الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالُوا يا قَوْمَنا إنّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الحَقِّ وإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ﴿يا قَوْمَنا أجِيبُوا داعِيَ اللهِ وآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكم مِن ذُنُوبِكم ويُجِرْكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿وَمَن لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الأرْضِ ولَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أولِياءُ أُولَئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَماواتِ والأرْضَ ولَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أنَّ يُحْيِيَ المَوْتى بَلى إنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ المَعْنى: قالَ هَؤُلاءِ المُنْذِرُونَ لَمّا بَلَغُوا قَوْمَهُمْ: ﴿يا قَوْمَنا إنّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسى﴾، وهو القُرْآنُ العَظِيمُ، وخَصَّصُوا مُوسى ﷺ لِأحَدِ أمْرَيْنِ: إمّا لِأنَّ هَذِهِ الطائِفَةَ كانَتْ تَدِينُ بِدِينِ اليَهُودِ، وإمّا لِأنَّهم كانُوا يَعْرِفُونَ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدًا ﷺ وبَشَّرَ بِهِ، فَأشارُوا إلى مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ مِن حَيْثُ كانَ الأمْرُ مَذْكُورًا في تَوْراتِهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما في كِتابِ الثَعْلَبِيِّ: لَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا أمْرَ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ، فَلِذَلِكَ قالُوا: ﴿مِن بَعْدِ مُوسى﴾، وقَوْلُهُمْ: ﴿مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ يُؤَيِّدُ هَذا. و"ما بَيْنَ يَدَيْهِ" هي التَوْراةُ والإنْجِيلُ، و﴿ "الحَقِّ"﴾ و"الصِراطِ المُسْتَقِيمِ" هُنا بِمَعْنًى مُتَقارِبٍ، لَكِنَّ مِن حَيْثُ اخْتَلَفَ اللَفْظُ -وَرُبَّما كانَ الحَقُّ أعَمَّ- وكَأنَّ أحَدَهُما قَدْ يَقَعُ في مَواضِعَ لا يَقَعُ فِيها الآخَرُ، حَسَنُ التَكْرارِ. و"داعِيَ اللهِ" هو مُحَمَّدٌ ﷺ، والضَمِيرُ فِي: "بِهِ" عائِدٌ عَلى اللهِ تَعالى، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ مَعْناهُ: يَغْفِرُ اللهُ لَكم. ، وقَوْلُهُ: ﴿ "وَيُجِرْكُمْ"﴾ مَعْناهُ: يَمْنَعُكم ويَجْعَلُ دُونَكم جَوارٍ حِفْظِهِ حَتّى لا يَنالَكم عَذابٌ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ﴾ الآيَةُ، يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ المُنْذِرِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ اللهِ تَعالى لِمُحَمَّدٍ ﷺ، والمُرادُ (p-٦٣٤)بِها إسْماعُ الكُفّارِ، وتَعَلُّقُ اللَفْظِ إلى هَذا المَعْنى مِن قَوْلِ الجِنِّ: ﴿أجِيبُوا داعِيَ اللهِ﴾، فَلَمّا حَكى ذَلِكَ قِيلَ: ﴿وَمَن لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ﴾ فَهو بِحالِ كَذا، والمُعْجِزُ: الذاهِبُ في الأرْضِ الَّذِي يُبْدِي عَجْزَ طالِبِهِ ولا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "وَلَيْسَ لَهم مِن دُونِهِ" بِزِيادَةِ مِيمٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا﴾ الضَمِيرُ لِقُرَيْشٍ، وهَذِهِ آيَةُ مَثَلٍ واحْتِجاجٍ، لِأنَّهم قالُوا: إنَّ الأجْسادَ لا يُمْكِنُ أنْ تُبْعَثَ ولا تُعادَ، وهم مَعَ ذَلِكَ مُعْتَرِفُونَ بِأنَّ اللهَ تَعالى خَلَقَ السَماواتِ والأرْضَ فَأُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ الحُجَّةُ مِن أقْوالِهِمْ. والرُؤْيَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا﴾ رُؤْيَةُ القَلْبِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "وَلَمْ يَعْيَ"﴾ بِسُكُونِ العَيْنِ وفَتْحِ الياءِ الأخِيرَةِ، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "يَعِيَ" بِكَسْرِ العَيْنِ وسُكُونِ الياءِ، وذَلِكَ عَلى حَذْفٍ، والباءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "بِقادِرٍ"﴾ زائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ، فَمِن حَيْثُ تَقَدَّمَ نَفْيٌ في صَدْرِ الكَلامِ حَسَنُ التَأْكِيدِ بِالباءِ، وإنْ لَمْ يَكُنِ المَنفِيُّ ما دَخَلَتْ هي عَلَيْهِ، كَما هي في قَوْلِكَ: "ما زَيْدٌ بِقائِمٍ"، كانَ بَدَلَ "أوَلَمْ يَرَوْا" "أوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ"، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، والجُمْهُورُ: "بِقادِرٍ"، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ، والأعْرَجُ بِخِلافٍ- وعِيسى، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: "يَقْدِرُ" بِالياءِ عَلى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ، ورَجَّحَها أبُو حاتِمٍ وغَلِطَ قِراءَةُ الجُمْهُورِ لِقَلَقِ الباءِ عِنْدَهُ، وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "وَلِمَ يَعِي بِخَلْقِهِنَّ قادِرٌ" بِغَيْرِ باءٍ، و﴿ "بَلى"﴾ جَوابٌ بَعْدَ النَفْيِ المُتَقَدِّمِ، فَهي إيجابٌ لِما نُفِيَ، والمَعْنى: بَلى رَأوا ذَلِكَ، أيْ: لَوْ نَفَعَهم ووَقَعَ في قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ اللَفْظَ الإخْبارُ المُؤَكَّدُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب