الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿نَحْنُ أولِياؤُكم في الحَياةِ الدُنْيا وفي الآخِرَةِ ولَكم فِيها ما تَشْتَهِي أنْفُسُكم ولَكم فِيها ما تَدَّعُونَ﴾ ﴿نُزُلا مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ ﴿وَمَن أحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعا إلى اللهِ وعَمِلَ صالِحًا وقالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ ﴿وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السَيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هي أحْسَنُ فَإذا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأنَّهُ ولِيٌّ حَمِيمٌ﴾ ﴿وَما يُلَقّاها إلا الَّذِينَ صَبَرُوا وما يُلَقّاها إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ المُتَكَلِّمُ بِـ"نَحْنُ أولِياؤُكُمْ" هُمُ المَلائِكَةُ القائِلُونَ: "لا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا"، أيْ: يَقُولُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ المَوْتِ وعِنْدَ مُشاهَدَةِ الحَقِّ: نَحْنُ كُنّا أولِياءَكم في الدُنْيا ونَحْنُ هم في الآخِرَةِ، قالَ السَدِّيُّ: المَعْنى: نَحْنُ حَفَظَتُكم في الدُنْيا وأولِياؤُكم في الآخِرَةِ. والضَمِيرُ في قَوْلِهِمْ: ﴿ "فِيها"﴾ عائِدٌ عَلى الآخِرَةِ، و"تَدَّعُونَ" مَعْناهُ: تَطْلُبُونَ. و"نُزُلًا" نَصْبٌ عَلى المَصْدَرِ، وقِراءَةُ (p-٤٨٣)الجُمْهُورِ بِضَمِّ الزايِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: بِإسْكانِها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن أحْسَنُ قَوْلا﴾ الآيَةُ. ابْتِداءُ تَوْصِيَةٍ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وهو لَفْظٌ يَعُمُّ كُلَّ مَن دَعا قَدِيمًا وحَدِيثًا إلى اللهِ تَبارَكَ وتَعالى وإلى طاعَتِهِ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَلامُ ومِنَ المُؤْمِنِينَ، والمَعْنى: لا أحَدَ أحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ هَذِهِ حالُهُ، وإلى العُمُومِ ذَهَبَ الحَسَنُ، ومُقاتِلٌ، وجَماعَةٌ، وبَيَّنَ أنَّ حالَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ كانَتْ كَذَلِكَ مُبْرِزَةً، إلى تَخْصِيصِهِ بِالآيَةِ ذَهَبَ السَدِّيُّ، وابْنُ زَيْدٍ، وابْنُ سَيْرَيْنِ، وقالَ قَيْسُ بْنُ أبِي حازِمٍ، وعائِشَةُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عنها، وعِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في المُؤَذِّنِينَ، قالَ قَيْسُ: "وَعَمِلَ صالِحًا" هو الصَلاةُ بَيْنَ الآذانِ والإقامَةِ، وذَكَرَ النِقاشُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ومَعْنى القَوْلِ بِأنَّها في المُؤَذِّنِينَ أنَّهم داخِلُونَ فِيها، وأمّا نُزُولُها فَبِمَكَّةَ بِلا خِلافٍ، ولَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ آذانٌ، وإنَّما تَرَتَّبَ بِالمَدِينَةِ، وإنَّ الأذانَ لَمِنَ الدُعاءِ إلى اللهِ تَعالى، ولَكِنَّهُ جُزْءٌ مِنهُ، والدُعاءُ إلى اللهِ بِقُوَّةٍ، كَجِهادِ الكُفّارِ ورَدْعِ الطُغاةِ وكَفِّ الظَلَمَةِ وغَيْرُهُ أعْظَمُ غِناءٍ مِن تَوَلِّي الأذانِ؛ إذْ لا مَشَقَّةَ فِيهِ، والأصْوَبُ أنْ يَعْتَقِدَ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ عامَّةً، قالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: المَعْنى: مِمَّنْ دَعا إلى اللهِ تَعالى بِالسَيْفِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ "إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ"﴾ بِنُونَيْنِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: [إنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ] بِنُونٍ واحِدَةٍ، وقالَ الفُضَيْلُ بْنُ رُفَيْدَةَ: كُنْتُ مُؤَذِّنًا في أصْحابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقالَ لِي عاصِمُ بْنُ هُبَيْرَةَ: إذا أكْمَلْتَ الآذانَ فَقُلْ: إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ. ثُمَّ وعَظَ تَعالى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، ونَبَّهَهُ عَلى أحْسَنِ مُخاطَبَةٍ، فَقَرَّرَ أنَّ الحَسَنَةَ والسَيِّئَةَ لا تَسْتَوِي، أيْ: فالحَسَنَةُ أفْضَلُ، وكَرَّرَ "لا" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا السَيِّئَةُ﴾ تَأْكِيدًا لِيَدُلَّ عَلى أنَّ المُرادَ: "وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ والسَيِّئَةُ ولا السَيِّئَةُ والحَسَنَةُ"، فَحَذَفَ اخْتِصارًا ودَلَّتْ [لا] عَلى هَذا الحَذْفِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ آيَةٌ جَمَعَتْ مَكارِمَ الأخْلاقِ وأنْواعَ الحِلْمِ، والمَعْنى: ادْفَعْ أُمُورَكَ وما يُعَرَضُ لَكَ مَعَ الناسِ ومُخالَطَتَكَ لَهم بِالفِعْلَةِ أو بِالسِيرَةِ الَّتِي هي أحْسَنُ الفِعْلاتِ والسِيرِ، فَمِن (p-٤٨٤)ذَلِكَ بَذْلُ السَلامِ، وحُسْنُ الأدَبِ، وكَظْمُ الغَيْظِ، والسَماحَةُ في القَضاءِ والِاقْتِضاءِ، وغَيْرُ ذَلِكَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إذا فَعَلَ المُؤْمِنُ هَذِهِ الفَضائِلَ، عَصَمَهُ اللهُ تَعالى مِنَ الشَيْطانِ، وخَضَعَ لَهُ عَدُّوهُ، وفَسَّرَ مُجاهِدٌ وعَطاءُ هَذِهِ الآيَةَ بِالسَلامِ عِنْدَ اللِقاءِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا شَكَّ أنَّ السَلامَ هو مَبْدَأُ الدَفْعِ بِالَّتِي هي أحْسَنُ، وهو جُزْءٌ مِنهُ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كَأنَّهُ ولِيٌّ حَمِيمٌ﴾، فَدَخَّلَ كافَ التَشْبِيهِ؛ لِأنَّ الَّذِي عِنْدَهُ عَداوَةٌ لا يَعُودُ ولِيًّا حَمِيمًا، وإنَّما يَحْسُنُ ظاهِرُهُ، فَيُشَبِّهُ بِذَلِكَ الوَلِيَّ الحَمِيمَ، و"الحَمِيمُ" هو القَرِيبُ الَّذِي يَحْتَمُّ لِلْإنْسانِ، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "يُلَقّاها"﴾ عائِدٌ عَلى هَذِهِ الخُلُقِ، الَّتِي يَتَضَمَّنُها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾، وقالَتْ فِرْقَةٌ: المُرادُ: وما يُلَقّى لا إلَهَ إلّا اللهَ، وهَذا تَفْسِيرٌ لا يَقْتَضِيهِ اللَفْظُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ مَدْحٌ بَلِيغٌ لِلصَّبْرِ، وذَلِكَ بَيِّنٌ لِلْمُتَأمِّلِ؛ لِأنَّ الصَبْرَ لِلطّاعاتِ وعَنِ الشَهَواتِ، جامِعٌ لِخِصالِ الخَيْرِ كُلِّها. والحَظُّ العَظِيمُ" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: مِنَ العَقْلِ والفَضْلِ، فَتَكُونُ الآيَةُ مَدْحًا، ورُوِيَ «أنَّ رَجُلًا شَتَمَ أبا بَكْرٍ الصَدِيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ بِحَضْرَةِ النَبِيِّ ﷺ، فَسَكَتَ أبُو بَكْرٍ ساعَةً، ثُمَّ جاشَ بِهِ الغَضَبُ، فَرَدَّ عَلى الرَجُلِ، فَقامَ النَبِيُّ ﷺ، فاتَّبَعَهُ أبُو بَكْرٍ وقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، قُمْتَ حِينَ انْتَصَرْتُ؟ فَقالَ: إنَّهُ كانَ يَرُدُّ عنكَ مَلَكٌ، فَلَمّا قَرُبْتَ تَنْتَصِرُ، ذَهَبَ المَلَكُ وجاءَ الشَيْطانُ، فَما كُنْتُ لِأُجالِسُهُ،» ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ مِنَ الجَنَّةِ وثَوابِ الآخِرَةِ، فَتَكُونُ الآيَةُ وعْدًا، وبِالجَنَّةِ فَسَّرَ قتادَةُ "الحَظَّ" هُنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب