الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى الشَيْطانُ سَوَّلَ لَهُمُ وأمْلى لَهُمُ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكم في بَعْضِ الأمْرِ واللهُ يَعْلَمُ إسْرارَهُمْ﴾ ﴿فَكَيْفَ إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهُمْ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللهَ وكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأحْبَطَ أعْمالَهُمْ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ﴾ تَوْقِيفٌ وتَوْبِيخٌ، وتَدَبُّرُ القُرْآنِ. زَعِيمٌ بِالتَبْيِينِ (p-٦٥٤)والهُدى، و"أمْ" مُنْقَطِعَةٌ وهي المَقَدَّرَةُ بِبَلْ وألِفُ الِاسْتِفْهامِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها﴾ اسْتِعارَةٌ لِلرَّيْنِ الَّذِي مَنَعَهُمُ الإيمانُ، ويُرْوى «أنَّ وفْدَ اليَمَنِ وفَدَ عَلى النَبِيِّ ﷺ وفِيهِمْ شابٌّ، فَقَرَأ رَسُولُ اللهِ ﷺ هَذِهِ الآيَةَ، فَقالَ الفَتى: عَلَيْها أقْفالُها حَتّى يَفْتَحَها اللهُ ويُفَرِّجَها، قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: فَعَظُمَ في عَيْنِي، فَما زالَتْ في نَفْسِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ حَتّى ولِيَ الخِلافَةَ فاسْتَعانَ بِذَلِكَ الفَتى.» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمْ﴾ الآيَةُ، قالَ قَتادَةُ: إنَّها نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ اليَهُودِ كانُوا قَدْ عَرَفُوا مِنَ التَوْراةِ أمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ وتَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى بِهَذا الوَجْهِ، فَلَمّا باشَرُوا أمْرَهُ حَسَدُوهُ فارْتَدُّوا عن ذَلِكَ القَدْرِ مِنَ الهُدى، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما وغَيْرُهُ: نَزَلَتْ في مُنافِقِينَ كانُوا أسْلَمُوا ثُمَّ نافَقَتْ قُلُوبُهُمْ، والآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ مَن دَخَلَ في ضِمْنِ لَفْظِها غابِرَ الدَهْرِ، و"سَوَّلَ" مَعْناهُ: رَجاهم سُؤْلُهم وأمانِيهِمْ، وقالَ أبُو الفَتْحِ عن أبِي عَلِيٍّ: أنَّهُ بِمَعْنى: دَلّاهُمْ، مَأْخُوذٌ مِنَ السَوَلِ: وهو الِاسْتِرْخاءُ والتَدَلِّي، وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: ﴿ "وَأمْلى لَهُمْ"،﴾ وأمالَ ابْنُ كَثِيرٍ، وشِبْلُ، وابْنُ مُصَرِّفٍ "أمْلى"، وفاعِلُ "أمْلى" هُنا قالَ الحَسَنُ: هو الشَيْطانُ، جَعَلَ وعْدَهُ الكاذِبَ بِالبَقاءِ كالإبْقاءِ، وذَلِكَ أنَّ الإمْلاءَ هو الإبْقاءُ مِلاوَةً مِنَ الدَهْرِ، يُقالُ: مِلاوَةٌ ومُلاوَةٌ ومَلاوَةٌ بِضَمِّ المِيمِ وفَتْحِها وكَسْرِها، وهي القِطْعَةُ مِنَ الزَمانِ، ومِنهُ "المَلَوانِ"، وهُما اللَيْلُ والنَهارُ، فَإذا أمْلى الشَيْطانُ إمْلاءً لا صِحَّةَ لَهُ إلّا بِطَمَعِهِمُ الكاذِبِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ في "أمْلى" اللهُ عَزَّ وجَلَّ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: الشَيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ، وأمْلى اللهُ لَهُمْ، وحَقِيقَةُ الإمْلاءِ إنَّما هو بِيَدِ اللهِ تَعالى، وهَذا هو الأرْجَحُ. وقَرَأ الأعْرَجُ، ومُجاهِدٌ، والجَحْدَرِيُّ، والأعْمَشُ: "وَأُمْلِي لَهُمْ" بِضَمِّ الهَمْزَةِ وكَسْرِ اللامِ وإرْسالِ ياءِ المُتَكَلِّمِ، ورَواها الخِفافُ عن أبِي عَمْرٍو، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: "وَأُمْلِيَ" بِفَتْحِ الياءِ عَلى بِناءِ الفِعْلِ (p-٦٥٥)لِلْمَفْعُولِ، وهي قِراءَةُ شَيْبَةَ، وابْنِ سِيرِينَ، والجَحْدَرِيِّ، وعِيسى البَصَرِيِّ، وعِيسى الهَمَذانِيِّ، وهَذا يَحْتَمِلُ فاعِلَهُ مِنَ الخِلافِ ما في القِراءَةِ الأُولى. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا﴾ الآيَةُ، قِيلَ: إنَّها نَزَلَتْ في بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا﴾، ورُوِيَ أنَّ قَوْمًا مِن قُرَيْظَةَ والنَضِيرَ كانُوا يَعُدُّونَ المُنافِقِينَ في أمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ والخِلافُ عَلَيْهِ بِنَصْرٍ ومُوازَرَةٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: ﴿سَنُطِيعُكم في بَعْضِ الأمْرِ﴾. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "أسْرارَهُمْ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وذَلِكَ عَلى جَمْعِ "سَرٍّ" لِأنَّ أسْرارَهم كانَتْ كَثِيرَةً، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ: "إسْرارَهُمْ" بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وهي قِراءَةُ ابْنِ وثّابٍ، وطَلْحَةَ، والأعْمَشِ، وعِيسى، وهو مَصْدَرُ اسْمِ الجِنْسِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَكَيْفَ إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ﴾ الآيَةُ، يُحْتَمَلُ أنْ يَتَوَعَّدُوا بِها، وأنَّها عَلى مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما هَذا هَلَعُهم وجَزَعُهم لِفَرْضِ القِتالِ وقِراعِ الأعْداءِ، فَكَيْفَ فَزَعُهم وجَزَعُهم إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ؟ والثانِي أنْ يُرِيدَ: هَذِهِ مَعاصِيهِمْ وعِنادُهم وكُفْرُهُمْ، فَكَيْفَ تَكُونُ حالُهم مَعَ اللهِ تَعالى إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ؟ وقالَ الطَبَرِيُّ: المَعْنى: واللهُ أعْلَمُ بِإسْرارِهِمْ، فَكَيْفَ عِلْمُهُ بِها إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ؟ وهم هُنا مَلَكُ المَوْتِ والمُتَصَرِّفُونَ مَعَهُ، والضَمِيرُ في "يَضْرِبُونَ" لِلْمَلائِكَةِ الَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ فَذَلِكَ ضَعِيفٌ. و﴿ما أسْخَطَ اللهَ﴾ هو الكُفْرُ، و"الرِضْوانُ" هُنا: الشَرْعُ والحَقُّ المُؤَدِّي إلى الرِضْوانِ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأحْبَطَ أعْمالَهُمْ﴾، وقَرَأ الأعْمَشُ: فَكَيْفَ إذا تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب