الباحث القرآني

(p-٦٤٨)قوله عزّ وجلّ: ﴿والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهم هُدًى وآتاهم تَقْواهُمْ﴾ ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلا الساعَةَ أنْ تَأْتِيَهم بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أشْراطُها فَأنّى لَهم إذا جاءَتْهم ذِكْراهُمْ﴾ ﴿فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلَهَ إلا اللهُ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ولِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ واللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكم ومَثْواكُمْ﴾ لَمّا ذَكَرَ تَعالى المُنافِقِينَ بِما هم أهْلُهُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ﴾ [محمد: ١٦] عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ المُؤْمِنِينَ، فَبَيَّنَ الفَرْقَ، وشَرَّفَهم بِإسْنادِ فِعْلِ الِاهْتِداءِ إلَيْهِمْ، وهي إشارَةٌ إلى تَكَسُّبِهِمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿زادَهم هُدًى﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ في "زادَهُمُ" اللهُ تَعالى، والزِيادَةُ في هَذا المَعْنى تَكُونُ إمّا بِزِيادَةِ التَفْهِيمِ والأدِلَّةِ، وإمّا بِوُرُودِ الشَرائِعِ والنَواهِي والأخْبارِ، فَيَزِيدُ الِاهْتِداءُ لِتَزِيدَ عِلْمَ ذَلِكَ كُلِّهِ والإيمانَ بِهِ، وذَلِكَ بِفَضْلِ اللهِ تَعالى، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ في "زادَهُمْ" قَوْلُ المُنافِقِينَ واضْطِرابُهُمْ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مِمّا يَتَعَجَّبُ المُؤْمِنُ مِنهُ، ويَحْمَدُ اللهَ عَلى إيمانِهِ، ويَتَزَيَّدُ بَصِيرَةً في دِينِهِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: والمُهْتَدُونَ المُؤْمِنُونَ زادَهم فِعْلُ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ هُدًى، أيْ: كانَتِ الزِيادَةُ بِسَبَبِهِ، فَأسْنَدَ الفِعْلَ إلَيْهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ النَصارى آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فالفاعِلُ في "زادَهُمْ" مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، كانَ سَبَبَ الزِيادَةِ فَأسْنَدَ الفِعْلَ إلَيْهِ، وقَوْلُهُ تَعالى - عَلى هَذا القَوْلِ -: ﴿ "اهْتَدَوْا"﴾ يُرِيدُ تَعالى: في إيمانِهِمْ بِعِيسى عَلَيْهِ السَلامُ، ثُمَّ زادَهم مُحَمَّدٌ ﷺ هُدًى حِينَ آمَنُوا بِهِ، والفاعِلُ في "آتاهُمْ" يَتَصَرَّفُ القَوْلُ بِحَسَبِ التَأْوِيلاتِ المَذْكُورَةِ، وأقْواها أنَّ الفاعِلَ اللهُ تَعالى، و"آتاهُمْ" مَعْناهُ: أعْطاهُمْ، أيْ: جَعَلَهم مُتَّقِينَ لَهُ، والتَقْدِيرُ: تَقْواهم إيّاهُ، وقَرَأ الأعْمَشُ: "وَأنْطاهُمْ"، وهي بِمَعْنى أعْطاهُمْ، ورَواها مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ عن أبِيهِ، وهي في مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ﴾ يُرِيدُ المُنافِقِينَ، والمَعْنى: يَنْتَظِرُونَ، أيْ: هَكَذا هو الأمْرُ في نَفْسِهِ وإنْ كانُوا هم في أنْفُسِهِمْ يَنْتَظِرُونَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإنَّ ما في أنْفُسِهِمْ غَيْرُ مُراعًى لِأنَّهُ باطِلٌ. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "أنْ تَأْتِيَهُمْ" فَـ"أنْ" بَدَلٌ مِنَ "الساعَةَ"، وقَوْلُهُ تَعالى - عَلى هَذِهِ القِراءَةِ -: ﴿فَقَدْ جاءَ أشْراطُها﴾ إخْبارٌ مُسْتَأْنَفٌ، والفاءُ عاطِفَةٌ جُمْلَةً مِنَ الكَلامِ عَلى جُمْلَةٍ. وقَرَأ أهْلُ مَكَّةَ - فِيما رَوى الرُؤاسِيُّ -: "إنْ تَأْتِهِمْ" بِكَسْرِ الألِفِ (p-٦٤٩)وَجَزَمَ الفِعْلَ عَلى الشَرْطِ، والفاءَ "فَقَدْ" جَوابُ الشَرْطِ، ولَيْسَتْ بِعاطِفَةٍ عَلى القِراءَةِ الأُولى فَثَمَّ نَحْوُ مِن مَعْنى الشَرْطِ، و"بَغْتَةً" مَعْناهُ: فَجْأةً، ورُوِيَ عن أبِي عَمْرٍو: "بَغَتَّةً" بِفَتْحِ الغَيْنِ وشَدِّ التاءِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقَدْ جاءَ أشْراطُها﴾ - عَلى القِراءَتَيْنِ - مَعْناهُ: فَيَنْبَغِي أنْ يَقَعَ الِاسْتِعْدادُ والخَوْفُ مِنها لِمَن جَزَمَ ونَظَّرَ لِنَفَسِهِ، والَّذِي جاءَ مِن أشْراطِ الساعَةِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ لِأنَّهُ آخِرُ الأنْبِياءِ، فَقَدْ بانَ مِن أمْرِ الساعَةِ قَدْرٌ ما، وفي الحَدِيثِ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ قالَ: "أنا مِن أشْراطِ الساعَةِ"،» وقالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "بُعِثْتُ أنا والساعَةُ كَهاتَيْنِ" وأشارَ بِإصْبَعَيْهِ» "وَكَفَرَسَيِّ رِهانٍ"، ويُقالُ: شَرْطٌ أو أشْراطٌ بِسُكُونِ الراءِ وتَخْفِيفِها، وأشْرَطَ الرَجُلُ نَفْسَهُ: ألْزَمَها أُمُورًا، وقالَ أوسُ بْنُ حُجْرٍ: ؎ فَأشْرَطَ فِيها نَفْسَهُ وهو مِعْصَمٌ ∗∗∗ وألْقى بِأسْبابٍ لَهُ وتَوَكَّلا وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأنّى لَهُمْ﴾ الآيَةُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: فَأنّى لَهُمُ الخَلاصُ أوِ النَجاةُ إذا جاءَتْهُمُ الذِكْرى بِما كانُوا يُخْبِرُونَ بِهِ في الدُنْيا فَيُكَذِّبُونَ بِهِ وجاءَهُمُ العَذابُ مَعَ ذَلِكَ؟ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: فَأنّى لَهم ذِكْراهم وعَمَلَهم بِحَسْبِها إذا جاءَتْهُمُ الساعَةُ؟ وهَذا تَأْوِيلُ قَتادَةَ، نَظِيرُهُ ﴿وَأنّى لَهُمُ التَناوُشُ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ [سبإ: ٥٢]. (p-٦٥٠)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلَهَ إلا اللهُ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ الآيَةُ إضْرابٌ عن أمْرِ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ وذِكْرُ الأهَمِّ مِنَ الأمْرِ، والمَعْنى: دُمْ عَلى ذَلِكَ، وهَذا هو القانُونُ في كُلِّ أمْرٍ بِشَيْءٍ هو مُتَلَبِّسٌ بِهِ، وهَذا خِطابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وكُلُّ واحِدٍ مِنَ الأُمَّةِ داخِلٌ فِيهِ، واحْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ مَن قالَ مِن أهْلِ السُنَّةِ: إنَّ العِلْمَ والنَظَرَ قَبْلَ القَوْلِ، والإقْرارِ في مَسْألَةِ أوَّلِ الواجِباتِ، وبَوَّبَ البُخارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعالى: العِلْمَ قَبْلَ القَوْلِ والعَمَلِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلَهَ إلا اللهُ﴾، ﴿واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ الآيَةُ، وواجِبٌ عَلى كُلِّ مُؤْمِنٍ أنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ، ورَوى أبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "مَن لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ما يُتَصَدَّقُ بِهِ فاليَسْتَغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ فَإنَّها صَدَقَةٌ"» وقالَ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ: ﴿ "مُتَقَلَّبَكُمْ":﴾ تَصَرُّفَكم في يَقَظَتِكُمْ، ﴿ "وَمَثْواكُمْ":﴾ مَنامُكُمْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "مُتَقَلَّبَكُمْ": تَصَرُّفَكم في حَياتِكُمُ الدُنْيا، "وَمَثْواكُمْ": في إفاقَتِكم في قُبُورِكم وفي آخِرَتِكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب