الباحث القرآني

(p-٦٣٥)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى النارِ ألَيْسَ هَذا بِالحَقِّ قالُوا بَلى ورَبِّنا قالَ فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ ﴿فاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُسُلِ ولا تَسْتَعْجِلْ لَهم كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلا ساعَةً مِنَ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إلا القَوْمُ الفاسِقُونَ﴾ المَعْنى: واذْكُرْ يَوْمَ، وهَذا وعِيدٌ لِلْكُفّارِ مِن قُرَيْشٍ وسِواهُمْ، و"العَرْضُ" -فِي هَذِهِ الآيَةِ- عَرْضُ مُباشَرَةٍ، كَما تَقُولُ: عَرَضْتُ الجانِي عَلى السَوْطِ، والمَعْنى: يُقالُ لَهُمْ: ألَيْسَ هَذا العَذابُ حَقًّا وقَدْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ؟ فَيُجِيبُونَ: بَلى ورَبِّنا، فَذَلِكَ تَصْدِيقٌ حَيْثُ لا يَنْفَعُ، ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: إنَّهم لِيَعُذَّبُونِ في النارِ وهم راضُونَ بِذَلِكَ لِأنْفُسِهِمْ، فَيَعْتَرِفُونَ أنَّهُ العَدْلُ، فَيَقُولُ لَهُمُ المَحاوِرُ مِنَ المَلائِكَةِ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أيْ: بِسَبَبِ كُفْرِكم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "فاصْبِرْ"﴾ الفاءُ عاطِفَةُ هَذِهِ الجُمْلَةِ مِنَ الوُصاةِ عَلى هَذِهِ الجُمْلَةِ مِنَ الإخْبارِ عن حالِ الكَفَرَةِ في الآخِرَةِ، والمَعْنى بَيْنَهُما مُرْتَبِطٌ، أيْ: هَذِهِ حالُهم مَعَ اللهِ تَعالى، فَلا تَسْتَعْجِلُ أنْتَ فِيما حَمَلَتْهُ، واصْبِرْ لَهُ، ولا تَخَفْ في اللهِ أحَدًا، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنَ الرُسُلِ﴾ تَبْعِيضٌ، والمُرادُ مَن حُفِظَتْ لَهُ مَعَ قَوْمِهِ شِدَّةٌ ومُجاهَدَةٌ كَنُوحٍ وإبْراهِيمَ ومُوسى وغَيْرِهِمْ صَلّى اللهُ عَلَيْهِمْ وسَلَّمَ، هَذا قَوْلُ عَطاءٍ الخُراسانِيِّ وغَيْرِهِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ ما مَعْناهُ: إنَّ "مِنَ" لِبَيانِ الجِنْسِ، قالَ: والرُسُلُ عَلَيْهِمُ الصَلاةُ والسَلامُ كُلُّهم أُولُو العَزْمِ، ولَكِنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُو العَزْمِ﴾ يَتَضَمَّنُ رُسُلًا وغَيْرَهُمْ، فَبَيَّنَ بَعْدِ ذَلِكَ جِنْسَ الرُسُلِ خاصَّةً تَعْظِيمًا لَهُمْ، ولِتَكُونَ القُدْوَةُ المَضْرُوبَةُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ أشْرَفَ، وذَكَرَ الثَعْلَبِيُّ هَذا القَوْلَ عن عَلِيِّ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَبَرِيِّ، وحُكِيَ عن أبِي القاسِمِ الحَكِيمِ أنَّهُ قالَ: الرُسُلُ عَلَيْهِمُ السَلامُ كُلُّهم أُولُو عَزْمٍ إلّا يُونُسُ ﷺ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ الفَضْلِ: هُمُ الثَمانِيَةَ عَشَرَ المَذْكُورِينَ في سُورَةِ الأنْعامِ، لِأنَّهُ تَبارَكَ وتَعالى قالَ بِعَقِبِ (p-٦٣٦)ذِكْرِهِمْ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠]. وقالَ مُقاتِلٌ: هم سِتَّةٌ: نُوحٌ صَبَرَ عَلى أذى قَوْمِهِ طَوِيلًا، وإبْراهِيمُ ﷺ صَبَرَ عَلى النارِ، وإسْحاقُ ﷺ صَبَرَ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ، ويَعْقُوبُ ﷺ صَبَرَ عَلى الفَقْدِ لِوَلَدِهِ وعَمى بَصَرُهُ، وقالَ "فَصَبْرٌ جَمِيلٌ" ويُوسُفُ ﷺ صَبَرَ عَلى السَجْنِ، وأيُّوبُ صَبَرَ عَلى البَلاءِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وانْظُرْ أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ في مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ: « "يَرْحَمُ اللهُ مُوسى، أُوذِيَ بِأكْثَرِ مِن هَذا فَصَبَرَ"»، ولا مَحالَةَ أنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ ورَسُولٍ عَزْمًا وصَبْرًا صَلّى اللهُ عَلَيْهِمْ وسَلَّمَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ مَعْناهُ: لا تَسْتَعْجِلُ لَهم عَذابًا، فَإنَّهم إلَيْهِ صائِرُونَ، ولا تَسْتَطِلْ تَعْمِيرَهم في هَذِهِ النِعْمَةِ، فَإنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ العَذابَ كَأنَّهم لَمْ يَلْبَثُوا في الدُنْيا إلّا ساعَةً، لِاحْتِقارِهِمْ ذَلِكَ، لِأنَّ المُنْقَضِي مِنَ الزَمانِ إنَّما يَصِيرُ عَدَمًا، فَكَثِيرُهُ الَّذِي ساءَتْ عاقِبَتُهُ كالقَلِيلِ. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "ساعَةً مِنَ النَهارِ"، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "بَلاغٌ" وذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَعانِي: أحَدُها: أنْ يَكُونَ خَبَرَ ابْتِداءٍ، المَعْنى: هَذا بَلاغٌ، وتَكُونُ الإشارَةُ بِـ"هَذا" إمّا إلى القُرْآنِ والشَرْعِ، أيْ: هَذا إنْذارٌ وتَبْلِيغٌ، وإمّا إلى المُدَّةِ الَّتِي تَكُونُ كَساعَةٍ مِنَ النَهارِ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً كانَتْ بَلاغَهُمْ، وهَذا كَما تَقُولُ: "مَتاعٌ قَلِيلٌ" ونَحْوُهُ مِنَ المَعْنى. والثانِي: أنْ يَكُونَ ابْتِداءً والخَبَرُ مَحْذُوفٌ. والثالِثُ: ما قالَهُ أبُو مَجْلَزٍ، فَإنَّهُ كانَ يَقِفُ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: "وَلا تَسْتَعْجِلْ"، ويَقُولُ: "بَلاغٌ" ابْتِداءٌ وخَبَرُهُ مُتَقَدِّمٌ في قَوْلِهِ تَعالى: "لَهُمْ"، وقَدَحَ الناسُ في هَذا القَوْلِ بِكَثِيرَةِ الحائِلِ، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي (p-٦٣٧)الحَسَنِ، وعِيسى: "بَلاغًا"، وهي قِراءَةٌ تَحْتَمِلُ المَعْنَيَيْنِ في قِراءَةِ الرَفْعِ، ولَيْسَ يَدْخُلُها قَوْلُ أبِي مِجْلَزٍ، ونَصَبَها بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وقَرَأ أبُو مِجْلَزٍ، وأبُو سِراجٍ الهُذَلِيُّ: "بَلِّغْ" عَلى الأمْرِ، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "بَلاغٍ" بِالخَفْضِ نَعْتًا للنَّهارِ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "فَهَلْ يُهْلَكُ"﴾ عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَجْهُولِ. وقَرَأ بَعْضُهم -فِيما حَكى هارُونُ-: "فَهَلْ يَهْلَكُ" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ وكَسْرِ اللامِ، وحَكاها أبُو عَمْرٍو عَنِ الحَسَنِ وابْنِ مُحَيْصِنٍ، وقَرَأ أبُو مُحَيْصِنٍ أيْضًا بِفَتْحِ الياءِ واللامِ. قالَ أبُو الفَتْحِ: وهي مَرْغُوبٌ عنها. ورَوى زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ «عَنِ النَبِيِّ ﷺ: "فَهَلْ يَهْلَكُ"» بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ اللامِ "إلّا القَوْمَ الفاسِقِينَ" بِالنَصْبِ. وفِي هَذِهِ الألْفاظِ وعِيدٌ مَحْضٌ وإنْذارٌ بَيِّنٌ، وذَلِكَ أنَّ اللهَ تَعالى جَعَلَ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أمْثالِها والسَيِّئَةَ بِمِثْلِها، وأمَرَ بِالطاعَةِ ووَعَدَ عَلَيْها بِالجَنَّةِ، ونَهى عَنِ الكُفْرِ وأوعَدَ عَلَيْهِ بِالنارِ، « "فَلَنْ يَهْلَكَ عَلى اللهِ إلّا هالِكٌ"» كَما قالَ ﷺ. قالَ الثَعْلَبِيًّ: يُقالُ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إلا القَوْمُ الفاسِقُونَ﴾ أرْجى آيَةً في كِتابِ اللهِ تَعالى لِلْمُؤْمِنِينَ. كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ الأحْقافِ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب