الباحث القرآني

(p-٤٨٥)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ بِاللهِ إنَّهُ هو السَمِيعُ العَلِيمُ﴾ ﴿وَمِن آياتِهِ اللَيْلُ والنَهارُ والشَمْسُ والقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ ولا لِلْقَمَرِ واسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ ﴿فَإنِ اسْتَكْبَرُوا فالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَيْلِ والنَهارِ وهم لا يَسْأمُونَ﴾ ﴿وَمِن آياتِهِ أنَّكَ تَرى الأرْضَ خاشِعَةً فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ إنَّ الَّذِي أحْياها لَمُحْيِي المَوْتى إنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [إمّا] شَرْطٌ، وجَوابُ الشَرْطِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ [فاسْتَعِذْ]،﴾ و"النَزْغُ": فِعْلُ الشَيْطانِ في قَلْبٍ أو يَدٍ، مِن إلْقاءِ غَضَبٍ وحِقْدٍ أو بَطْشٍ في اليَدِ، فَمِنَ الغَضَبِ هَذِهِ الآيَةُ، ومِنَ الحِقْدِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿نَزَغَ الشَيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي﴾ [يوسف: ١٠٠]، ومِنَ البَطْشِ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "لا يُشِرْ أحَدُكم عَلى أخِيهِ بِالسِلاحِ لا يَنْزَغُ الشَيْطانُ في يَدِهِ، فَيُلْقِيهِ في حُفْرَةٍ مِن حُفَرِ النارِ"،» ونَدَبَ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ إلى مَكارِمِ الخُلُقِ في الدَفْعِ بِالَّتِي هي أحْسَنُ، ثُمَّ أثْنى تَعالى عَلى مَن لَقِيَها ووَعَدَهُ، وعَلِمَ أنَّ خِلْقَةَ البَشَرِ تَغْلِبُ أحْيانًا وتَثُورُ بِهِمْ ثَوْرَةَ الغَضَبِ ونَزْغِ الشَيْطانِ، فَدَلَّهم عَلى مُذْهِبِ ذَلِكَ وهي الِاسْتِعاذَةُ بِهِ عَزَّ وجَلَّ. ثُمَّ عَدَّدَ آياتِهِ لِيَعْتَبِرَ فِيها مِن صَدَفَ عَنِ التَوْحِيدِ، بِذِكْرِ اللَيْلِ والنَهارِ، وذِكْرُهِما يَتَضَمَّنُ ما فِيهِما مِنَ القِصَرِ والطُولِ والتَداخُلِ والِاسْتِواءِ في مَواضِعَ وسائِرَ عِبَرِهِما، وكَذَلِكَ الشَمْسُ والقَمَرُ مُتَضَمِّنٌ عَجائِبَهُما وحِكْمَةَ اللهِ تَعالى فِيهِما ونَفَعَهُ عِبادَهُ بِهِما، ثُمَّ قالَ تَعالى: لا تَسْجُدُوا لِهَذِهِ المَخْلُوقاتِ وإنْ كانَتْ تَنْفَعُكُمْ؛ لِأنَّ النَفْعَ مِنهُما إنَّما هو بِتَسْخِيرِ اللهِ إيّاهُما، فَهو الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُسْجَدَ لَهُ، والضَمِيرُ في ﴿ "خَلَقَهُنَّ"﴾ قالَتْ فِرْقَةٌ: هو عائِدٌ عَلى الأيّامِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرِها، وقالَتْ فِرْقَةٌ: الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى الشَمْسِ والقَمَرِ، والِاثْنانِ جَمْعٌ، وجَمْعُ ما لا يَعْقِلُ يُؤَنَّثُ، فَلِذَلِكَ قالَ: "خَلَقَهُنَّ". (p-٤٨٦)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ومِن حَيْثُ يُقالُ: شُمُوسٌ وأقْمارٌ لِاخْتِلافِهِما بِالأيّامِ، ساغَ أنْ يَعُودَ الضَمِيرُ مَجْمُوعًا، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو عائِدٌ عَلى الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ، وشَأْنُ ضَمِيرِ ما لا يُعْقَلُ، إذا كانَ العَدَدُ أقَلَّ مِنَ العَشْرَةِ أنْ يَجِيءَ هَكَذا، فَإذا زادَ أُفْرِدَ مُؤَنَّثًا، فَتَقُولُ: الأجْذاعُ انْكَسَرْنَ، والجُذُوعُ انْكَسَرَتْ، ومِنهُ: ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُهُورِ﴾ [التوبة: ٣٦] الآيَةُ، ومِنهُ قَوْلُ حَسّانِ بْنِ ثابِتٍ: ؎ وأسْيافُنا يَقْطُرْنَ مِن نَجْدَةِ دَمًا وقالَ السَمَوْألُ: ؎ ولا عَيْبَ فِينا غَيْرَ أنَّ سُيُوفَنا ∗∗∗ ∗∗∗ بِها مِن قِراعِ الدارِعِينَ فُلُولُ (p-٤٨٧)وَهَذا كَثِيرٌ مَهْيَعٌ وإنْ كانَ الأمْرُ قَدْ يُوجَدُ مُتَداخِلًا بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ. ثُمَّ خاطَبَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ بِما يَتَضَمَّنُ وعِيدَهم وحَقارَةَ أمْرِهِمْ، وأنَّ اللهَ تَعالى غَيَّرَ مُحْتاجٍ إلى عِبادَتِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنِ اسْتَكْبَرُوا﴾ الآيَةُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ يَعْنِي بِهِمُ المَلائِكَةَ وهم صافُّونَ يُسَبِّحُونَ، و"عِنْدَ" في هَذِهِ الآيَةِ لَيْسَتْ بِظَرْفِ مَكانٍ، وإنَّما هي بِمَعْنى المَنزِلَةِ والقُرْبَةُ، كَما تَقُولُ: زِيدٌ عِنْدَ المَلِكِ جَلِيلٌ، وفي نَفْسِهِ رَفِيعٌ، ويُرْوى أنَّ تَسْبِيحَ المَلائِكَةِ قَدْ صارَ لَهم كالنَفْسِ لِابْنِ آدَمَ، و"يَسْأمُونَ" مَعْناهُ: يَمَلُّونَ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى آيَةً مَنصُوبَةً لِيُعْتَبَرَ بِها في أمْرِ البَعْثِ مِنَ القُبُورِ، ويُسْتَدَلُّ بِما شُوهِدَ مِن هَذِهِ عَلى ما لَمْ يُشاهَدْ بَعْدُ مِن تِلْكَ، وهي آيَةٌ يَراها عِيانًا كُلَّ مَفْطُورٍ عَلى عَقْلٍ. و"خُشُوعُ الأرْضِ" هو ما يَظْهَرُ عَلَيْها مِنَ اسْتِكانَةٍ وشَعَثٍ بِالجَدْبِ وصَلِيمِ السُمُومِ، فَهي عابِسَةٌ كَما الخاشِعُ عابِسٌ يَكادُ يَبْكِي، و"الماءُ المُنَزَّلُ" هو المَطَرُ، و"اهْتِزازُ الأرْضِ" هو تَخَلْخُلُ أجْزائِها بِالماءِ وتَشَقُّقُها لِلنَّباتِ، و"رَبُّوُها" هو انْتِفاخُها بِالماءِ وعُلُوُّ سَطْحِها بِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَرَبَتْ"، وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنِ القَعْقاعِ: "وَرَبَأتْ" بِألْفِ مَهْمُوزَةٍ، ورَواها الرَواسِيُّ عن أبِي عَمْرُو، وهو أيْضًا بِمَعْنى: عَلَتْ وارْتَفَعَتْ، ومِنهُ الرَبِيئَةُ وهو الَّذِي يَرْتَفِعُ حَتّى يُرْصَدَ لِلْقَوْمِ، ثُمَّ ذَكَّرَ تَعالى بِالأمْرِ الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُقاسَ (p-٤٨٨)عَلى هَذِهِ الآيَةِ والعِبْرَةِ، وذَلِكَ إحْياءُ المَوْتى، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:﴾ عُمُومٌ، و"الشَيْءُ" في اللُغَةِ: المَوْجُودُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب