الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿أمْ لَهم شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهم مِنَ الدِينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ ولَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهم وإنَّ الظالِمِينَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿تَرى الظالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا وهو واقِعٌ بِهِمْ والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ في رَوْضاتِ الجَنّاتِ لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلا المَوَدَّةَ في القُرْبى ومَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا إنَّ اللهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ "أمْ" هَذِهِ هي مُنْقَطِعَةٌ لا مُعادِلَةٌ، وهي بِتَقْدِيرِ "بَلْ وألْفِ الِاسْتِفْهامِ"، و"الشُرَكاءُ في هَذِهِ الآيَةِ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِمِ: الشَياطِينُ والمُغْوِينَ مِن أسْلافِهِمْ، ويَكُونُ الضَمِيرُ في "لَهُمْ" لِلْكُفّارِ المُعاصِرِينَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، أيْ: شَرَعَ الشُرَكاءُ لَهم ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، فالِاشْتِراكُ هُنا هو في الكُفْرِ والغَوايَةِ، ولَيْسَ بِشَرِكَةِ الإشْراكِ بِاللهِ تَعالى، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِـ"الشُرَكاءِ": الأصْنامَ والأوثانَ عَلى مَعْنى: أمْ لَهم أصْنامٌ جَعَلُوها شُرَكاءَ لِلَّهِ في أُلُوهِيَّتِهِ؟ ويَكُونُ الضَمِيرُ في شَرَعُوا" لِهَؤُلاءِ المُعاصِرِينَ مِنَ الكُفّارِ ولِآبائِهِمْ، والضَمِيرُ في "لَهُمْ" لِلْأصْنامِ الشُرَكاءِ، أيْ: شَرَعَ هَؤُلاءِ الكُفّارُ لِأصْنامِهِمْ وأوثانِهِمْ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ تَعالى، و"شَرَعُوا" مَعْناهُ: أثْبَتُوا ونَهَجُوا ورَسَمُوا، و"الدِينُ" هُنا: العَوائِدُ والأحْكامُ والسِيرَةُ، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ أيْضًا المُعْتَقَداتُ، لِأنَّهم في جَمِيعِ ذَلِكَ وضَعُوا أوضاعًا، فَأمّا في المُعْتَقَداتِ فَقَوْلُهُمْ: إنَّ الأصْنامَ آلِهَةٌ، وقَوْلُهُمْ: إنَّهم يَعْبُدُونَ الأصْنامَ زُلْفى، وغَيْرَ ذَلِكَ، وأمّا في الأحْكامِ فَكالبَحِيرَةِ والوَصِيلَةِ والحامِي، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السَوائِبِ ونَحْوَها، و"الإذْنُ" في هَذِهِ الآيَةِ: الأمْرُ. و"كَلِمَةُ الفَصْلِ": هي ما سَبَقَ مِن قَضاءِ اللهِ تَعالى بِأنَّهُ يُؤَخِّرُ عِقابَهم إلى الآخِرَةِ، و"القَضاءُ بَيْنَهُمْ": هو عَذابُهم في الدُنْيا ومُجازاتُهم. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "وَإنَّ الظالِمِينَ" بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلى القَطْعِ والِاسْتِئْنافِ، وقَرَأ مُسْلِمُ بْنُ جَنْدَبِ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وهي في (p-٥١١)مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلى: "كَلِمَةُ"، المَعْنى: وأنَّ الظالِمِينَ لَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَرى الظالِمِينَ مُشْفِقِينَ﴾ هي رُؤْيَةُ بَصَرٍ، و"الظالِمِينَ": مَفْعُولٌ، و"مُشْفِقِينَ" حالٌ، ولَيْسَ لَهم في هَذا الإشْفاقِ مَدْحٌ، لِأنَّهم إنَّما أشْفَقُوا حِينَ نَزَلَ بِهِمْ ووَقَعَ، ولَيْسُوا كالمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هم في الدُنْيا مُشْفِقُونَ مِنَ الساعَةِ كَما تَقَدَّمَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، و"الرَوْضاتُ": المَواضِعُ المُؤَنَّقَةُ النَضِرَةُ، وهي مُرْتَفِعَةٌ في الأغْلَبِ مِنَ الِاسْتِعْمالِ، وهي المَمْدُوحَةُ عِنْدَ العَرَبِ وغَيْرِهِمْ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ﴾ [البقرة: ٢٦٥]، ومِن ذَلِكَ تَفْضِيلُهم رَوْضاتُ الحُزْنِ لِجَوْدَةِ هَوائِها، قالَ الطَبَرِيُّ: ولا تَقُولُ العَرَبُ لِمَوْضِعِ الأشْجارِ: رِياضُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ﴾ إشارَةٌ إلى قَوْلِهِ تَعالى في الآيَةِ الأُخْرى: ﴿وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأنَّ لَهم مِنَ اللهِ فَضْلا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٧]. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "يُبَشِّرُ"﴾ بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الباءِ وشَدِّ الشِينِ المَكْسُورَةِ، وذَلِكَ عَلى التَعْدِيَةِ والتَضْعِيفِ، وقَرَأ مُجاهِدٌ وحُمَيْدٌ: "يُبْشِرُ" بِضَمِّ الياءِ وسُكُونِ الباءِ وكَسْرِ الشِينِ عَلى التَعْدِيَةِ بِالهَمْزَةِ، قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ يَعْمَرُ وابْنُ أبِي إسْحاقٍ والجَحْدَرِيُّ والأعْمَشُ وطَلْحَةُ: "يَبْشُرُ" بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الشِينِ، ورُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وقالَ الجَحْدَرِيُّ في تَفْسِيرِها: تَرى النَضْرَةَ في الوُجُوهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾، اخْتَلَفَ الناسُ في مَعْناهُ، فَقالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رِضى اللهُ عنهُما وغَيْرُهُ: هي آيَةٌ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ في صَدْرِ الإسْلامِ، ومَعْناها: اسْتِكْفافُ شَرِّ الكُفّارِ ودَفْعُ أذاهُمْ، أيْ: ما أسْألُكم عَلى القُرْآنِ والدِينِ والدُعاءِ إلى اللهِ تَعالى إلّا أنْ تَوَدُّونِي لِقَرابَةِ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ، فَتَكُفُّوا عَنِّي أذاكُمْ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ إسْحاقٍ، وقَتادَةُ: ولَمْ يَكُنْ في قُرَيْشٍ بَطْنٌ إلّا ولِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِيهِ نَسَبٌ أو صِهْرٌ، فالآيَةُ -عَلى (p-٥١٢)هَذا- هي اسْتِعْطافٌ ما، ودَفْعُ أذى وطَلَبُ سَلامَةٍ مِنهُمْ، وذَلِكَ كُلُّهُ مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَيْفِ، ويُحْتَمِلُ هَذا التَأْوِيلُ أنْ يَكُونَ مَعْنى الكَلامِ اسْتِدْعاءَ نَصْرِهِمْ، أيْ: لا أسْألُكم غَرامَةً ولا شَيْئًا إلّا أنْ تَوَدُّونِي لِقَرابَتِي مِنكم وأنْ تَكُونُوا أولى بِي مِن غَيْرِكم. وقالَ مُجاهِدٌ: إلّا أنْ تَصِلُوا رَحِمِي بِاتِّباعِيِّ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رِضى اللهُ عنهُما أيْضًا ما يَقْتَضِي أنَّها مَدَنِيَّةُ، وسَبَبُها أنَّ قَوْمًا مِن شَبابِ الأنْصارِ فاخَرُوا المُهاجِرِينَ ومالُوا بِالقَوْلِ عَلى قُرَيْشٍ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ عَلى مَعْنى: إلّا أنْ تَوَدُّونِي فَتُراعُونِيِ في قَرابَتِي وتَحْفَظُونَنِي فِيهِمْ، وقالَ بِهَذا المَعْنى في الآيَةِ عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ، واسْتَشْهَدَ بِالآيَةِ حِينَ سِيقَ إلى الشامِ أسِيرًا، وهو تَأْوِيلُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، وعَلى هَذا التَأْوِيلِ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رِضى اللهُ عنهُما: «قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، مَن قَرابَتُكَ الَّذِينَ أُمِرْنا بِمَوَدَّتِهِمْ؟ فَقالَ: "عَلِيُّ وفاطِمَةُ وابْناهُما"،» وقِيلَ: هو ولَدُ عَبْدِ المُطَّلَبِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقُرَيْشُ كُلُّها عِنْدِي قُرْبى وإنْ كانَتْ تَتَفاضَلُ، وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "مَن ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ شَهِيدًا، ومَن ماتَ عَلى بُغْضِهِمْ لَمْ يَشُمَّ رائِحَةَ الجَنَّةِ"،» (p-٥١٣)وَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رِضى اللهُ عنهُما أيْضًا في كِتابِ الثَعْلَبِيِّ: سَبَبٌ هَذِهِ الآيَةِ «أنَّ الأنْصارَ جَمَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ مالًا وساقَتْهُ إلَيْهِ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ ونَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ،» وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رِضى اللهُ عنهُما أيْضًا: مَعْنى الآيَةِ: مِن قُرْبى الطاعَةِ والتَزَلُّفِ إلى اللهِ تَعالى، كَأنَّهُ قالَ: إلّا أنْ تَوَدُّونِي، لِأنِّي أقْرَبَكم مِنَ اللهِ تَعالى، وأُرِيدُ هِدايَتَكم وأدْعُوكم إلَيْها، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: مَعْناهُ: إلّا أنْ تَتَوَدَّدُوا إلى اللهِ تَعالى بِالتَقَرُّبِ إلَيْهِ، وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ القاسِمِ في كِتابِ الطَبَرِيِّ: مَعْنى الآيَةِ: إلّا أنَّ تَتَوَدَّدُوا بَعْضُكم إلى بَعْضٍ وتَصِلُوا قُراباتِكُمْ، فالآيَةُ -عَلى هَذا- أمْرٌ بِصِلَةِ الرَحِمِ. وذَكَرَ النَقّاشُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُقاتِلٌ، والكَلْبِيُّ، والسَدِّيُّ، أنَّ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ سَبَأٍ: ﴿قُلْ ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ فَهو لَكُمْ﴾ [سبإ: ٤٧]، والصَوابُ أنَّها مُحْكَمَةٌ، وعَلى كُلِّ قَوْلٍ فالِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ، و"إلّا" بِمَعْنى "لَكِنْ". و"يَقْتَرِفْ" مَعْناهُ: يَكْتَسِبُ، ورَجُلٌ قِرْفَةٌ: إذا كانَ مُحْتالًا كَسُوبًا، وقَرَأتْ فَرْقَةٌ: "يَزِدْ" عَلى إسْنادِ الفِعْلِ لِلَّهِ تَعالى، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "نَزِدْ" عَلى نُونِ العَظَمَةِ، وزِيادَةُ الحُسْنِ هو التَضْعِيفُ الَّذِي وعَدَ اللهُ تَعالى بِهِ مُؤْمِنِي عِبادِهِ، قالَهُ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، و"غَفُورٌ" مَعْناهُ: ساتِرُ عُيُوبِ عَبِيدِهِ. و"شَكُورٌ" مَعْناهُ: مُجازٍ عَلى الدَقِيقَةِ مِنَ الخَيْرِ لا يَضِيعُ عِنْدَهُ عَمَلُ العامِلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب