الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ﴾ ﴿يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿وَإذا عَلِمَ مِن آياتِنا شَيْئًا اتَّخَذَها هُزُوًا أُولَئِكَ لَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ ﴿مِن ورائِهِمْ جَهَنَّمُ ولا يُغْنِي عنهم ما كَسَبُوا شَيْئًا ولا ما اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أولِياءَ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿هَذا هُدًى والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهم عَذابٌ مِن رِجْزٍ ألِيمٌ﴾ "الوَيْلُ" في كَلامِ العَرَبِ: المَصائِبُ والحُزْنُ والهَمُّ والشِدَّةُ مِن هَذِهِ المَعانِي، وهي لَفْظَةٌ تُسْتَعْمَلُ في الدُعاءِ عَلى الإنْسانِ. ورُوِيَ في بَعْضِ الآثارِ أنَّ في جَهَنَّمَ وادِيًا اسْمُهُ: ويْلٌ، وذَهَبَ الطَبَرِيُّ إلى أنَّ المُرادَ بِالآيَةِ ومُقْتَضى اللُغَةِ أنَّهُ الدُعاءُ عَلى أهْلِ الإفْكِ والإثْمِ بِالمَعانِي المُتَقَدِّمَةِ، والأفّاكُ: الكَذّابُ الَّذِي يَقَعُ مِنهُ الإفْكُ مِرارًا، و"الأثِيمُ": بِناءُ مُبالَغَةٍ، اسْمُ فاعِلٍ مِن: أثِمَ يَأْثَمُ. ورُوِيَ أنَّ سَبَبَ هَذِهِ الآيَةِ أبُو جَهْلٍ، وقِيلَ: النَضِرُ بْنُ الحارِثِ، والصَوابُ أنَّ سَبَبَها ما كانَ المَذْكُورانِ وغَيْرُهُما- يَفْعَلانِ، وأنَّها تَعُمُّ كُلَّ مَن دَخَلَ تَحْتَ الأوصافِ المَذْكُورَةِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. و"يُصِرُّ" مَعْناهُ: يَثْبُتُ عَلى عَقِيدَتِهِ مِنَ الكُفْرِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾، حَسَنٌ ذَلِكَ لِما أفْصَحَ عَنِ العَذابِ، ولَوْ كانَتِ البِشارَةُ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِشَيْءٍ لَما حَصَلَتْ إلّا عَلى المُحابِّ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "وَإذا عَلِمَ"﴾ بِفَتْحِ العَيْنِ وتَخْفِيفِ اللامِ، والمَعْنى: وإذا أخْبَرَ بِشَيْءٍ مِن آياتِنا، فَعَلِمَ نَفْسَ الخَبَرِ لا المَعْنى الَّذِي تَضَمَّنَهُ الخَبَرُ، ولَوْ عِلْمُ المَعانِي الَّتِي تَتَضَمَّنَها أخْبارُ الشَرْعِ وعُرْفُ حَقائِقِها، لَكانَ مُؤْمِنًا، وقَرَأ قَتادَةُ، ومَطَرُ الوَرّاقِ: (p-٥٩٢)"وَإذا عُلِمَ" بِضَمِّ العَيْنِ وشَدِّ اللامِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "أُولَئِكَ"﴾ رَدٌّ عَلى لَفْظِ "كُلِّ أفّاكٍ"، لِأنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ لَهُ الصِفاتُ المَذْكُورَةُ بَعْدُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن ورائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ قالَ فِيهِ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: مَعْناهُ: مِن أمامِهِمْ، وهَذا كالخِلافِ الَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَكانَ وراءَهم مَلِكٌ﴾ [الكهف: ٧٩]، ولَحَظُّ قائِلٍ هَذِهِ المَقالَةَ الأمْرَ مِن حَيْثُ تَأوَّلَ أنَّ الإنْسانَ كَأنَّهُ مِن عُمْرِهِ يَسِيرُ إلى جَنَّةٍ أو نارٍ، فَهُما أمامَهُ، ولَيْسَ لَفْظُ "الوَراءِ" في اللُغَةِ كَذَلِكَ، وإنَّما هو ما يَأْتِي خَلْفَ الإنْسانِ، وإذا اعْتَبَرَ الأمْرُ بِالتَقَدُّمِ أوِ التَأخُّرِ في الوُجُودِ عَلى أنَّ الزَمانَ كالطَرِيقِ لِلْأشْياءِ اسْتَقامَ الأمْرُ، فَما يَأْتِي بَعْدَ الشَيْءِ في الزَمانِ فَهو وراءَهُ، فَكَأنَّ المَلِكَ وأخْذِهِ السَفِينَةَ وراءَ رُكُوبِ أُولَئِكَ إيّاها، وجَهَنَّمُ وإحْراقُها لِلْكُفّارِ يَأْتِي بَعْدَ كُفْرِهِمْ وأفْعالِهِمْ، وهَذا كَما تَقُولُ: افْعَلْ كَذا وأنا مِن ورائِكَ عَضُدًا، وكَما تَقُولُ ذَلِكَ عَلى التَهْدِيدِ: أنا مِن وراءِ التَقَصِّي عَلَيْكَ، ونَحْوُ هَذا. وقَوْلُهُ تَعالى: "وَلا ما اتَّخَذُوا" يَعْنِي بِذَلِكَ الأوثانَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَذا هُدًى﴾ إشارَةٌ إلى القُرْآنِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ -فِي رِوايَةِ حَفْصٍ -: "ألِيمٌ" عَلى النَعْتِ لـِ "عَذابٌ"، وهي قِراءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وابْنِ مُطْرَفٍ، وأهْلُ مَكَّةَ، وقَرَأ الباقُونَ: "ألِيمٍ" عَلى النَعْتِ لِـ "رِجْزٍ"، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، وأبِي جَعْفَرٍ، وشَيْبَةَ، وعِيسى، والأعْمَشُ. و"الرِجْزُ": أشَدُّ العَذابِ، وقَوْلُهُ وتَبارَكَ وتَعالى: ﴿وَلَهم عَذابٌ﴾ بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ: لَهم حَظٌّ، فَمِن هَذِهِ الجِهَةِ ومِن جِهَةِ تَغايُرِ اللَفْظَتَيْنِ حَسَنٌ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَذابٌ مِن رِجْزٍ﴾ إذِ الرِجْزُ هو العَذابُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب