الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّما الحَياةُ الدُنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وإنْ تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا يُؤْتِكم أُجُورَكم ولا يَسْألْكم أمْوالَكُمْ﴾ ﴿إنْ يَسْألْكُمُوها فَيُحْفِكم تَبْخَلُوا ويُخْرِجْ أضْغانَكُمْ﴾ ﴿ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ فَمِنكم مَن يَبْخَلُ ومَن يَبْخَلُ فَإنَّما يَبْخَلُ عن نَفْسِهِ واللهُ الغَنِيُّ وأنْتُمُ الفُقَراءُ وإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما الحَياةُ الدُنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ﴾ تَحْقِيرٌ لِأمْرِ الدُنْيا، أيْ: فَلا تَهِنُوا في الجِهادِ بِسَبَبِها، ووَصَفَها بِاللَعِبِ واللهْوِ هو عَلى أنَّها وما فِيها مِمّا يُخْتَصُّ بِها لَعِبٌ ولَهْوٌ، وإلّا فَفي الدُنْيا ما لَيْسَ بِلَعِبٍ ولا لَهْوٍ وهو الطاعَةُ وأمْرُ الآخِرَةِ وما جَرى مَجْراهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا يُؤْتِكم أُجُورَكُمْ﴾ مَعْناهُ: هَذا هو المَطْلُوبُ مِنكم لا غَيْرُهُ، لا تَسْألُونَ أمْوالَكم أنْ تُنْفِقُوها في سَبِيلِ اللهِ، وقالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: المَعْنى: لا يَسْألُكم كَثِيرًا مِن أمْوالِكم إحْفاءً، إنَّما يَسْألُكم غَيْضًا مِن فَيْضٍ، رُبْعُ العُشْرِ، فَطَيَّبُوا أنْفُسَكُمْ، ثُمَّ قالَ تَعالى مُنَبِّهًا عَلى خُلُقِ ابْنِ آدَمَ: ﴿إنْ يَسْألْكُمُوها فَيُحْفِكم تَبْخَلُوا﴾، والإحْفاءُ هو أشَدُّ السُؤالِ، وهو المُخْجِلُ المُخْرِجُ ما عِنْدَ المَسْؤُولِ كُرْهًا، ومِنهُ حَفاءُ الرَجُلِ والتَحَفِّي مِنَ البَحْثِ عَنِ الشَيْءِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "تَبْخَلُوا"﴾ جُزِمَ عَلى جَوابِ شَرْطٍ، وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "وَيَخْرُجُ" جَزْمًا عَلى "تَبْخَلُوا"، وقَرَأ عَبْدُ الوارِثِ عن أبِي عَمْرٍو: (p-٦٦٢)"وَيَخْرُجُ" بِالرَفْعِ عَلى القَطْعِ بِمَعْنى: وهو يَخْرُجُ، وحَكاها أبُو حاتِمٍ عن عِيسى، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "وَيَخْرُجُ" بِالنَصْبِ عَلى مَعْنى: يَكُنْ بُخْلٌ وإخْراجٌ، فَلَمّا جاءَتِ العِبارَةُ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلى أنَّ "أنَّ" الَّتِي مَعَ الفِعْلِ بِتَأْوِيلِ المَصْدَرِ الَّذِي هو الإخْراجُ، والفاعِلُ في قَوْلِهِ تَعالى: "وَيُخْرِجْ" عَلى كُلِّ الِاخْتِلافاتِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اللهُ تَعالى، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ البُخْلُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ اللَفْظُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ السُؤالُ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ اللَفْظُ أيْضًا، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ سِيرِينِ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وأيُّوبَ: "وَيَخْرُجُ" بِفَتْحِ الياءِ "أضْغانَكُمْ" رَفْعًا عَلى أنَّها فاعِلَةٌ، ورُوِيَ عنهم "وَتَخْرُجُ" بِضَمِّ التاءِ وفَتْحِ الراءِ عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، وقَرَأ يَعْقُوبُ: "وَنُخْرِجُ" بِضَمِّ النُونِ وكَسْرِ الراءِ "أضْغانَكُمْ" نَصْبًا. و"الأضْغانُ" كَما قُلْنا: مُعْتَقَداتُ السُوءِ، وهَذا الَّذِي كانَ يَخافُ أنْ يَعْتَرِيَ المُسْلِمِينَ هو الَّذِي تُقَرِّبُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ إلى كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ حِينَ قالَ لَهُ: إنَّ هَذا الرَجُلَ قَدْ أكْثَرَ عَلَيْنا وطَلَبَ مِنّا الأمْوالَ. ثُمَّ وقَفَ تَعالى عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ عَلى جِهَةِ التَوْبِيخِ لِبَعْضِهِمْ: ﴿ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ﴾، وكَرَّرَ هاءَ التَنْبِيهِ تَأْكِيدًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عن نَفْسِهِ﴾ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: فَإنَّما يَبْخَلُ عن شُحِّ نَفْسِهِ، والآخَرُ أنْ يَكُونَ بِمَنزِلَةِ "عَلى" لِأنَّكَ تَقُولُ: بَخِلْتُ عَلَيْكَ بِكَذا وبَخِلْتُ عنكَ بِمَعْنى أمْسَكْتُ عنكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللهُ الغَنِيُّ وأنْتُمُ الفُقَراءُ﴾ مَعْنًى مُطَّرِدٌ في قَلِيلِ الأشْياءِ وكَثِيرِها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ قِيلَ: الخِطابُ لِقُرَيْشٍ، والقَوْمُ الغَيْرُ هم أهْلُ المَدِينَةِ، وقالَ عَبْدُ الرَحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ وشُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ: الخِطابُ لِمَن حَضَرَ المَدِينَةَ، والقَوْمُ الغَيْرُ هم أهْلُ اليَمَنِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: الخِطابُ لِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ والمُشْرِكِينَ والعَرَبِ حِينَئِذٍ، والقَرْمُ الغَيْرُ فارِسٍ. ورَوى أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ سُئِلَ عن هَذا وكانَ سَلْمانُ إلى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلى فَخْذِهِ وقالَ: "قَوْمٌ هَذا، لَوْ كانَ الدَيْنُ في الثُرَيّا لَنالَهُ رِجالٌ مِن أهْلِ فارِسٍ"،» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ﴾ (p-٦٦٣)مَعْناهُ: في الخِلافِ والتَوَلِّي والبُخْلِ بِالأمْوالِ ونَحْوِ هَذا، وحَكى الثَعْلَبِيُّ قَوْلًا أنَّ القَوْمَ الغَيْرُ هُمُ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَلامُ. كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ مُحَمَّدٍ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب