الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُمَّ أو تَهْدِي العُمْيَ ومَن كانَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿فَإمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإنّا مِنهم مُنْتَقِمُونَ﴾ ﴿أو نُرِيَنَّكَ الَّذِي وعَدْناهم فَإنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ﴾ ﴿فاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ﴿وَإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ وسَوْفَ تُسْألُونَ﴾ ﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مَن قَبْلِكَ مَن رُسُلِنا أجَعَلْنا مَن دُونِ الرَحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ لَمّا ذَكَرَ اللهُ تَعالى حالَ الكُفّارِ في الآخِرَةِ وما يُقالُ لَهم وهم في العَذابِ، اقْتَضى ذَلِكَ أنْ تُشْفِقَ النُفُوسُ، وأنَّ يَنْظُرَ كُلُّ سامِعٍ لِنَفْسِهِ ويَسْعى في خَلاصِها، فَلَمّا كانَتْ قُرَيْشٌ مَعَ هَذا الَّذِي سَمِعَتْ لَمْ تَزَلْ عن عُتُوِّها وإعْراضِها عن أمْرِ اللهِ تَعالى رَجَعَتِ المُخاطَبَةُ إلى (p-٥٥٠)مُحَمَّدٍ ﷺ عَلى جِهَةِ التَسْلِيَةِ لَهُ عنهُمْ، وشَبَّهَهم بَـالصُمِّ والعُمْيِ إذْ كانَتْ حَواسُّهم لا تُفِيدُ شَيْئًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن كانَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ يُرِيدُ بِذَلِكَ قُرَيْشًا بِأنْفُسِهِمْ، ولِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: "أو مَن كانَ"، بَلْ جاءَ بِالواوِ العاطِفَةِ، كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: "وَهَؤُلاءِ"، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ أيْضًا عَوْدَ الضَمِيرِ عَلَيْهِمْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنّا مِنهُمْ﴾، ولَمْ يَجْرِ لَهم ذِكْرٌ إلّا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن كانَ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإمّا نَذْهَبَنَّ﴾ الآيَةُ....آيَةٌ تَتَضَمَّنُ وعِيدًا واقِعًا، وذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَماءِ إلى أنَّ المُتَوَعِّدِينَ هُمُ الكُفّارُ، وأنَّ اللهَ تَعالى أرى نَبِيَّهُ ﷺ الَّذِي وعَدَهم في بَدْرٍ والفَتْحٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، وذَهَبَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ إلى أنَّ المُتَوَعِّدِينَ هم في هَذِهِ الأُمَّةِ، وأنَّ اللهَ تَعالى أكْرَمَ نَبِيَّهُ ﷺ عَلى أنْ يَنْتَقِمَ مِنهم بِحَضْرَتِهِ وفي حَياتِهِ، فَوَقَعَتِ النِقْمَةُ مِنهم بَعْدَ أنْ ذَهَبَ بِهِ، وذَلِكَ في الفِتَنِ الحادِثَةِ في صَدْرِ الإسْلامِ مَعَ الخَوارِجِ وغَيْرِهِمْ، قالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: أكْرَمَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى نَبِيَّهُ ﷺ عَلى أنْ يَرى في أُمَّتِهِ ما يَكْرَهُ كَما رَأى الأنْبِياءُ صَلَواتِ اللهِ تَعالى وسَلامُهُ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ، فَكانَتِ النِقْمَةُ بَعْدَ ذَهابِهِ ﷺ، وقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ عن جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رِضى اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَرَأ: ﴿فَإنّا مِنهم مُنْتَقِمُونَ﴾ فَقالَ: " بِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ "،» والقَوْلُ الأوَّلُ مِن تَوَعُّدِ الكُفّارِ أكْثَرُ. ثُمَّ أمَرَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ بِالتَمَسُّكِ بِما جاءَهُ مِن عِنْدِ اللهِ تَعالى مِنَ الوَحْيِ المَتْلُوِّ وغَيْرِهِ، والصِراطُ: الطَرِيقُ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "أُوحِيَ" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأ الضَحّاكُ: "أُوحِيَ" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ، أيْ: أوحى اللهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ تَبارَكَ وتَعالى: وإنَّهُ لَشَرَفٌ وحَمْدٌ في الدُنْيا -والقَوْمُ عَلى هَذا- قُرَيْشٌ ثُمَّ العَرَبُ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَتادَةَ، ومُجاهِدٍ، والسَدِّيِّ، وابْنِ زَيْدٍ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رِضى اللهُ عنهُما: «كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلى القَبائِلِ، فَإذا قالُوا لَهُ: فَلِمَن يَكُونُ الأمْرُ بِعْدَكَ؟ سَكَتَ، حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَكانَ إذا سُئِلَ بَعْدَ ذَلِكَ، قالَ: لِقُرَيْشٍ، فَكانَتِ العَرَبُ لا تَقْبَلُ عَلى ذَلِكَ حَتّى قَبِلَتْهُ (p-٥٥١)الأنْصارُ رِضى اللهِ عنهُمْ،» ورَوى ابْنُ عُمَرَ رِضى اللهُ عنهُما أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: « "لا يَزالُ هَذا الأمْرُ في قُرَيْشٍ ما بَقِيَ مِنهُمُ اثْنانِ"،» ورَوى أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ عنهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ أنَّهُ قالَ: « "لا يَزالُ الأمْرُ في قُرَيْشٍ ما دامُوا، إذا حَكَوْا عَدَلُوا، وإذا اسْتَرْحَمُوا رَحِمُوا، وإذا عاهَدُوا وفَوْا، فَمَن لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ والمَلائِكَةِ والناسِ أجْمَعِينَ"،» ورَوى مُعاوِيَةُ أنَّهُ ﷺ قالَ: « "لا يَزالُ هَذا الأمْرُ في قُرَيْشٍ ما أقامُوا الدِينَ"،» ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ تَعالى: وإنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ ومَوْعِظَةٌ، و"القَوْمُ" -عَلى هَذا- أُمَّتُهُ بِأجْمَعِها، وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ بْنِ أبِي الحَسَنِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَسَوْفَ تُسْألُونَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رِضى اللهُ عنهُما وغَيْرُهُ: مَعْناهُ: عن أوامِرِ القُرْآنِ ونَواهِيهِ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: مَعْناهُ: عن شُكْرِ النِعْمَةِ فِيهِ، واللَفْظُ يَحْتَمِلُ هَذا كُلَّهُ ويَعُمُّهُ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في المُرادِ بِالسُؤالِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا﴾، فَقالَتْ فِرْقَةٌ، أرادَ تَعالى أنِ اسْألْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ، ذَكَرَ ذَلِكَ النَقّاشُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِيهِ بُعْدٌ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والزَهْرِيُّ، أرادَ تَعالى: واسْألِ الرُسُلَ إذا (p-٥٥٢)لَقَيْتُهم لَيْلَةَ الإسْراءِ، أمّا إنَّ النَبِيَّ ﷺ لَمْ يَسْألِ الرُسُلَ عَلَيْهِمِ السَلامُ لَيْلَةَ الإسْراءِ عن هَذا، لِأنَّهُ ﷺ كانَ أثْبَتُ يَقِينًا مِن ذَلِكَ ولَمْ يَكُنْ في شَكٍّ، وقالَتْ فِرْقَةٌ، أرادَ تَعالى: واسْألْنِي، أو واسْألْنا عَمَّنْ أرْسَلْنا، والأُولى -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- أنْ يَكُونَ: ﴿مَن أرْسَلْنا﴾ اسْتِفْهامًا أمْرَهُ أنْ يَسْألَ بِهِ، كَأنَّ سُؤالَهُ: يا رَبِّ، مَن أرْسَلَتْ قَبَلِيِّ مِن رُسِلِكَ؟ أجَعَلْتَ في رِسالَتِهِ الأمْرَ بِآلِهَةٍ يُعْبَدُونَ؟ ثُمَّ ساقَ السُؤالَ مَحْكِيُّ المَعْنى، فَرَدَّ المُخاطَبَةِ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن قَبْلِكَ﴾، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والسَدِّي، وعَطاءُ، أرادَ تَعالى: واسْألْ تُبّاعَ مَن أرْسَلْنا وحَمْلَةَ شَرائِعِهِمْ، لِأنَّ المَفْهُومَ أنَّهُ لا سَبِيلَ إلى سُؤالِهِ الرُسُلَ إلّا بِالنَظَرِ في آثارِهِمْ وكُتُبِهِمْ وسُؤالِ مَن حَفِظَها، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "واسْئَلِ الَّذِينَ أرْسَلَنا إلَيْهِمْ قَبِلَكَ رُسُلُنا"، فَهَذِهِ القِراءَةُ تُؤَيَّدُ هَذا المَعْنى، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] مَفْهُومٌ أنَّهُ لا يَسْألُ إلّا أهْلَها، ومِمّا يَنْظُرُ إلى هَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ والرَسُولِ﴾ [النساء: ٥٩]، فَمَفْهُومٌ أنَّ الرَدَّ إنَّما هو إلى كِتابِ اللهِ تَعالى وسَنَةِ رَسُولِهِ ﷺ، وأنَّ المُحاوَرَةَ في ذَلِكَ إنَّما هم لِتُبّاعِهِمْ وحَفَظَةِ الشَرْعِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "يُعْبَدُونَ"﴾ أُخْرِجُ الضَمِيرُ عَلى حَدِّ مَن يَعْقِلُ مُراعاةً لِلَفْظِ الآلِهَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب