الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هم يَنْتَصِرُونَ﴾ ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٍ مِثْلُها فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظالِمِينَ﴾ ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ﴾ مَدَحَ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ قَوْمًا بِالِانْتِصارِ مِنَ البَغْيِ، ورَجَّحَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ العُلَماءِ، وقالُوا: الِانْتِصارُ بِالواجِبِ تَغْيِيرُ مُنْكَرٍ، ومَن لَمْ يَنْتَصِرْ مَعَ إمْكانِ الِانْتِصارِ فَقَدْ تَرَكَ تَغْيِيرَ المُنْكِرِ. واخْتَلَفَ الناسُ في المُرادِ بِالآيَةِ بَعْدَ اتِّفاقِهِمْ عَلى أنَّ مِن بُغِيَ عَلَيْهِ وظُلِمَ، فَجائِزٌ لَهُ أنْ يَنْتَصِرَ بِيَدِ الحَقِّ وحاكَمِ المُسْلِمِينَ، فَقالَ مُقاتِلٌ: الآيَةُ في المَجْرُوحِ يَنْتَصِفُ مِنَ الجارِحِ بِالقِصاصِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّها نَزَلَتْ في بَغْيِ المُشْرِكِ عَلى المُؤْمِنِ، فَأباحَ اللهُ تَعالى لَهُ الِانْتِصارَ مِنهم دُونَ تَعَدٍّ، وجُعِلَ العَفْوُ والإصْلاحُ مَقْرُونًا بِأجْرٍ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِآيَةِ السَيْفِ، وقالَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ -وَهِيَ الجُمْهُورُ-: إنَّ المُؤْمِنَ إذا بَغى عَلى مُؤْمِنٍ وظَلَمَهُ، فَلا يَجُوزُ لِلْآخَرِ أنْ يَنْتَصِفَ مِنهُ بِنَفْسِهِ ويُجازِيَهُ عَلى ظُلْمِهِ، مِثالُ ذَلِكَ: أنْ يَخُونَ الإنْسانُ آخَرَ، ثُمَّ يَتَمَكَّنُ الإنْسانُ مِن خِيانَةِ الأوَّلِ، فَمَذْهَبُ مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعالى ألّا يَفْعَلَ، وهو مَذْهَبُ جَماعَةٍ عَظِيمَةٍ مَعَهُ، ولَمْ يَرَوْا هَذِهِ الآيَةَ مِن هَذا المَعْنى، واحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: « "أدِّ الأمانَةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ، ولا تَخُنْ مَن خانَكَ"،» وهَذا القَوْلُ أنْزَهُ وأقْرُبُ إلى اللهِ تَبارَكَ وتَعالى. (p-٥٢٤)وَقالَتْ طائِفَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: هَذِهِ الآيَةُ عامَّةٌ في المُشْرِكِينَ والمُؤْمِنِينَ، ومَن بُغِيَ عَلَيْهِ وظُلِمَ، فَجائِزٌ لَهُ أنْ يَنْتَصِفَ لِنَفْسِهِ، ويَخُونَ مَن خانَهُ في المالِ حَتّى يَنْتَصِرَ مِنهُ، وقالُوا إنَّ الحَدِيثَ: « "وَلا تَخُنْ مَن خانَكَ"» إنَّما هو في «رَجُلٍ سَألَ رَسُولَ اللهِ ﷺ: هَلْ يَزْنِي بِحُرْمَةِ مَن زَنا بِحُرْمَتِهِ؟ فَقالَ لَهُ النَبِيُّ ﷺ: ذَلِكَ يُرِيدُ بِهِ الزِنا.» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وكَذَلِكَ ورَدَ الحَدِيثُ في مَعْنى الزِنا، ذَكَرَ ذَلِكَ الرُواةُ، أمّا إنَّ عُمُومَهُ يَنْسَحِبُ في كُلِّ شَيْءٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٍ مِثْلُها﴾ قالَ الزَجّاجُ: سَمّى العُقُوبَةَ بِاسْمِ الذَنْبِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا إذا أخَذْنا السَيِّئَةَ في حَقِّ اللهِ تَعالى بِمَعْنى المَعْصِيَةِ، وذَلِكَ أنَّ المُجازاةَ مِنَ اللهِ تَعالى لَيْسَتْ سَيِّئَةً إلّا إنْ سُمِّيَتْ بِاسْمِ مُوجِبَتِها، وأمّا إنْ أخَذْنا السَيِّئَةَ بِمَعْنى المُصِيبَةِ في حَقِّ البَشَرِ، أيْ: يَسُوءُ هَذا هَذا، ويَسُوؤُهُ الآخَرُ، فَلَسْنا نَحْتاجُ إلى أنْ نَقُولَ: "سَمّى العُقُوبَةَ بِاسْمِ الذَنَبِ"، بَلِ الفِعْلُ الأوَّلُ والآخِرُ سَيِّئَةٌ، وقالَ ابْنُ أبِي نَجِيحٍ، والسَدِّيُّ: مَعْنى الآيَةِ: أنَّ الرَجُلَ إذا شُتِمَ بِشَتْمَةٍ، فَلَهُ أنْ يَرُدَّها بِعَيْنِها دُونَ أنْ يَتَعَدّى، قالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: ما لَمْ تَكُنْ حَدًّا أو عَوْراءَ جَدًّا، واللامُ في قَوْلِهِ: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ﴾ لامُ التِقاءِ القَسَمِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن سَبِيلٍ﴾: يُرِيدُ: مِن سَبِيلِ حَرْجٍ ولا سَبِيلَ حُكْمٍ، وهَذا بِلاغٌ في إباحَةِ الِانْتِصارِ والخِلافِ فِيهِ، هَلْ هو بَيْنَ المُؤْمِنِ والمُشْرِكِ، أو بَيْنَ المُؤْمِنِينَ عَلى ما تَقَدَّمَ؟
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب