الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ إنَّما العِلْمُ عِنْدَ اللهِ وأُبَلِّغُكم ما أُرْسِلْتُ بِهِ ولَكِنِّي أراكم قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ ﴿فَلَمّا رَأوهُ عارِضًا مُسْتَقْبِلَ أودِيَتِهِمْ قالُوا هَذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هو ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأمْرِ رَبِّها فَأصْبَحُوا لا يُرى إلا مَساكِنُهم كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ﴾ ﴿وَلَقَدْ مَكَّنّاهم فِيما إنْ مَكَّنّاكم فِيهِ وجَعَلْنا لَهم سَمْعًا وأبْصارًا وأفْئِدَةً فَما أغْنى عنهم سَمْعُهم ولا أبْصارُهم ولا أفْئِدَتُهم مِن شَيْءٍ إذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ المَعْنى: قالَ لَهم هُودٌ عَلَيْهِ السَلامُ: إنَّ هَذا الوَعِيدَ لَيْسَ مِن قِبَلِي، وإنَّما الأمْرُ لِلَّهِ تَعالى وعِلْمُ وقْتِهِ عِنْدَهُ، وإنَّما عَلَيَّ أنَّ أُبَلِّغَ فَقَطْ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "وَأُبَلِّغُكُمْ"﴾ (p-٦٢٦)بِفَتْحِ الباءِ وشَدِّ اللامِ، قالَ أبُو حاتِمٍ: وقَرَأ أبُو عَمْرٍو في كُلِّ القُرْآنِ بِسُكُونِ الباءِ وتَخْفِيفِ اللامِ، و﴿أراكم قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ أيْ: مِثْلُ هَذا مِن أمْرِ اللهِ تَعالى، وتَجْهَلُونَ خَلْقَ أنْفُسِكم. والضَمِيرُ فِي: ﴿ "رَأوهُ"﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى العَذابِ، ويُحْتَمَلَ أنْ يَعُودَ عَلى الشَيْءِ المَرْئِيِّ الطارِئِ عَلَيْهِمْ، وهو الَّذِي فَسَّرَهُ قَوْلُهُ: ﴿ "عارِضًا"،﴾ والعارِضُ ما يَعْرِضُ في الجَوِّ مِنَ السَحابِ المُمْطِرِ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎ يا مَن رَأى عارِضًا قَدْ بِتُّ أرْمُقُهُ ∗∗∗ كَأنَّما البَرْقُ في حافاتِهِ الشَعْلُ وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: العارِضُ: الَّذِي في أقْطارِ السَماءِ عَشِيًّا ثُمَّ يُصْبِحُ مِنَ الغَدِ قَدِ اسْتَوى، ورُوِيَ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مُسْتَقْبِلَ أودِيَتِهِمْ﴾ أنَّ هَؤُلاءِ القَوْمَ كانُوا قَدْ قَحَطُوا مُدَّةً، فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ هَذا العارِضُ عَلى الهَيْئَةِ والجِهَةِ الَّتِي يُمْطِرُونَ بِها أبَدًا، جاءَهم مِن قِبَلِ وادٍ لَهم يُسَمُّونَهُ المُغِيثَ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: فَفَرِحُوا بِهِ وقالُوا: هَذا عارِضٌ مُمْطِرُنا، وقَدْ كَذَبَ هو فِيما أوعَدَ بِهِ، فَقالَ لَهم هُودٌ عَلَيْهِ السَلامُ: لَيْسَ الأمْرُ كَما رَأيْتُمْ، بَلْ هو ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ في قَوْلِكُمْ: ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ [الأحقاف: ٢٢]، ثُمَّ قالَ: ﴿رِيحٌ فِيها عَذابٌ ألِيمٌ﴾، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " مُمْطِرُنا قالَ هُودٌ بَلْ هُوَ" بِإظْهارِ المُقَدَّرِ، لِأنَّ قِراءَةَ الجُمْهُورِ هي كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ [الرعد: ٢٣] ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرعد: ٢٤]، أيْ: يَقُولُونَ: سَلامٌ عَلَيْكم. قالَ الزَجّاجُ: وقَرَأ قَوْمٌ: "بَلْ هو ما اسْتُعْجِلْتُمْ بِهِ" بِضَمِّ التاءِ الأُولى وكَسْرِ الجِيمِ، و﴿ "رِيحٌ"﴾ بَدَلٌ مِنَ المُبْتَدَأِ في قَوْلِهِ: "هُوَ ما"، و﴿ "مُمْطِرُنا"﴾ هو نَعْتٌ لـ ﴿ "عارِضٌ"،﴾ وهو نَكِرَةٌ إضافَتُهُ غَيْرُ مَحْضَةٍ، لِأنَّ التَقْدِيرَ: مُمْطِرٌ لَنا في المُسْتَقْبَلِ، فَهو في حُكْمِ الِانْفِصالِ، وقَدْ مَضى في غَيْرِ هَذِهِ السُورَةِ قِصَصُ الرِيحِ الَّتِي هَبَّتْ عَلَيْهِمْ، وأنَّها كانَتْ تَحْمِلُ الظَعِينَةَ كَجَرادَةٍ. (p-٦٢٧)وَ ﴿ "تُدَمِّرُ"﴾ مَعْناهُ: تُهْلِكُ، والدَمارُ: الهَلاكُ، ومِنهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: ؎ وكانَ لَهم كَبِكْرِ ثَمُودَ لَمّا ∗∗∗ ∗∗∗ رَغا دَهْرًا فَدَمَّرَهم دَمارًا وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ ظاهِرُهُ العُمُومُ ومَعْناهُ: الخُصُوصُ في كُلِّ ما أمَرْتَ بِتَدْمِيرِهِ، ورُوِيَ أنَّ هَذِهِ الرِيحَ رَمَتْهم أجْمَعِينَ في البَحْرِ. وقَرَأ حَمْزَةُ وعاصِمٌ: "لا يَرى بِالياءِ عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، ﴿ "مَساكِنُهُمْ"﴾ رَفْعًا. التَقْدِيرُ: لا يَرى شَيْءٌ مِنهُمْ، وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "لا تَرى إلّا مَساكِنَهُمْ" أيْ: لا تَرى أيُّها المُخاطَبُ شَيْئًا مِنهُمْ، [وَهِيَ قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، والحَسَنِ -بِخِلافٍ عنهُ- ومُجاهِدٍ وعِيسى وطَلْحَةَ ]، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، والجَحْدَرِيُّ، وقَتادَةُ، وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، والأعْمَشُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وأبُو رَجاءٍ، ومالِكُ بْنُ دِينارٍ يَعْنِي بِلا خِلافٍ عنهُما خاصَّةً مِمَّنْ ذَكَرَ-: "لا تَرى" بِالتاءِ المَنقُوطَةِ مِن فَوْقِ مَضْمُومَةٍ ﴿ "إلا مَساكِنُهُمْ"﴾ رَفْعًا، ورُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عامِرٍ، وهَذا نَحْوُ قَوْلِ ذِي الرُمَّةِ: ؎ كَأنَّهُ جَمَّلَ وهْمٌ وما بَقِيَتْ ∗∗∗ ∗∗∗ إلّا النَجِيزَةُ والألْواحُ والعَصَبُ (p-٦٢٨)وَنَحْوُ قَوْلِهِ: ؎ ................... ∗∗∗ ∗∗∗ فَما بَقِيَتْ إلّا الضُلُوعُ الجَراشِعُ وفِي هَذِهِ القِراءَةِ اسْتِكْراهٌ، وقَرَأ الأعْمَشُ، وعِيسى: "مَسْكَنَهُمْ" عَلى الإفْرادِ الَّذِي هو اسْمُ الجِنْسِ، والجُمْهُورُ عَلى الجَمْعِ في اللَفْظَةِ، ووَجْهُ الإفْرادِ تَصْغِيرُ الشَأْنِ وتَقْرِيبُهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكم طِفْلا﴾ [غافر: ٦٧]. ثُمَّ خاطَبَ تَعالى قُرَيْشًا -عَلى جِهَةِ المَوْعِظَةِ- بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنّاهم فِيما إنْ﴾ "ما"، بِمَعْنى الَّذِي، و"إنْ" نافِيَةٌ وقَعَتْ مَكانَ "ما" لِيَخْتَلِفَ اللَفْظُ، ولا يَتَّصِلُ "ما" بِ "ما"، لِأنَّ الكَلامَ كَأنَّهُ قالَ: في الَّذِي ما مَكَّنّاكُمْ، ومَعْنى الآيَةِ: ولَقَدْ أعْطَيْناهم مِنَ القُوَّةِ والغِنى والبَسْطَةِ في الأمْوالِ والأجْسامِ ما لَمْ نُعْطِكُمْ، ونالَهم بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ هَذا (p-٦٢٩)العَذابُ، فَأنْتُمْ أحْرى بِذَلِكَ إذا كَفَرْتُمْ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: "إنْ" شَرْطِيَّةٌ، والجَوابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: في الَّذِي إنْ مَكَّنّاكم فِيهِ طَغَيْتُمْ، وهَذا تَنَطُّعٌ في التَأْوِيلِ. ثُمَّ عَدَّدَ تَعالى عَلَيْهِمْ نَعِمَ الحَواسِّ والإدْراكِ، وأخْبَرَ أنَّها لَمْ تُغْنِ حِينَ لَمْ تُسْتَعْمَلْ عَلى ما يَجِبُ، و"ما": نافِيَةٌ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما أغْنى عنهُمْ﴾، ويُقَوِّي ذَلِكَ دُخُولَ "مِن" في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿مِن شَيْءٍ﴾، وقالَتْ فِرْقَةٌ: "ما" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما أغْنى عنهُمْ﴾ اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى التَقْرِيرِ، و﴿مِن شَيْءٍ﴾ -عَلى هَذا- تَأْكِيدٌ، وهَذا عَلى غَيْرِ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ في دُخُولِ "مِن" في الواجِبِ. و"حاقَ" مَعْناهُ: نَزَلَ ولَزِمَ، وهَذا مُسْتَعْمَلٌ في المَكارِهِ، والمَعْنى: جَزاءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب