الباحث القرآني

(p-٥٦٩)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الدُخانِ هَذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةٌ، لا أحْفَظُ خِلافًا في شَيْءٍ مِنها. قوله عزّ وجلّ: ﴿حم﴾ ﴿والكِتابِ المُبِينِ﴾ ﴿إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إنّا كُنّا مُنْذِرِينَ﴾ ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ﴾ ﴿أمْرًا مِن عِنْدِنا إنّا كُنّا مُرْسِلِينَ﴾ ﴿رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إنَّهُ هو السَمِيعُ العَلِيمُ﴾ ﴿رَبِّ السَماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ ﴿لا إلَهَ إلا هو يُحْيِي ويُمِيتُ رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿بَلْ هم في شَكٍّ يَلْعَبُونَ﴾ ﴿فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في "حم"، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والكِتابِ المُبِينِ﴾ قَسَمٌ أقْسَمَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى بِهِ. و﴿ "المُبِينِ"﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِنَ الفِعْلِ المُتَعَدِّي، أيْ: يُبَيِّنُ الهُدى والشَرْعَ ونَحْوَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن غَيْرِ المُتَعَدِّي، أيْ: هو مُبِينٌ في نَفْسِهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا أنْزَلْناهُ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَقَعَ القَسَمُ عَلَيْهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ: ﴿إنّا أنْزَلْناهُ﴾ في وصْفِ الكِتابِ فَلا يَحْسُنُ وُقُوعُ القَسَمِ عَلَيْهِ، وهَذا اعْتِراضٌ يَتَضَمَّنُ تَفْخِيمَ الكِتابِ، ويَحْسُنُ القَسَمُ بِهِ، ويَكُونُ الَّذِي وقَعَ القَسَمُ عَلَيْهِ: ﴿إنّا كُنّا مُنْذِرِينَ﴾. واخْتَلَفَ الناسُ في تَعْيِينِ اللَيْلَةِ المُبارَكَةِ، فَقالَ قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ، والحَسَنُ: هي لَيْلَةُ القَدْرِ، وقالُوا: إنَّ كُتُبَ اللهِ تَعالى كُلَّها إنَّما نَزَلَتْ في رَمَضانَ، التَوْراةُ في أوَّلِهِ، والإنْجِيلُ في وسَطِهِ، والزَبُورُ في نَحْوِ ذَلِكَ، ونَزَلَ القُرْآنُ في آخِرِهِ في لَيْلَةِ القَدْرِ، ومَعْنى هَذا النُزُولِ: أنَّ ابْتِداءَ نُزُولِهِ كانَ في لَيْلَةِ القَدْرِ، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ أنْزَلَهُ اللهُ تَعالى جُمْلَةً لَيْلَةَ القَدْرِ إلى البَيْتِ المَعْمُورِ، ومِن هُنا كانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ يَتَلَقّاهُ، وقالَ عِكْرِمَةُ وغَيْرُهُ: اللَيْلَةُ المُبارَكَةُ هي لَيْلَةُ النِصْفِ مِن شَعْبانَ. (p-٥٧٠)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ﴾ مَعْناهُ: يَفْصِلُ مِن غَيْرِهِ ويَتَخَلَّصُ، ورُوَيَ عن عِكْرِمَةَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ اللهَ تَعالى يَفْصِلُ لِلْمَلائِكَةِ في لَيْلَةِ النِصْفِ مِن شَعْبانَ، وقالَ الحَسَنُ، وعُمَرُ مَوْلى غَفْرَةَ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: في لَيْلَةِ القَدْرِ يَفْصِلُ كُلُّ ما في العامِ المُقْبِلِ مِنَ الأقْدارِ والآجالِ والأرْزاقِ وغَيْرِ ذَلِكَ، ويَكْتُبُ ذَلِكَ لَهم إلى مِثْلِها مِنَ العامِ المُقْبِلِ، قالَ هِلالُ بْنُ يُسافَ: كانَ يُقالُ: انْتَظِرُوا القَضاءَ في شَهْرِ رَمَضانَ، ورُوِيَ في بَعْضِ الحَدِيثِ عَنِ النَبِيِّ ﷺ «أنَّ الرَجُلَ يَتَزَوَّجُ ويُعْرِّسُ وقَدْ خَرَجَ اسْمُهُ في المَوْتى، لِأنَّ الآجالَ تُقْطَعُ في شَعْبانَ،» وقَرَأ الحَسَنُ، والأعْرَجُ، والأعْمَشُ: "يُفَرِّقُ" بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الراءِ، و"حَكِيمٍ": بِمَعْنى: مُحْكَمٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "أمْرًا"﴾ نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ، و"مِن عِنْدِنا": صِفَةٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: "أمْرًا"، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا كُنّا مُرْسِلِينَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ الرُسُلَ والأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ السَلامُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ الرَحْمَةَ الَّتِي ذَكَرَ بَعْدُ، وعَلى التَأْوِيلِ الأوَّلِ نُصِبَ قَوْلُهُ تَعالى: "رَحْمَةً" عَلى المَصْدَرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ نَصْبُها عَلى الحالِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ تَقْرِيرٌ وتَثْبِيتٌ، أيْ: إنْ كُنْتَ مُوقِنًا بِهَذا يَكُونُ يَقِينُكَ، كَما تَقُولُ لِإنْسانٍ تُقِيمُ نَفْسَهُ: العِلْمُ غَرَضُكَ إنْ كُنْتَ رَجُلًا، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ أيْ: مالِكُكم ومالِكُ آبائِكم. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ: "رَبُّ السَماواتِ" بِالرَفْعِ عَلى القَطْعِ والِاسْتِئْنافِ، وهي قِراءَةُ الأعْرَجِ، وابْنِ أبِي إسْحاقَ، وأبِي جَعْفَرٍ، وشَيْبَةَ. وقَرَأ عاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِالكَسْرِ عَلى البَدَلِ مِن "رَبِّ" المُتَقَدِّمِ، وهي قِراءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، والأعْمَشِ، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ﴾ فالجُمْهُورُ عَلى رَفْعِ الباءِ، وقَرَأ الحَسَنُ بِالكَسْرِ، رَواها أبُو مُوسى عَنِ الكِسائِيِّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ هم في شَكٍّ﴾ إضْرابٌ قَبْلَهُ نَفْيٌ مُقَدَّرٌ، كَأنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ هَؤُلاءِ مِمَّنْ (p-٥٧١)يُؤْمَنُ ولا مِمَّنْ تَنْفَعُهُ وُصاةٌ، بَلْ هم في شَكٍّ يَلْعَبُونَ في أقْوالِهِمْ وأعْمالِهِمْ. واخْتَلَفَ الناسُ في الدُخّانِ الَّذِي أمَرَ اللهُ تَعالى بِارْتِقابِهِ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ مِنها عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابْنُ عُمَرَ، وابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، والحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ رِضِيَ اللهُ تَعالى عنهُمْ: هو دُخانٌ يَجِيءُ مَقْبِلَ يَوْمِ القِيامَةِ، يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِنهُ مِثْلُ الزُكامِ، ويَنْضَجُ رُؤُوسُ المُنافِقِينَ والكافِرِينَ حَتّى تَكُونَ كَأنَّها مَصْلِيَّةٌ حَنِيذَةٌ، وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنها عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو العالِيَةِ، وإبْراهِيمُ النَخْعِيُّ: هو الدُخانُ الَّذِي رَأتْهُ قُرَيْشٌ حِينَ دَعا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ، فَكانَ الرَجُلُ يَرى مِنَ الجَدْبِ والجُوعِ دُخانًا بَيْنَهُ وبَيْنَ السَماءِ، وما يَأْتِي مِنَ الآياتِ يُقَوِّي هَذا التَأْوِيلَ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُخانُ واللِزامُ والبَطْشَةُ والقَمَرُ والرُومُ، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ حَدِيثًا عن حُذَيْفَةَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: « "إنَّ أوَّلَ آياتِ الساعَةِ الدُخانُ، ونُزُولُ عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ، ونارٌ تَخْرُجُ مِن قَعْرِ عَدَنٍ"»، وضَعَّفَ الطَبَرِيُّ سَنَدَ هَذا (p-٥٧٢)الحَدِيثِ، واخْتارَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ في الدُخانِ، ويُحْتَمَلُ -إنْ صَحَّ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ - أنْ يَكُونَ قَدْ مَرَّ دُخانٌ ويَأْتِي دُخانٌ آخَرَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب