الباحث القرآني
(p-٥٨٧)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
تَفْسِيرُ سُورَةِ الجاثِيَةِ
هَذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةٌ لا خِلافَ في ذَلِكَ.
قوله عزّ وجلّ:
﴿حم﴾ ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ ﴿إنَّ في السَماواتِ والأرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَفِي خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِن دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ ﴿واخْتِلافِ اللَيْلِ والنَهارِ وما أنْزَلَ اللهُ مِنَ السَماءِ مِنَ رِزْقٍ فَأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وتَصْرِيفِ الرِياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ﴿تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالحَقِّ فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وآياتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾
تَقَدَّمَ القَوْلُ في الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ في أوائِلِ السُوَرِ، و"تَنْزِيلُ" رُفِعَ بِالِابْتِداءِ أو عَلى خَبَرِ ابْتِداءٍ مُضْمَرٍ، و"العَزِيزِ": مَعْناهُ: عامُّ في شِدَّةِ أخْذِهِ إذا انْتَقَمَ، ودِفاعِهِ إذا حَمِيَ ونَصَرَ، وغَيْرُ ذَلِكَ، و﴿ "الحَكِيمِ":﴾ المُحْكِمِ لِلْأشْياءِ، وذَكَرَ تَعالى الآياتِ الَّتِي في السَماواتِ والأرْضِ مُجْمَلَةً غَيْرَ مُفَصَّلَةٍ، فَكَأنَّها إحالَةٌ عَلى غَوامِضَ تُثِيرُها الفِكْرُ، ويُخْبِرُ بِكَثِيرٍ مِنها الشَرْعُ، فَلِذَلِكَ جَعَلَها لِلْمُؤْمِنِينَ، إذْ في ضِمْنِ الإيمانِ العَقْلُ والتَصْدِيقُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى خَلْقَ البَشَرِ والحَيَوانِ وكَأنَّهُ أغْمَضَ مِمّا أحالَ عَلَيْهِ أوَّلًا وأكْثَرَ تَلْخِيصًا، فَجَعَلَهُ لِلْمُوقِنِينَ الَّذِينَ لَهم نَظَرٌ يُؤَدِّيهِمْ إلى اليَقِينِ في مُعْتَقَداتِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلافَ اللَيْلِ والنَهارِ والعِبْرَةَ بِالمَطَرِ والرِياحِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، إذْ كَلُّ عاقِلٍ يَحْصُلُ هَذِهِ ويَفْهَمُ قَدْرَها.
(p-٥٨٨)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وإنْ كانَ هَذا النَظَرُ لَيْسَ بِلازِمٍ ولابُدَّ، فَإنَّ اللَفْظَ يُعْطِيهِ.
و﴿ "يَبُثُّ"﴾ مَعْناهُ: يُنْشَرُ في الأرْضِ، والدابَّةُ: كُلُّ حَيَوانٍ يَدُبُّ، أو يُمْكِنُ فِيهِ أنْ يَدُبَّ، يَدْخُلُ في ذَلِكَ الطَيْرُ والحُوتُ، وشاهِدُ الطَيْرِ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ ....................... ∗∗∗ صَواعِقُها لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
وقَوْلُ الآخَرِ:
؎ ........................ ∗∗∗ ∗∗∗ دَبِيبُ قَطا البَطْحاءِ في كُلِّ مَنهَلٍ
وشاهِدُ الحُوتِ قَوْلُ أبِي مُوسى: "وَقَدْ ألْقى البَحْرُ دابَّةً مِثْلَ الظَرَبِ"، ودَوابُّ البَحْرِ لَفْظٌ مَشْهُورٌ في اللُغَةِ.
(p-٥٨٩)وَقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "آياتٍ" بِالنَصْبِ في المَوْضِعَيْنِ الآخَرَيْنِ. وهي قِراءَةُ الجَحْدَرِيِّ، والأعْمَشِ، وقَرَأ الباقُونَ والجُمْهُورُ: ﴿ "آياتٌ"﴾ بِالرَفْعِ فِيهِما، فَأمّا مَن قَرَأ بِالنَصْبِ فَحَمَلَ "آياتٍ" في المَوْضِعَيْنِ عَلى نَصْبِ "إنَّ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ في السَماواتِ والأرْضِ لآياتٍ﴾، ولا يَعْرِضُ في ذَلِكَ العَطْفَ عَلى عامَلَيْنِ الَّذِي لا يُجِيزُهُ سِيبَوَيْهِ وكَثِيرٌ مِنَ النَحْوِيِّينَ، لِأنّا نُقَدِّرُ "فِي" مُعادَةٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واخْتِلافِ اللَيْلِ والنَهارِ﴾، وكَذَلِكَ هي في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَفِي اخْتِلافِ"، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ -عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ-: "وَفِي اخْتِلافِ اللَيْلِ"، وذَلِكَ أنَّ ذِكْرَها قَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "وَفِي خَلْقِكُمْ"﴾ فَلَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الجارِّ، جازَ حَذْفُهُ مِنَ الثانِي، ويُقَدَّرُ مُثْبَتًا، كَما قَدَّرَ سِيبَوَيْهِ في قَوْلِ الشاعِرِ:
؎ أكُلُّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً ∗∗∗ ∗∗∗ ونارٌ تُوقَدُ بِاللَيْلِ نارًا؟
أيْ: وكُلُّ نارٍ، وكَما قالَ الآخَرُ:
؎ أوصَيْتُ مِن بَرَّةٍ قَلْبًا حُرًّا ∗∗∗ ∗∗∗ بِالكَلْبِ خَيْرًا والحَماةَ شَرًّا
(p-٥٩٠)أيْ: وبِالحَمْأةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا الِاعْتِراضُ كُلُّهُ إنَّما هو في "آياتٌ" الثانِي، لِأنَّ الأوَّلَ قَبْلَهُ حَرْفُ الجَرِّ ظاهِرٌ، وفي قِراءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما في الثَلاثَةِ المَواضِعَ: "لَآياتٍ". قالَ أبُو عَلِيٍّ: وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الكَلامَ مَحْمُولٌ عَلى "إنَّ" في قِراءَةِ مَن أسْقَطَ اللاماتِ في الِاثْنَيْنِ الآخِيرَتَيْنِ.
وأمّا مَن رَفَعَ "آياتٍ" في المَوْضِعَيْنِ، فَوَجْهُهُ العَطْفُ عَلى مَوْضِعِ "إنَّ" وما عَمِلَتْ فِيهِ، لِأنَّ مَوْضِعَها رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، ووَجْهٌ آخَرُ وهو أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَفِي خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِن دابَّةٍ﴾ مُسْتَأْنَفًا، ويَكُونُ الكَلامُ جُمْلَةً مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةٍ، وقالَ بَعْضُ الناسِ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ جُمْلَةً في مَوْضِعِ الحالِ فَلا تَكُونُ غَرِيبَةً عَلى هَذا.
و"اخْتِلافِ اللَيْلِ والنَهارِ" إمّا بِالنُورِ والظَلامِ، وإمّا بِكَوْنِهِما خِلْفَةً، و"الرِزْقُ المُنَزَّلُ مِنَ السَماءِ": هو المَطَرُ، سَمّاهُ رِزْقًا بِمَآلِهِ، لِأنَّ جَمِيعَ ما يَرْتَزِقُ فَعَنِ المَطَرِ هُوَ، و"تَصْرِيفِ الرِياحِ": هو بِكَوْنِها صَبًّا ودَبُورًا وجَنُوبًا وشَمالًا، وأيْضًا فَبِكَوْنِها مَرَّةً رَحْمَةً ومَرَّةً عَذابًا، قالَهُ قَتادَةُ، وأيْضًا بِلِينِها وشِدَّتِها وحَرِّها وبَرْدِها، وقَرَأ طَلْحَةُ وعِيسى: "وَتَصْرِيفِ الرِيحِ" بِالإفْرادِ، وكَذَلِكَ في جَمِيعِ القُرْآنِ إلّا ما كانَ فِيهِ مُبَشِّراتٌ، وخالَفَ عِيسى في الحِجْرِ فَقَرَأ: "الرِياحَ لَواقِحَ".
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تِلْكَ آياتُ اللهِ﴾ إشارَةٌ إلى ما ذَكَرَ. وقَوْلُهُ: ﴿ "نَتْلُوها"﴾ فِيهِ حَذْفُ مُضافٍ، أيْ: نَتْلُو شَأْنَها وتَفْسِيرَها وشَرْحَ العِبْرَةِ لَها، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِـ "آياتِ اللهِ": القُرْآنُ المُنَزَّلُ في هَذِهِ المَعانِي، فَلا يَكُونُ في "نَتْلُوها" حَذْفُ مُضافٍ. وقَوْلُهُ: ﴿ "بِالحَقِّ"﴾ مَعْناهُ: بِالصِدْقِ والإعْلامِ بِحَقائِقِ الأُمُورِ في أنْفُسِها. وقَوْلُهُ: ﴿فَبِأيِّ حَدِيثٍ﴾ الآيَةُ تَوْبِيخٌ وتَقْرِيعٌ، وفِيهِ قُوَّةُ التَهْدِيدِ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ، وأبُو عَمْرٍو، وأبُو جَعْفَرٍ، والأعْرَجُ، وشَيْبَةُ، (p-٥٩١)وَقَتادَةُ: "يُؤْمِنُونَ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وعاصِمٌ أيْضًا، والأعْمَشُ: "تُؤْمِنُونَ" بِالتاءِ عَلى مُخاطَبَةِ الكُفّارِ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "تُوقِنُونَ" بِالتاءِ مِن فَوْقِ مِنَ اليَقِينِ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["حمۤ","تَنزِیلُ ٱلۡكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَكِیمِ","إِنَّ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّلۡمُؤۡمِنِینَ","وَفِی خَلۡقِكُمۡ وَمَا یَبُثُّ مِن دَاۤبَّةٍ ءَایَـٰتࣱ لِّقَوۡمࣲ یُوقِنُونَ","وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مِن رِّزۡقࣲ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَتَصۡرِیفِ ٱلرِّیَـٰحِ ءَایَـٰتࣱ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ","تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَیۡكَ بِٱلۡحَقِّۖ فَبِأَیِّ حَدِیثِۭ بَعۡدَ ٱللَّهِ وَءَایَـٰتِهِۦ یُؤۡمِنُونَ"],"ayah":"تَنزِیلُ ٱلۡكِتَـٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَكِیمِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق