الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَذَلِكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكم أرْداكم فَأصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ ﴿فَإنْ يَصْبِرُوا فالنارُ مَثْوًى لَهم وإنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هم مِنَ المُعْتَبِينَ﴾ ﴿وَقَيَّضْنا لَهم قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهم ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم وحَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِن الجِنِّ والإنْسِ إنَّهم كانُوا خاسِرِينَ﴾ ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ لَعَلَّكم تَغْلِبُونَ﴾ [ذَلِكُمْ] رَفْعٌ بِالِابْتِداءِ، والإشارَةُ بِهِ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ﴾ [فصلت: ٢٢]، قالَ قَتادَةُ: الظَنُّ ظَنّانِ، ظَنُّ مُنْجٍ، وظَنُّ مَهْلِكٌ. (p-٤٧٧)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فالمُنْجِي هو أنْ يَظُنَّ المُوَحِّدَ العارِفَ بِرَبِّهِ أنَّ اللهَ تَعالى يَرْحَمُهُ، والمُهْلِكُ: ظُنُونُ الكَفَرَةِ الجاهِلِينَ عَلى اخْتِلافِها، وفي هَذا المَعْنى لِيَحْيى بْنِ أكْثَمِ رُؤْيا حَسَنَةٍ مُؤْنِسَةٍ، و[ظَنُّكُمُ] خَبَرُ ابْتِداءٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ [أرْداكُمْ]﴾ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وجَوَّزَ الكُوفِيُّونَ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ، والبَصْرِيُّونَ لا يُجِيزُونَ وُقُوعَ الماضِي حالًا إذا اقْتَرَنَ بِقَدِّ، تَقُولُ: رَأيْتُ زَيْدًا قَدْ قامَ، وقَدْ يَجُوزُ تَقْدِيرُها عِنْدَهم وإنْ لَمْ تَظْهَرْ، ومَعْنى: ﴿ [أرْداكُمْ]:﴾ أُهْلَكَكُمْ، والرَدى: الهَلاكُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ يَصْبِرُوا﴾ مُخاطَبَةٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، والمَعْنى: فَإنْ يَصْبِرُوا أو لا يَصْبِرُوا، واقْتَصَرَ لِدَلالَةِ الظاهِرِ عَلى ما تَرَكَ، و"المَثْوى": مَوْضِعُ الإقامَةِ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "وَإنْ يَسْتَعْتِبُوا"﴾ بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ التاءِ الأخِيرَةِ عَلى إسْنادِ الفِعْلِ إلَيْهِمْ، ﴿ "فَما هم مِنَ المُعْتَبِينَ"﴾ بِفَتْحِ التاءِ، عَلى: وإنْ طَلَبُوا العُتْبى - وهي الرِضى - فَما هم مِمَّنْ يُعْطاها ويَسْتَوْجِبُها، وقَرَأ الحَسَنُ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، ومُوسى الأسْوارِي: "يَسْتَعْتِبُوا" بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ التاءِ الثانِيَةِ، "فَما هم مِنَ المُعْتِبِينِ" بِكَسْرِ التاءِ، عَلى مَعْنى: وإنَّ طُلِبَ مِنهم خَيْرٌ أو إصْلاحٌ، فَما هم مِمَّنْ يُوجَدُ عِنْدَهُمْ؛ لِأنَّهم قَدْ فارَقُوا الدُنْيا دارَ الأعْمالِ، كَما قالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ:« "لَيْسَ بَعْدَ المَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ"،» ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ القِراءَةُ بِمَعْنى: ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عنهُ. ثُمَّ وصَفَ عَزَّ وجَلَّ حالَهم في الدُنْيا وما أصابَهم بِهِ حِينَ أعْرَضُوا، فَحَتَّمَ عَلَيْهِمْ. (p-٤٧٨)وَ[قَيَّضْنا] أيْ يَسَّرْنا لَهم قُرَناءَ سُوءٍ مِنَ الشَياطِينِ وغُواةِ الإنْسِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فَزَيَّنُوا لَهم ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾، أيْ: عَلَّمُوهم وقَرَّرُوا في نُفُوسِهِمْ مُعْتَقَداتِ سُوءٍ في الأُمُورِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُمْ: مِن أمْرِ الرُسُلِ عَلَيْهِمُ السَلامُ، والنُبُوّاتِ، ومَدْحِ عِبادَةِ الأصْنامِ، واتِّباعِ فِعْلِ الآباءِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يُقالُ فِيهِ: "إنَّهُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ"، وذَلِكَ كُلُّ ما تَقَدَّمَهم في الزَمانِ واتَّصَلَ إلَيْهِمْ أثَرُهُ أو خَبَرُهُ، وكَذَلِكَ أعْطَوْهم مُعْتَقَداتِ سُوءٍ فِيما خَلْفَهُمْ، وهو كُلُّ ما يَأْتِي بَعْدَهم مِنَ القِيامَةِ والبَعْثِ ونَحْوَ ذَلِكَ مِمّا يُقالُ فِيهِ: "إنَّهُ خَلْفُ الإنْسانَ"، فَزَيَّنُوا لَهم في هَذَيْنَ كُلَّ ما يُرْدِيهِمْ ويُفْضِي بِهِمْ إلى عَذابِ جَهَنَّمَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ﴾ أيْ: سَبْقُ القَضاءِ الحَتْمِ وأمْرِ اللهِ بِتَعْذِيبِهِمْ في جُمْلَةِ أُمَمٍ مُعَذَّبِينَ كُفّارٍ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: [فِي] بِمَعْنى: "مَعَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والمَعْنى يَتَأدّى بِالحَرْفَيْنِ، ولا نَحْتاجُ أنْ نَجْعَلَ حَرْفًا بِمَعْنى حَرْفٍ، إذْ قَدْ أبى ذَلِكَ رُؤَساءَ البَصْرِيِّينَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ﴾ حِكايَةٌ لِما فَعَلَهُ بَعْضُ قُرَيْشٍ؛ كَأبِي جَهْلٍ وغَيْرِهِ، وذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ يَقْرَأُ القُرْآنَ في المَسْجِدِ الحَرامِ، ويُصْغِي إلَيْهِ الناسُ مِن مُؤْمِنٍ وكافِرٍ، فَخَشِيَ الكَفّارُ اسْتِمالَةَ القُلُوبِ بِذَلِكَ، فَقالُوا: مَتى قَرَأ مُحَمَّدٌ فَلْنُغَطِّ نَحْنُ بِالمُكاءِ والصَفِيرِ والصِياحِ وإنْشادِ الشِعْرِ والإرْجازِ، حَتّى يُخْفى صَوْتُهُ ولا يَقَعَ الِاسْتِماعُ مِنهُ، وهَذا الفِعْلُ مِنهم هو اللَغْوُ، وقالَ أبُو العالِيَةِ: أرادُوا: قَعُوا فِيهِ وعِيبُوهُ، و"اللَغْوُ" في اللُغَةِ: سَقْطُ القَوْلِ الَّذِي لا مَعْنى لَهُ، وهو مِنَ الحاسَّةِ والتَطَوُّلِ في حُكْمٍ لا مَعْنى لَهُ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ [والغَوْا]﴾ بِفَتْحِ الغَيْنِ وجَزْمِ الواوِ، وقَرَأ بَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ السَهْمِيُّ: "والغُوا" بِضَمِّ الغَيْنِ وسُكُونِ الواوِ، ورُوِيَتْ عن عِيسى، وابْنِ أبِي إسْحاقٍ - بِخِلافٍ عنهُما -، وهُما لُغَتانِ، يُقالُ: لَغا يَلْغُو، ويُقالُ: لَغِيَ يَلْغى، ويُقالُ أيْضًا: لَغا يَلْغى، أصْلُهُ يَفْعِلُ - بِكَسْرِ العَيْنِ - فَرَدَّهُ حَرْفُ الحَلْقِ إلى الفَتْحِ، فالقِراءَةُ الأُولى مِن يَلْغى، والقِراءَةُ الثانِيَةُ مِن يَلْغُو، قالَهُ الأخْفَشُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَعَلَّكم تَغْلِبُونَ﴾ أيْ تَطْمِسُونَ أمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ وتُمِيتُونَ ذِكْرَهُ وتَصْرِفُونَ القُلُوبَ عنهُ، فَهَذِهِ الغايَةُ الَّتِي تَمَنَّوْها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب