الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللهِ ذَلِكُمُ اللهِ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾ ﴿فاطِرُ السَماواتِ والأرْضِ جَعَلَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا ومِنَ الأنْعامِ أزْواجًا يَذْرَؤُكم فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَمِيعُ البَصِيرُ﴾ ﴿لَهُ مَقالِيدُ السَماواتِ والأرْضِ يَبْسُطُ الرِزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ المَعْنى: قُلْ يا مُحَمَّدُ: وما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ أيُّها الناسُ مِن تَكْذِيبٍ وتَصْدِيقٍ وإيمانٍ (p-٥٠٣)وَكُفْرٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، فالحُكْمُ فِيهِ والمُجازاةُ عَلَيْهِ لَيْسَتْ إلَيَّ ولا بِيَدِي، وإنَّما ذَلِكَ إلى اللهِ الَّذِي صِفاتُهُ ما ذَكَرَ مِن إحْياءِ المَوْتى والقُدْرَةِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ قالَ: ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي، وعَلَيْهِ تَوَكُّلِي، وإلَيْهِ إنابَتِي ورُجُوعِي، وهو فاطِرُ السَماواتِ والأرْضِ، أيْ مُخْتَرِعُها وخالِقُها، شَقَّ بَعْضُها مِن بَعْضٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿جَعَلَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا﴾ يُرِيدُ: زَوَجَ الإنْسانِ الأُنْثى، وبِهَذِهِ النِعْمَةِ اتَّفَقَ الذَرْءُ، ولَيْسَتِ الأزْواجُ هاهُنا الأنْواعَ، وأمّا الأزْواجُ المَذْكُورَةُ مَعَ الأنْعامِ فالظاهِرُ أيْضًا والمُتَّسِقُ: أنَّهُ يُرِيدُ إناثَ الذُكْرانِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ الأنْواعَ، والأوَّلُ أظْهَرُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَذْرَؤُكم فِيهِ﴾ أيْ يَخْلُقُكم نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ، وقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، قالَهُ مُجاهِدٌ والناسُ، فَلَفْظَةُ "ذَرَأ" تَزِيدُ عَلى لَفْظَةِ "خَلَقَ" مَعْنًى آخَرَ لَيْسَ في "خَلَقَ"، وهو تَوالِي الطَبَقاتِ عَلى مَرِّ الزَمانِ، وقَوْلُهُ: "فِيهِ" الضَمِيرُ عَلى "الجَعْلِ" الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿جَعَلَ لَكُمْ﴾، وهَذا كَما تَقُولُ: كَلَّمْتُ زَيْدًا كَلامًا أكْرَمْتُهُ فِيهِ، وقالَ العُتْبِيُّ: الضَمِيرُ لِلتَّزْوِيجِ، ولَفْظَةُ "فِي" مُشْتَرَكَةٌ عَلى مَعانٍ وإنْ كانَ أصْلُها الوِعاءُ، وإلَيْهِ يَرُدُّها النَظَرُ في كُلِّ وجْهٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، الكافُ مُؤَكِّدَةٌ لِلتَّشْبِيهِ، فَنَفْيُ التَشْبِيهِ أوكَدُ ما يَكُونُ، وذَلِكَ أنَّكَ تَقُولُ: زَيْدٌ كَعَمْرُو، وزَيْدٌ مِثْلُ عَمْرُو، فَإذا أرَدْتَ المُبالَغَةَ التامَّةَ قُلْتُ: زَيْدٌ كَمِثْلِ عَمْرُو، ومِن هَذا قَوْلُ أوسِ بْنِ حَجَرٍ: ؎ وقَتْلى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَخِيلِ ∗∗∗ تَغَشّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرُ ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إذا أبْصَرْتَ فَضْلَهم ∗∗∗ ∗∗∗ ما إنْ كَمِثْلِهِمْ في الناسِ مِن أحَدٍ (p-٥٠٤)فَجَرَتِ الآيَةُ في هَذا المَوْضِعِ عَلى عُرْفِ كَلامِ العَرَبِ، وتَفْتَرِقُ الآيَةُ مَعَ هَذِهِ الشَواهِدِ في أنَّ الشَواهِدَ مَتى أرَدْتَ أنْ تَتَّبِعَ بِذِهْنِكَ هَذا اللَفْظَ فَتُقَدِّرُ لِلْجُذُوعِ مِثْلًا مَوْجُودًا وتَشْبِهِ القَتْلى بِذَلِكَ المِثْلِ أمْكَنَكَ، أو لا يُمْكِنُكَ هَذا في جِهَةِ اللهِ تَعالى إلّا أنْ تَجْعَلَ المِثْلَ ما يَتَحَصَّلُ في الذِهْنِ مِنَ العِلْمِ بِاللهِ تَعالى، إذِ المَثَلُ والمِثالُ واحِدٌ. وذَهَبَ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ إلى أنَّ المَعْنى: "لَيْسَ كَهَوٍ شَيْءٌ"، وقالُوا: لَفْظَةُ "مِثْلُ" في الآيَةِ تَوْكِيدٌ أو واقِعَةٌ مَوْقِعَ هو. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ومِمّا يُؤَيِّدُ دُخُولَ الكافِ تَأْكِيدًا أنَّها قَدْ تَدْخُلُ عَلى الكافِ نَفْسِها، وأنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: ؎ وصالِياتٍ كَكَما يُؤْثَفَيَنْ ، (p-٥٠٥)وَ"المَقالِيدُ": المَفاتِيحُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ. وقالَ مُجاهِدٌ: أصْلُها بِالفارِسِيَّةِ، وهي هاهُنا اسْتِعارَةٌ لَوُقُوعِ كُلِّ أمْرٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، وقالَ السَدِّيُّ: المَقالِيدُ: الخَزائِنُ، وفي العِبارَةِ -عَلى هَذا- حَذْفُ مُضافٍ، قالَ قَتادَةُ: مَن مَلَكَ مَقالِدَ خَزائِنٍ، فالخَزائِنُ في مُلْكِهِ، وبَسْطُ الرِزْقِ وقَدْرُهُ بَيِّنٌ، وقَدْ مَضى تَفْسِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب