ مَعَهُ"، و"أشِدّاءُ" جَمْعُ شَدِيدٍ، أصْلُهُ أشْدِداءٌ، أدْغَمَ لِاجْتِماعِ المِثْلَيْنِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ "أشِدّاءُ"﴾ و﴿ "رُحَماءُ"﴾ بِالرَفْعِ، ورَوى قُرَّةُ عَنِ الحَسَنِ "أشِدّاءَ" و"رُحَماءَ" بِنَصْبِهِما، قالَ أبُو حاتِمٍ: ذَلِكَ عَلى الحالِ، والخَبَرُ "تَراهُمْ"، قالَ أبُو الفَتْحِ: وإنْ شِئْتَ نَصَبْتَ "أشِدّاءَ" عَلى المَدْحِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَراهم رُكَّعًا سُجَّدًا﴾، أيْ تَرى هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ كَثِيرًا فِيهِمْ، و﴿ "يَبْتَغُونَ"﴾ مَعْناهُ: يَطْلُبُونَ، وقَرَأ عُمَرُ وابْنُ عُبَيْدٍ: "وَرُضْوانًا" بِضَمِّ الراءِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "سِيماهُمْ"﴾ مَعْناهُ: عَلامَتُهُمْ، واخْتَلَفَ الناسُ في تَعْيِينِ هَذِهِ السِيما، فَقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ: كانَتْ جِباهُهم مُتَرَّبَةً مِن كَثْرَةِ السُجُودِ في التُرابِ، كانَ يَبْقى عَلى المَسْحِ أثَرُهُ، وقالَهُ عِكْرِمَةُ، وقالَ أبُو العالِيَةِ: يَسْجُدُونَ عَلى التُرابِ لا عَلى الأثْوابِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وخالِدٌ الحَنَفِيٌّ، وعَطِيَّةُ: هو وعْدٌ بِحالِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ مِن أنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى يَجْعَلُ لَهم نُورًا مِن أثَرِ السُجُودِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: كَما يَجْعَلُ غِرَّةً مِن أثَرِ الوُضُوءِ... الحَدِيثُ، ويُؤَيِّدُ هَذا التَأْوِيلَ اتِّصالُ القَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَضْلا مِنَ اللهِ ورِضْوانًا﴾، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: عَلامَتُهم في تَحْصِيلِهِمُ الرِضْوانَ يَوْمَ القِيامَةِ سِيماهم في وُجُوهِهِمْ مِن أثَرِ السُجُودِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ السِيما بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: "فَضْلًا"، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: السَمْتُ الحَسَنُ هو السِيما، وهو خُشُوعٌ يَبْدُو عَلى الوَجْهِ، وهَذِهِ حالَةُ مُكْثِرِي الصَلاةَ، لِأنَّها تَنْهاهم عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ، وتُقِلُّ الضَحِكَ، وتَرُدُّ النَفْسَ بِحالَةٍ تَخْشَعُ مَعَها الأعْضاءُ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وشَمَّرُ بْنُ عَطِيَّةَ: السِيما بَياضٌ وصُفْرَةٌ وتَهَيُّجٌ يَعْتَرِي الوُجُوهَ مِنَ السَهَرِ، وقالَ (p-٦٩٠)مَنصُورٌ: سَألُتُ مُجاهِدًا: هَلِ السِيما هي الأثَرَ يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيِ الرَجُلِ؟ فَقالَ: لا، وقَدْ تَكُونُ مِثْلَ رُكْبَةِ البَعِيرِ وهو أقْسى قَلْبًا مِنَ الحِجارَةِ، وقالَ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ، والرَبِيعُ بْنُ أنَسٍ: السِيما حُسْنٌ يَعْتَرِي وُجُوهَ المُصَلِّينَ، وذَلِكَ لِأنَّ اللهَ تَعالى يَجْعَلُ لَها في عَيْنِ الرائِي حُسْنًا تابِعًا لِلْإجْلالِ الَّذِي في نَفْسِهِ، ومَتى أجَّلَ الإنْسانُ أمْرًا حَسُنَ عِنْدَهُ مَنظَرُهُ، ومِن هَذا الحَدِيثِ الَّذِي في الشِهابِ: « "مَن كَثُرَتْ صَلاتُهُ بِاللَيْلِ حَسُنَ وجْهُهُ بِالنَهارِ"،» وهو حَدِيثٌ غَلَطٌ فِيهِ ثابِتُ بْنُ مُوسى الزاهِدُ، سَمِعَ شَرِيكَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: حَدَّثَنا الأعْمَشُ، عن أبِي سُفْيانَ، عن جابِرٍ، ثُمَّ نَزَعَ شَرِيكُ لَمّا رَأى ثابِتَ الزاهِدَ فَقالَ يَعْنِيهِ: "مَن كَثُرَتْ صَلاتُهُ بِاللَيْلِ حَسُنَ وجْهُهُ بِالنَهارِ"، فَظَنَّ ثابِتٌ أنَّ هَذا الكَلامَ مُتَرَكِّبٌ عَلى السَنَدِ المَذْكُورِ فَحَدَّثَ بِهِ عن شَرِيكٍ. وقَرَأ الأعْرَجُ: "مِن إثْرِ" بِسُكُونِ الثاءِ وكَسْرِ الهَمْزَةِ، قالَ أبُو حاتِمٍ: هُما بِمَعْنًى، وقَرَأ قَتادَةُ: "مِن آثارِ" جَمْعًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهم في التَوْراةِ ومَثَلُهم في الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ﴾ الآيَةُ. المَثَلُ هُنا: الوَصْفُ أوِ الصِفَةُ، وقالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ: التَقْدِيرُ: الأمْرُ ذَلِكَ، وتَمَّ الكَلامُ، ثُمَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَثَلُهم في التَوْراةِ ومَثَلُهم في الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ﴾، وقالَ مُجاهِدٌ: المَعْنى: ذَلِكَ الوَصْفُ هو مَثَلُهم في التَوْراةِ، ومَثَلُهم في الإنْجِيلِ، وتَمَّ القَوْلُ. و"كَزَرْعٍ" ابْتِداءُ تَمْثِيلٍ يَخْتَصُّ بِالقُرْآنِ، وقالَ الطَبَرِيُّ، وحَكاهُ الضَحّاكُ: المَعْنى: ذَلِكَ المَعْنى هو وصْفُهم في التَوْراةِ، وتَمَّ القَوْلُ، ثُمَّ ابْتَدَأ ﴿وَمَثَلُهم في الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ﴾ وقالَ آخَرُونَ: المَثَلانِ جَمِيعًا في التَوْراةِ وفي الإنْجِيلِ. (p-٦٩١)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "كَزَرْعٍ"﴾ هو عَلى كُلِّ الأقْوالِ وفي أيِّ كِتابٍ مُنَزَّلٍ فَرْضُ مَثَلٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ في أنَّ النَبِيَّ ﷺ بُعِثَ وحْدَهُ، فَكانَ كالزَرْعِ حَبَّةً واحِدَةً، ثُمَّ كَثُرَ المُسْلِمُونَ فَهم كالشَطْءِ وهو فِراخُ السُنْبُلَةِ الَّتِي تَنْبُتُ حَوْلَ الأصْلِ، يُقالُ: أشَطَأْتُ الشَجَرَةَ إذا خَرَجَتْ غُصُونُها، وأشْطَأ الزَرْعَ: إذا خَرَجَ شَطْأهُ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ ذَكْوانَ: "شَطْأهُ" بِفَتْحِ الطاءِ والهَمْزِ دُونَ مَدٍّ، وقَرَأ الباقُونَ بِسُكُونِ الطاءِ، وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ: "شَطّاهُ" بِفَتْحِ الطاءِ دُونَ هَمْزٍ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ: "شَطَّهُ"، رَمى بِالهَمْزَةِ وفَتَحَ الطاءَ، ورُوِيَتْ عن نافِعٍ، وشَيْبَةَ، ورُوِيَ عن عِيسى "شِطاءَهُ" بِالمَدِّ والهَمْزَةِ، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ: "شَطُّوهُ" بِالواوِ، وقالَ أبُو الفَتْحِ: هي لُغَةٌ، أو بَدَلٌ مِنَ الهَمْزَةِ، ولا يَكُونُ الشَطْؤُ إلّا في البُرِّ والشَعِيرِ، وهَذِهِ كُلُّها لُغاتٌ، وحَكى النَقّاشُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: "الزَرْعُ" النَبِيُّ ﷺ، "فَآزَرَهُ" عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، "فاسْتَغْلَظَ" بِأبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، "فاسْتَوى عَلى سُوقِهِ" بِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "فَآزَرَهُ"﴾ وزْنُهُ: "أفْعَلَهُ"، قالَهُ الحَسَنُ، ورَجَّحَهُ أبُو عَلِيٍّ، وقَرَأ ابْنُ ذَكْوانَ وحْدَهُ: "فَأزْرَهُ" عَلى وزْنِ "فَعْلَهُ" دُونَ مَدٍّ، ولِذَلِكَ كُلِّهِ مَعْنَيانِ: أحَدُهُما ساواهُ طُولًا، ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ بِمَحْنِيَّةٍ قَدْ آزَرَ الضالَّ نَبْتُها ∗∗∗ بِجَرِّ جُيُوشٍ غانِمِينَ وخُيَّبِ (p-٦٩٢)أيْ: هو مَوْضِعٌ لَمْ يُرْعَ نَبْتُهُ فَكَمُلَ حَتّى ساوى شَجَرَ الضالِّ، فالفاعِلُ - عَلى هَذا المَعْنى - الشَطْءُ، والمَعْنى الثانِي أنْ يَكُونَ "آزَرَهُ" أو "أزْرَهُ" بِمَعْنى أعانَهُ وقَوّاهُ، مَأْخُوذٌ ذَلِكَ مِنَ الأزْرِ وشَدِّهِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ الشَطْءُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ الزَرْعُ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يُقَوِّي صاحِبَهُ، وقالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: "آزَرَهُ" وزْنُهُ فاعَلَهُ، والأوَّلُ أصْوَبُ، أنَّ وزْنَهُ: أفْعَلَهُ، ويَدُلُّكَ عَلى ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ لا مالَ إلّا العِطافُ تُؤْزُرُهُ ∗∗∗ ∗∗∗ أمْ ثَلاثِينَ وابْنَةُ الجَبَلِ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "عَلى سُؤْقِهِ" بِالهَمْزِ، وهي لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، يَهْمِزُونَ الواوَ الَّتِي قَبْلَها ضَمَّةٌ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ لِحَبُّ المُؤْقِدانَ إلَيَّ مُؤْسى (p-٦٩٣)وَ ﴿يُعْجِبُ الزُرّاعَ﴾ جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الحالِ، فَإذا أعْجَبَ الزُرّاعَ فَهو أحْرى أنْ يُعْجِبَ غَيْرَهم لِأنَّهُ لا عَيْبَ فِيهِ؛ إذْ قَدْ أعْجَبَ العارِفِينَ بِالعُيُوبِ، ولَوْ كانَ مَعِيبًا لَمْ يُعْجِبْهُمْ، وهُنا تَمَّ المَثَلُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ﴾ ابْتِداءُ كَلامٍ قَبْلَهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: جَعَلَهُمُ اللهُ تَعالى بِهَذِهِ الصِفَةِ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ، و﴿ "الكُفّارِ"﴾ هُنا: المُشْرِكُونَ، قالَ الحَسَنُ: مِن غَيْظِ الكَفّارِ قَوْلُ عَمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ بِمَكَّةَ: "لا عُبِدَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ سِرًّا بَعْدَ اليَوْمِ"، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "مِنهُمْ"﴾ هي لِبَيانِ الجِنْسِ ولَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ؛ لِأنَّهُ وعْدُ مُرَجٍّ لِلْجَمِيعِ. كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ الفَتْحِ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب