الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أضْغانَهُمْ﴾ ﴿وَلَوْ نَشاءُ لأرَيْناكَهم فَلَعَرَفْتَهم بِسِيماهم ولَتَعْرِفَنَّهم في لَحْنِ القَوْلِ واللهُ يَعْلَمُ أعْمالَكُمْ﴾ ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكم حَتّى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنكم والصابِرِينَ ونَبْلُوَ أخْبارَكُمْ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عن سَبِيلِ اللهِ وشاقُّوا الرَسُولَ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهِ شَيْئًا وسَيُحْبِطُ أعْمالَهُمْ﴾ هَذِهِ الآيَةُ تَوْبِيخٌ لِلْمُنافِقِينَ وفَضْحٌ لَهُمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ حَسِبَ﴾ تَوْقِيفٌ، وهي "أمْ" المُنْقَطِعَةُ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَرَضِ القَلْبِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ (p-٦٥٦)أضْغانَهُمْ﴾ أيْ يُبْدِيها مِن مَكانِها في نُفُوسِهِمْ، و"الضَغَنُ": الحِقْدُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ نَشاءُ لأرَيْناكَهُمْ﴾ مُقارَبَةٌ في شُهْرَتِهِمْ، ولَكِنَّهُ تَعالى لَمْ يُعَيِّنْهم قَطُّ بِالأسْماءِ والتَعْرِيفِ التامِّ إبْقاءً عَلَيْهِمْ وعَلى قَراباتِهِمْ وإنْ كانُوا قَدْ عُرِفُوا بِلَحْنِ القَوْلِ، وكانُوا في الِاشْتِهارِ عَلى مَراتِبَ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، والجِدِّ بْنِ قَيْسٍ وغَيْرِهِمْ مِمَّنْ دُونَهم في الشُهْرَةِ، و"السِيما": العَلامَةُ الَّتِي كانَ تَعالى يَجْعَلُ لَهم لَوْ أرادَ التَعْرِيفَ التامَّ بِهِمْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والضَحّاكُ: إنَّ اللهَ تَعالى قَدْ عَرَفَهُ بِهِمْ في سُورَةِ بَراءَةَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تُصَلِّ عَلى أحَدٍ مِنهم ماتَ أبَدًا﴾ [التوبة: ٨٤]، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدًا ولَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا﴾ [التوبة: ٨٣]، وهَذا في الحَقِيقَةِ لَيْسَ بِتَعْرِيفٍ تامٍّ، بَلْ هو لَفْظٌ يُشِيرُ إلَيْهِمْ عَلى الإجْمالِ لا أنَّهُ سَمّى أحَدًا، وأعْظَمُ ما رُوِيَ في اشْتِهارِهِمْ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ أمَرَ يَوْمًا فَأُخْرِجَتْ مِنهم جَماعَةٌ مِنَ المَسْجِدِ، كَأنَّهُ وسَمَهم بِهَذا، لَكِنَّهم أقامُوا عَلى التَبَرِّي مِن ذَلِكَ وتَمَسَّكُوا بِلا إلَهَ إلّا اللهُ فَحُقِنَتْ دِماؤُهم.» ورُوِيَ عن حُذَيْفَةَ ما يَقْتَضِي أنَّ النَبِيَّ ﷺ عَرَّفَهُ بِهِمْ أو بِبَعْضِهِمْ، ولَهُ في ذَلِكَ كَلامٌ مَعَ عُمْرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما. (p-٦٥٧)ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ سَيَعْرِفُهم في لَحْنِ القَوْلِ، ومَعْناهُ: في مَذْهَبِ القَوْلِ ومَنحاهُ ومَقْصِدِهِ، وهَذا هو كَما يَقُولُ لَكَ إنْسانٌ مُعْتَقَدُهُ وتَفْهَمُ أنْتَ مِن مَقاطِعِ كَلامِهِ وهَيْئَتِهِ وقَرائِنِ أمْرِهِ أنَّهُ عَلى خِلافِ ما يَقُولُ، وهَذا مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِي لَحْنِ القَوْلِ﴾، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "فَلَعَلَّ بَعْضُكم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ"» الحَدِيثُ، أيْ أذْهَبُ بِها في جِهاتِ الكَلامِ، وقَدْ يَكُونُ هَذا اللَحْنُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، أنْ يَقُولَ الإنْسانُ قَوْلًا يَفْهَمُ السامِعُونَ مِنهُ مَعْنًى، ويَفْهَمُ الَّذِي اتَّفَقَ مَعَ المُتَكَلِّمِ مَعْنًى آخَرَ، ومِنهُ الحَدِيثُ الَّذِي «قالَ سَعْدُ بْنُ مُعاذٍ وابْنُ رَواحَةَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: عَضَلُ والقارَّةُ،» وفي هَذا المَعْنى قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ وخَيْرُ الحَدِيثِ ما كانَ لَحْنًا (p-٦٥٨)أيْ: ما فَهِمَهُ عنكَ صاحِبُكَ وخَفِيَ عَلى غَيْرِكَ، فَأخْبَرَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ أنَّ أقْوالَهُمُ المُحْرِقَةَ الَّتِي هي عَلى خِلافِ عَقْدِهِمْ سَتَتَبَيَّنُ لَهُ فَيُعَرِّفُهم بِها، واحْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ مَن جَعَلَ في التَعْرِيضِ بِالقَذْفِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللهُ يَعْلَمُ أعْمالَكُمْ﴾ مُخاطَبَةٌ لِلْجَمِيعِ مِن مُؤْمِنٍ وكافِرٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ" بِالنُونِ، وكَذَلِكَ "يَعْلَمُ" وكَذَلِكَ "يَبْلُوا"، ورَوى رُوَيْسُ عن يَعْقُوبَ: "وَنَبْلُو" بِالرَفْعِ عَلى القَطْعِ والإعْلامِ بِأنَّ ابْتِلاءَهُ دائِمٌ، وكانَ الفُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ إذا قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ بَكى وقالَ: اللهُمَّ، لا تَبْتَلِنا فَإنَّكَ إنْ بَلَوْتَنا فَضَحْتَنا وهَتَكْتَ أسْتارَنا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنكم والصابِرِينَ﴾ مَعْناهُ: حَتّى نَعْلَمَهم مُجاهِدِينَ قَدْ خَرَجَ جِهادُهم إلى الوُجُودِ، وبانَ تَكْسُّبُهُمُ الَّذِي بِهِ يَتَعَلَّقُ ثَوابُهُمْ، وعَلِمَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى بِالمُجاهِدِينَ قَدِيمٌ أزَلِيٌّ، وإنَّما المَعْنى ما ذَكَرْناهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَصَدُّوا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: وصَدُّوا غَيْرَهُمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِمَعْنى؟ وصَدُّوهم في أنْفُسِهِمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَشاقُّوا الرَسُولَ﴾ مَعْناهُ: خالَفُوهُ فَكانُوا في شِقٍّ وهو ﷺ في شِقٍّ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى﴾ قالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ فَعَلُوا هَذِهِ الأفاعِيلَ بَعْدَ تَبَيُّنِهِمْ لِأمْرِ (p-٦٥٩)مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ التَوْراةِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ المُنافِقِينَ حَدَثَ النِفاقُ في نُفُوسِهِمْ بَعْدَ ما كانَ الإيمانُ داخَلَها، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: نَزَلَتْ في المَطْعَمَيْنِ سَفْرَةِ بَدْرٍ، و"تُبَيِّنُ الهُدى" هو وُجُودُهُ عِنْدَ الداعِي إلَيْهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ هي عامَّةٌ في كُلِّ كافِرٍ، وألْزَمَهم أنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى مِن حَيْثُ كانَ الهُدى بَيِّنًا في نَفْسِهِ، وهَذا كَما تَقُولُ لِإنْسانٍ يُخالِفُكَ في احْتِجاجٍ عَلى مَعْنى التَوْبِيخِ لَهُ: أنْتَ تُخالِفُ في شَيْءٍ لا خَفاءَ بِهِ عَلَيْكَ، بِمَعْنى أنَّهُ هو هَكَذا في نَفْسِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ تَحْقِيرٌ لَهُمْ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وَسَيُحْبِطُ أعْمالَهُمْ﴾ أمّا عَلى قَوْلِ مَن يَرى أنَّ أعْمالَهُمُ الصالِحَةَ مِن صِلَةِ رَحِمٍ ونَحْوِهِ تُكْتَبُ، فَيَجِيءُ هَذا الإحْباطُ فِيها مُتَمَكِّنًا، وأمّا عَلى قَوْلِ مَن لا يَرى ذَلِكَ فَمَعْنى "سَيُحْبِطُ" أنَّها عِبارَةٌ عن إعْدامِ أعْمالِهِمْ وإفْسادِها وأنَّها لا تُوجَدُ شَيْئًا مُنْتَفِعًا بِهِ، فَذَلِكَ إحْباطٌ عَلى تَشْبِيهٍ واسْتِعارَةٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب