الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ﴾ ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيها أنْهارٌ مِن ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وأنْهارٌ مِن لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وأنْهارٌ مِن خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ وأنْهارٌ مِن عَسَلٍ مُصَفًّى ولَهم فِيها مِن كُلِّ الثَمَراتِ ومَغْفِرَةٌ مِن رَبِّهِمْ كَمَن هو خالِدٌ في النارِ وسُقُوا ماءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أمْعاءَهُمْ﴾ ﴿وَمِنهم مَن يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتّى إذا خَرَجُوا مَن عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ماذا قالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَمَن كانَ﴾ الآيَةُ. تَوْقِيفٌ وتَقْرِيرٌ عَلى شَيْءٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وهي مُعادَلَةٌ بَيْنَ هَذَيْنَ الفَرِيقَيْنِ، وقالَ قَتادَةُ: الإشارَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ في أنَّهُ الَّذِي عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ، وإلى كُفّارِ قُرَيْشٍ في أنَّهُمُ الَّذِينَ زُيِّنَ لَهم سُوءُ أعْمالِهِمْ، وبَقِيَ اللَفْظُ عامًّا لِأهْلِ هاتَيْنِ الصِفَتَيْنِ غابِرَ الدَهْرِ. وقَوْلُهُ تَعالى:﴿عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾ مَعْناهُ: عَلى قَضِيَّةٍ واضِحَةٍ وعَقِيدَةٍ نَيِّرَةٍ بَيِّنَةٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: "عَلى أمْرٍ بَيِّنٍ ودِينٍ بَيِّنٍ" وألْحَقَ الهاءَ لِلْمُبالَغَةِ كَعَلّامَةٍ ونَسّابَةٍ، والَّذِي يُسْنَدُ إلَيْهِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ "زُيِّنَ"﴾ هو الشَيْطانُ، و"اتِّباعُ الأهْواءِ": طاعَتُها، كَأنَّها تَذْهَبُ إلى ناحِيَةٍ والمَرْءُ يَذْهَبُ مَعَها. واخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ﴾ الآيَةُ، فَقالَ النَضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ وغَيْرُهُ: "مَثَلُ" مَعْناهُ: صِفَةٌ، كَأنَّهُ قالَ: صِفَةُ الجَنَّةِ ما تَسْمَعُونَ فِيها كَذا وكَذا، وقالَ سِيبَوَيْهِ: المَعْنى: فِيما يُتْلى عَلَيْكم مَثَلُ الجَنَّةِ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ الَّذِي يُتْلى بِقَوْلِهِ: فِيها كَذا وكَذا، والَّذِي ساقَ إلى أنْ تَجْعَلَ "مَثَلُ" بِمَثابَةِ "صِفَةٍ" هو أنَّ المُمَثَّلَ بِهِ لَيْسَ في الآيَةِ، ويَظْهَرُ أنَّ القَصْدَ في التَمْثِيلِ هو إلى الشَيْءِ الَّذِي يَتَخَيَّلُهُ المَرْءُ عِنْدَ سَماعِهِ: "فِيها كَذا وكَذا"، فَإنَّهُ يَتَصَوَّرُ عِنْدَ ذَلِكَ بِقاعًا عَلى هَذِهِ الصُورَةِ، وذَلِكَ هي مَثَلُ الجَنَّةِ ومِثالُها، أو (p-٦٤٦)فِي الكَلامِ حَذْفٌ يَقْتَضِيهِ الظاهِرُ، كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: مَثَلُ الجَنَّةِ ظاهِرٌ في نَفْسِ مَن وعى هَذِهِ الأوصافَ. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "مِثالُ الجَنَّةِ"، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ أيْضًا، وابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "أمْثالُ الجَنَّةِ"، وعَلى هَذِهِ التَأْوِيلاتِ كُلِّها فَفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَمَن هو خالِدٌ﴾ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أساكِنُ هَذِهِ؟ أو تَقْدِيرُهُ: أهَؤُلاءِ؟ إشارَةٌ إلى المُتَّقِينَ، ويُحْتَمَلُ عِنْدِي أيْضًا أنْ يَكُونَ الحَذْفُ في صَدْرِ الآيَةِ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: أمَثَلُ أهْلِ الجَنَّةِ كَمَن هو خالِدٌ في النارِ؟ ويَكُونُ قَوْلُهُ مُسْتَفْهِمًا عنهُ بِغَيْرِ ألِفِ اسْتِفْهامٍ، فالمَعْنى: أمَثَلُ أهْلِ الجَنَّةِ - وهي بِهَذِهِ الأوصافِ - كَمَن هو خالِدٌ في النارِ؟ فَتَكُونُ الكافُ في قَوْلِهِ تَعالى: "كَمَن" مُؤَكِّدَةٌ لِلتَّشْبِيهِ، ويَجِيءُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "فِيها أنْهارٌ"﴾ في مَوْضِعِ الحالِ عَلى هَذا التَأْوِيلِ. و﴿ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ مَعْناهُ: غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ: وقَتادَةُ، وسَواءٌ أُنْتِنَ أو لَمْ يُنْتَنْ، يُقالُ: أسِنَ الماءُ - بِفَتْحِ السِينِ - وأسِنَ بِكَسْرِها - وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: ﴿ "آسِنٍ"﴾ عَلى وزْنِ فاعِلٍ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "أسِنَ" عَلى وزْنِ فَعِلَ، وهي قِراءَةُ أهْلِ مَكَّةَ، والأسْنُ: الَّذِي يَخْشى عَلَيْهِ مِن رِيحٍ مُنْتِنَةٍ مِن ماءٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ التارِكُ القَرْنَ مُصْفَرًّا أنامِلُهُ ∗∗∗ يَمِيلُ في الرُمْحِ مَيْلَ المائِحِ الأسِنِ وقالَ الأخْفَشُ: "آسِنٍ" لُغَةٌ، والمَعْنى الإخْبارُ بِهِ عَنِ الحالِ، ومَن قالَ: "آسِنٍ" عَلى وزْنِ فاعِلٍ، فَهو يُرِيدُ بِهِ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ في المُسْتَقْبَلِ، فَنَفى ذَلِكَ في الآيَةِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "غَيْرَ يَسِنٍ" بِالياءِ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: وذَلِكَ عَلى تَخْفِيفِ الهَمْزِ، قالَ أبُو حاتِمٍ عن عَوْفٍ: كَذَلِكَ كانَتْ في المُصْحَفِ "غَيْرَ يَسِنٍ" فَغَيَّرَها الحَجّاجُ. (p-٦٤٧)وَقَوْلُهُ تَعالى في اللَبَنِ: ﴿لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ نَفْيٌ لِجَمِيعِ وُجُوهِ الفَسادِ في اللَبَنِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ﴾ جَمَعْتُ طِيبَ المَطْعَمِ وزَوالَ الآفاتِ مِنَ الصُداعِ وغَيْرَهُ، و"لَذَّةٍ" نَعْتٌ عَلى النَسَبِ، أيْ: ذاتُ لَذَّةٍ، وتَصْفِيَةُ العَسَلِ مُذْهِبَةٌ لِبَوْسَتِهِ وضَرَرِهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن كُلِّ الثَمَراتِ﴾ أيْ: مِن هَذِهِ الأنْواعِ، لَكِنَّها بَعِيدَةُ الشَبَهِ، إذْ تِلْكَ لا عَيْبَ فِيها ولا تَعَبَ بِوَجْهٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَغْفِرَةٌ مِن رَبِّهِمْ﴾ مَعْناهُ: وتَنْعِيمٌ أعْطَتْهُ المَغْفِرَةُ وسَبَّبَتْهُ؛ وإلّا فالمَغْفِرَةُ إنَّما هي قَبْلَ الجَنَّةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "وَسُقُوا"﴾ الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى "مَن" لِأنَّ المُرادَ بِهِ جَمْعٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِنهم مَن يَسْتَمِعُ إلَيْكَ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ المُنافِقِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ، وذَلِكَ أنَّهم كانُوا يَحْضُرُونَ عِنْدَ النَبِيِّ ﷺ ويَسْمَعُونَ كَلامَهُ وتِلاوَتَهُ، فَإذا خَرَجُوا قالَ بَعْضُهم لِمَن شاءَ مِنَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ عَمِلُوا وانْتَفَعُوا: ﴿ماذا قالَ آنِفًا﴾ ؟ فَكانَ مِنهم مَن يَقُولُ هَذا اسْتِخْفافًا، أيْ: ما مَعْنى ما قالَ؟ وما نَفْعُهُ؟ وما قَدْرُهُ؟ ومِنهم مَن كانَ يَقُولُ ذَلِكَ جَهْلًا ونَسْيانًا لِأنَّهُ كانَ في وقْتِ الكَلامِ مُقْبِلًا عَلى فِكْرَتِهِ في أمْرِ دُنْياهُ وفي كُفْرِهِ، فَكانَ القَوْلُ يَمُرُّ صَفْحًا، فَإذا خَرَجَ قالَ: ﴿ماذا قالَ آنِفًا﴾ ؟ وهَذا أيْضًا فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِخْفافِ لِأنَّهُ كانَ يُصَرِّحُ أنَّهُ كانَ يَقْصِدُ الإعْراضَ وقْتَ الكَلامِ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِقَصْدٍ لَمٍ يَبْعُدْ أنْ يَجْرِيَ عَلى بَعْضِ المُؤْمِنِينَ، ورُوِيَ أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما مِمَّنْ سُئِلَ هَذا السُؤالَ، حَكاهُ الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما. و" آنِفًا" مَعْناهُ: مُبْتَدِئًا، كَأنَّهُ قالَ ما القَوْلُ الَّذِي ائْتَنَفَهُ الآنَ قَبْلَ انْفِصالِنا عنهُ؟ وقَرَأ الجُمْهُورُ: "آنِفًا" عَلى وزْنِ فاعِلٍ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحْدَهُ: "أنْفًا" عَلى وزْنِ فَعْلٍ، وهُما اسْما فاعِلٍ مِنِ "ائْتَنَفَ"، وجَرَيا عَلى غَيْرِ فِعْلِهِما، وهَذا كَما جَرى "فَقِيرٌ" عَلى "افْتَقَرَ" ولَمْ يُسْتَعْمَلْ "فَقْرٌ"، وهَذا كَثِيرٌ، والمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: "أنْفًا" مَعْناهُ: الساعَةُ الماضِيَةُ القَرِيبَةُ مِنّا، وهَذا تَفْسِيرٌ بِالمَعْنى. ثُمَّ أخْبَرَ تَبارَكَ وتَعالى أنَّهُ طَبَعَ عَلى قُلُوبِ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ الفاعِلِينَ لِهَذا، وهَذا الطَبْعُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حَقِيقَةً ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اسْتِعارَةً، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب