الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَخَلَقَ اللهُ السَماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ ولِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ ﴿أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ وأضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مَنِ بَعْدِ اللهُ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿وَقالُوا ما هي إلا حَياتُنا الدُنْيا نَمُوتُ ونَحْيا وما يُهْلِكُنا إلا الدَهْرُ وما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ إنْ هم إلا يَظُنُّونَ﴾ المَعْنى: وخَلَقَ اللهُ السَماواتِ والأرْضَ، فَإنَّ خَلْقَها حَقٌّ واجِبٌ مُتَأكِّدٌ في نَفْسِهِ لِما فِيهِ مِن فَيْضِ الخَيْراتِ، ولِتَدُلَّ عَلَيْهِ تَعالى، ولِتَكُونَ صَنْعَةً حاكِمَةً لِصانِعٍ، وقِيلَ لِبَعْضِ (p-٦٠٠)الحُكَماءِ: لِمَ خَلَقَ اللهُ السَماواتِ والأرْضَ؟ فَقالَ: لِيُظْهِرَ جَوْدَةَ صُنْعِهِ، واللامُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: "وَلِتُجْزى" يَظْهَرُ أنْ تَكُونَ لامَ كَيْ، فَكَأنَّ الجَزاءَ مِن أسْبابِ خَلْقِ السَماواتِ والأرْضِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لامَ الصَيْرُورَةِ، أيْ: وصارَ الأمْرُ فِيها مِن حَيْثُ اهْتَدى بِها قَوْمٌ وضَلَّ عنها آخَرُونَ لِأنْ يُجازى كُلُّ أحَدٍ بِعِلْمِهِ وبِما اكْتَسَبَ مِن خَيْرٍ أو شَرٍّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "أفَرَأيْتَ"،﴾ سَهَّلَ بَعْضُ القُرّاءِ الهَمْزَةَ وحَقَّقَها قَوْمٌ، وكَذَلِكَ هي في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُخَفَّفَةً، وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "أفَرَأيْتَ" دُونَ هَمْزٍ، وهَذِهِ الآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ عَنِ الكُفّارِ المُعْرِضِينَ عَنِ الإيمانِ، أيْ: لا تَعْجَلْ بِهِمْ ولا تَهْتَمَّ بِأمْرِهِمْ، فَلَيْسَ فِيهِمْ حِيلَةً لِبَشَرٍ لِأنَّ اللهَ أضَلَّهُمْ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ﴿ "إلَهَهُ هَواهُ"﴾ إشارَةٌ إلى الأصْنامِ؛ إذْ كانُوا يَعْبُدُونَ ما يَهْوُونَ مِنَ الحِجارَةِ، وقالَ قَتادَةُ: المَعْنى: لا يَهْوى شَيْئًا إلّا رَكِبَهُ، لا يَخافُ اللهَ تَعالى، فَهَذا كَما يُقالُ: الهَوى إلَهٌ مَعْبُودٌ، وقَرَأ الأعْرَجُ، وابْنُ جُبَيْرٍ: "إلَهَةُ هَواهُ" عَلى التَأْنِيثِ في "آلِهَةً"، وهَذِهِ الآيَةُ وإنْ كانَتْ نَزَلَتْ في هَوى الكُفْرِ فَهي مُتَناوِلَةٌ جَمِيعَ هَوى النَفْسِ الأمارَةِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: ما ذَكَرَ اللهُ تَعالى هَوًى إلّا ذِمَّةً، وقالَ الشَعْبِيُّ: سُمِّيَ هَوًى لَهَوِيَّةِ بِصاحِبِهِ، وقالَ النَبِيُّ ﷺ: « "والعاجِزُ مَن أتْبَعَ نَفْسَهُ هَواها وتَمَنّى عَلى اللهِ"،» وقالَ سَهْلُ التُسْتُرِيِّ: "هَواكَ داؤُكَ، فَإنْ خالَفْتَهُ فَدَواؤُكَ". وقالَ وهْبٌ: "إذا شَكَكْتَ في خَيْرِ أمْرَيْنِ، فانْظُرْ أبْعَدَهُما مِن هَواكَ فَأْتِهِ"، ومِن حِكْمَةِ الشِعْرِ في هَذا قَوْلُ القائِلِ: ؎ إذا أنْتَ لَمْ تَعْصِ الهَوى قادَكَ الهَوى ∗∗∗ إلى كُلِّ ما فِيهِ عَلَيْكَ مَقالُ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "عَلى عِلْمٍ"﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: المَعْنى: عَلى عِلْمٍ مِنَ اللهِ سابِقٍ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: أيْ: عَلى عِلْمٍ مِن هَذا الضَلالِ فَإنَّ الحَقَّ هو الَّذِي يُتْرَكُ ويُعْرَضُ عنهُ، فَتَكُونُ الآيَةُ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- مِن آياتِ العِنادِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: (p-٦٠١)﴿وَجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ﴾ [النمل: ١٤] وعَلى كِلا التَأْوِيلَيْنِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: "عَلى عِلْمٍ" حالٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً﴾ اسْتِعاراتٌ كُلُّها، إذْ هَذا الضالُّ لا يَنْفَعُهُ ما يَسْمَعُ ولا ما يَفْهَمُ ولا ما يَرى، فَكَأنَّهُ بِهَذِهِ الأوصافِ المَذْكُورَةِ، وهَذِهِ الآيَةُ لا حُجَّةَ لِلْجَبْرِيَّةِ فِيها، لِأنَّ التَكَسُّبَ فِيها مَنصُوصٌ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ تَعالى: "اتَّخَذَ"، وفي قَوْلِهِ تَعالى: "عَلى عِلْمٍ" عَلى التَأْوِيلِ الأخِيرِ فِيهِ، ولَوْ لَمْ يَنُصَّ عَلى الِاكْتِسابِ لَكانَ مُرادًا في المَعْنى، وقَرَأ أكْثَرُ القُرّاءِ: ﴿ "غِشاوَةً"﴾ بِكَسْرِ الغَيْنِ. وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "غَشاوَةً" بِفَتْحِ الغَيْنِ، وهي لُغَةُ رَبِيعَةَ، وحُكِيَ عَنِ الحَسَنِ وعِكْرِمَةَ: "غُشاوَةً" بِضَمِّ الغَيْنِ، وهي لُغَةُ عَكْلٍ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "غَشْوَةً" بِفَتْحِ الغَيْنِ وإسْكانِ الشِينِ، وقَرَأ الأعْمَشُ، وابْنُ مُصَرِّفٍ: "غِشْوَةً" بِكَسْرِ الغَيْنِ دُونَ ألِفٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ اللهِ﴾ فِيهِ حَذْفُ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: مِن بَعْدِ إضْلالِ اللهِ إيّاهُ، وقَرَأ عاصِمٌ -وَأراهُ الجَحْدَرِيُّ-: "تَذَكَّرُونَ" بِتَخْفِيفِ الذالِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "تَذَّكَّرُونَ" عَلى الخِطابِ أيْضًا بِتَشْدِيدِ الذالِ، وقَرَأ الأعْمَشُ: "تَتَذَكَّرُونَ" بِتاءَيْنِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالُوا ما هي إلا حَياتُنا الدُنْيا﴾ الآيَةُ... حِكايَةُ مُقالَةِ بَعْضِ قُرَيْشٍ، وهَذِهِ صِيغَةٌ دَهْرِيَّةٌ مِن كُفّارِ العَرَبِ، ومَعْنى قَوْلِهِمْ: ما في الوُجُودِ إلّا هَذِهِ الحَياةُ الَّتِي نَحْنُ فِيها ولَيْسَتْ ثَمَّ آخِرَةٌ ولا بَعْثٌ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعْنى قَوْلِهِمْ: ﴿نَمُوتُ ونَحْيا﴾ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى: نَحْنُ مَوْتى قَبْلَ أنْ نُوجَدَ، ثُمَّ نَحْيا في وقْتِ وُجُودِنا، وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى: نَمُوتُ حِينَ نَحْنُ نُطَفٌ ودَمٌ، ثُمَّ نَحْيا بِالأرْواحِ فِينا، وهَذا قَوْلٌ قَرِيبٌ مِنَ الأوَّلِ، ويَسْقُطُ عَلى القَوْلَيْنِ ذِكْرُ المَوْتِ المَعْرُوفِ الَّذِي هو خُرُوجُ الرُوحِ مِنَ الجَسَدِ، وهو الأهَمُّ في الذِكْرِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى: نَحْيا ونَمُوتُ، فَوَقَعَ في اللَفْظِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: الغَرَضُ مِنَ اللَفْظِ العِبارَةُ عن حالِ النَوْعِ، فَكَأنَّ النَوْعَ بِجُمْلَتِهِ يَقُولُ: إنَّما نَحْنُ تَمُوتُ طائِفَةٌ وتَحْيا طائِفَةٌ دَأْبًا، وقَوْلَهُمْ: ﴿وَما يُهْلِكُنا إلا الدَهْرُ﴾ أيْ: طُولُ الزَمانِ، وهو المُهْلِكُ، لِأنَّ الأوقاتِ تَسْتَوِي فِيهِ كِمالاتُها، فَنَفى اللهُ تَعالى عنهم عِلْمَهم بِهَذا، وأعْلَمَ أنَّها ظُنُونٌ مِنهُمْ، وتَخَرُّصٌ يَقْضِي بِهِمْ إلى الإشْراكِ بِاللهِ تَعالى. والدَهْرُ والزَمانُ تَسْتَعْمِلُهُما العَرَبُ بِمَعْنًى (p-٦٠٢)واحِدٍ، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَما يُهْلِكُنا إلّا دَهْرٌ يَمُرُّ"، وقالَ مُجاهِدٌ: الدَهْرُ هُنا الزَمانُ، ورَوى أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ «عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: "كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إنَّما يُهْلِكُنا اللَيْلُ والنَهارُ".» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُفارِقُ هَذا الِاسْتِعْمالُ قَوْلَ النَبِيِّ ﷺ: « "لا تَسُبُّوا الدَهْرَ، فَإنَّ اللهَ تَعالى هو الدَهْرُ"،» وفي حَدِيثٍ آخَرَ قالَ اللهُ تَعالى: « "يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَهْرَ، وأنا الدَهْرُ بِيَدِي اللَيْلُ والنَهارُ"»، ومَعْنى هَذا الحَدِيثِ: فَإنَّ اللهَ تَعالى هو الَّذِي يَفْعَلُ ما تَنْسُبُونَهُ إلى الدَهْرِ وتَسُبُّونَهُ بِسَبِّهِ. وإذا تُؤُمِّلَتْ أمْثِلَةُ هَذا في الكَلامِ ظَهَرَتْ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب