الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أعْداءُ اللهِ إلى النارِ فَهم يُوزَعُونَ﴾ ﴿حَتّى إذا ما جاءُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهم وأبْصارُهم وجُلُودُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أنْطَقَنا اللهُ الَّذِي أنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهو خَلَقَكم أوَّلَ مَرَّةٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ﴿وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكم سَمْعُكم ولا أبْصارُكم ولا جُلُودُكم ولَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنْ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمّا تَعْمَلُونَ﴾
[وَيَوْمَ] نَصْبٌ بِإضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: واذْكُرْ يَوْمَ. وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ، والأعْرَجُ، وأهْلُ المَدِينَةِ: "نَحْشُرُ" بِالنُونِ [أعْداءَ] بِالنَصْبِ، إلّا أنَّ الأعْرَجَ كَسَرَ الشِينَ. وقَرَأ الباقُونَ: "يُحْشَرُ" بِالياءِ المَرْفُوعَةِ "أعْداءُ" رَفْعًا، وهي قِراءَةُ الأعْمَشِ، والحَسَنِ، وأبِي رَجاءٍ، وأبِي جَعْفَرٍ، وقَتادَةَ، وعِيسى، وطَلْحَةَ، ونافِعٍ - فِيما رُوِيَ عنهُ -، وحُجَّتُها [يُوزَعُونَ]. و﴿أعْداءُ اللهِ﴾ هُمُ الكُفّارُ المُخالِفُونَ لِأمْرِهِ، و[يُوزَعُونَ] قالَ قَتادَةُ وأهْلُ اللُغَةِ: يُكَفُّ أوَّلُهم حَبْسًا عَلى آخِرِهِمْ، وفي حَدِيثِ أبِي قُحافَةَ يَوْمَ الفَتْحِ: "ذَلِكَ الوازِعُ"، وقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: لا بُدَّ لِلْقاضِي مِن وزَعَةٍ، وقالَ أبُو بَكْرٍ الصَدِيقُ (p-٤٧٤)رَضِيَ اللهُ عنهُ: إنِّي لا أُقَيِّدُ مِن وزَعَةِ اللهِ تَعالى.
و[حَتّى] غايَةٌ لِهَذا الحَشْرِ المَذْكُورِ، وهَذا وصْفُ حالٍ مِن أحْوالِهِمْ في بَعْضِ أوقاتِ القِيامَةِ، وذَلِكَ عِنْدَ وُصُولِهِمْ إلى جَهَنَّمَ، فَإنَّ اللهَ تَعالى سَيُقَرِّرَهم عِنْدَ ذَلِكَ عَلى أنْفُسِهِمْ، ويَسْألُونَ سُؤالَ تَوْبِيخٍ عن كُفْرِهِمْ، فَيُنْكِرُونَ ذَلِكَ ويَحْسَبُونَ أنَّ لا شاهِدَ، ويَظُنُّونَ السُؤالَ سُؤالَ اسْتِفْهامٍ واسْتِخْبارٍ، فَيُنْطِقُ اللهُ تَعالى جَوارِحَهم بِالشَهادَةِ عَلَيْهِمْ، فَرُوِيَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ: « "إنْ أوَّلَ ما يَنْطِقُ مِنَ الإنْسانِ فَخْذُهُ الأيْسَرُ، ثُمَّ تَنْطِقُ الجَوارِحُ، فَيَقُولُ الكافِرُ: تَبًّا لَكِ أيُّها الأعْضاءُ، فَعنكِ كُنْتُ أُدافِعُ"،» وفي حَدِيثٍ آخَرَ « "يَجِيئُونَ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى أفْواهِهِمُ الفِدامُ فَيَتَكَلَّمُ الفَخْذُ والكَفُّ".»
ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعالى مُحاوَرَتَهم لِجُلُودِهِمْ في قَوْلِهِمْ: ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا﴾، أيْ: وعَذابُنا (p-٤٧٥)عَذابٌ لَكُمْ، واخْتَلَفَ الناسُ، ما المُرادُ بِالجُلُودِ؟ فَقالَ جُمْهُورُ الناسِ: هي الجُلُودُ المَعْرُوفَةُ، وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنِ أبِي جَعْفَرٍ: كَنّى بِالجُلُودِ عَنِ الفُرُوجِ، وإيّاها أرادَ، وأخْبَرَ تَعالى أنَّ الجُلُودَ تَرُدُّ جَوابَهم بِأنَّ اللهَ تَعالى الخالِقَ المُبْدِئَ المُعِيدَ هو الَّذِي أنْطَقَهُمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ يُرِيدُ: كُلُّ شَيْءٍ ناطِقٍ، مِمّا هي فِيهِ عادَةٌ أو خَرْقُ عادَةٍ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ الجُلُودِ ومُحاوَرَتِها، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لَهُمْ، أو مِن كَلامِ مَلِكٍ يَأْمُرُهُ، وأمّا المَعْنى فَيَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يُرِيدَ: وما كُنْتُمْ تَتَصاوَنُونَ وتَحْجِزُونَ أنْفُسَكم عَنِ المَعاصِي والكُفْرِ، خَوْفَ أنْ يُشْهَدَ، أو لِأجْلِ أنْ يُشْهَدَ، ولَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللهَ سُبْحانَهُ لا يَعْلَمُ فانْهَمَكْتُمْ وجاهَرْتُمْ، وهَذا هو مَنحى مُجاهِدٍ، والسَتْرُ قَدْ يَتَصَرَّفُ عَلى هَذا المَعْنى ونَحْوَهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ والسَتْرُ دُونَ الفاحِشاتِ وما ∗∗∗ يَلْقاكَ دُونَ الخَيْرِ مِن سِتْرِ
والمَعْنى الثانِي أنْ يُرِيدَ: وما كُنْتُمْ تَمْتَنِعُونَ ولا يُمْكِنُكم ولا يَسَعُكُمُ الِاخْتِفاءُ عن أعْضائِكم والِاسْتِتارُ عنها بِكُفْرِكم ومَعاصِيكُمْ، ولا تَظُنُّونَ أنَّها تَصِلُ بِكم إلى هَذا الحَدِّ، وهَذا هو مَنحى السَدِّيِّ، كَأنَّ المَعْنى: وما كُنْتُمْ تَدْفَعُونَ بِالِاخْتِفاءِ والسَتْرِ أنْ تَشْهَدَ؛ لِأنَّ الجَوارِحَ لَزِيمَةٌ لَكُمْ، وفي إلْزامِهِ إيّاهُمُ الظَنَّ بِأنَّ اللهَ تَعالى لا يَعْلَمُ إلْزامَهُمُ الكُفْرَ والجَهْلَ بِاللهِ تَعالى، وهَذا المُعْتَقَدُ يُؤَدِّي بِصاحِبِهِ إلى تَكْذِيبِ أمْرِ الرُسُلِ، واحْتِقارِ قُدْرَةِ اللهِ تَعالى لا رَبَّ غَيْرُهُ، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: [وَلَكِنْ زَعَمْتُمْ أنَّ اللهَ]، وحَكى الطَبَرِيُّ عن قَتادَةَ أنَّهُ عَبَّرَ بِـ"تَسْتَتِرُونَ" عن "تَظُنُّونَ"، وذَلِكَ تَفْسِيرٌ لَمْ يُنْظَرْ فِيهِ إلى اللَفْظِ ولا ارْتِباطَ فِيهِ مَعَهُ، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ حَدِيثًا «عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: إنِّي لَمُسْتَتِرٌ بِأسْتارِ الكَعْبَةِ، إذْ دَخَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، قُرَشِيّانِ وثَقِّفِي، أو ثُقَفِيّانِ وقُرَشِيُّ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، فَتَحَدَّثُوا بِحَدِيثٍ، فَقالَ (p-٤٧٦)أحَدُهُمْ: أتَرى اللهَ يَسْمَعُ ما قُلْنا؟ قالَ الآخَرُ: إنَّهُ يَسْمَعُ إذا رَفَعْنا، ولا يَسْمَعُ إذا أخْفَيْنا، وقالَ الآخَرُ: إنْ كانَ يَسْمَعُ شَيْئًا مِنهُ، فَإنَّهُ يَسْمَعُهُ كُلَّهُ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَأخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: ﴿وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾ الآيَةُ، فَقَرَأ حَتّى بَلَغَ ﴿وَإنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هم مِنَ المُعْتَبِينَ﴾ [فصلت: ٢٤]»، وذَكَرَ الثَعْلَبِيُّ أنَّ الثَقَفِيَّ عَبْدُ يالِيلٍ، والقُرَشِيّانِ خَتَناهُ: رَبِيعَةُ وصَفْوانُ ابْنا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هَذا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فالآيَةُ مَدَنِيَّةٌ، ويُشْبِهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَرَأ الآيَةَ مُتَمَثِّلًا بِها عِنْدَ إخْبارِ عَبْدِ اللهِ إيّاهُ، واللهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":19,"ayahs":["وَیَوۡمَ یُحۡشَرُ أَعۡدَاۤءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمۡ یُوزَعُونَ","حَتَّىٰۤ إِذَا مَا جَاۤءُوهَا شَهِدَ عَلَیۡهِمۡ سَمۡعُهُمۡ وَأَبۡصَـٰرُهُمۡ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ","وَقَالُوا۟ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَیۡنَاۖ قَالُوۤا۟ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِیۤ أَنطَقَ كُلَّ شَیۡءࣲۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ","وَمَا كُنتُمۡ تَسۡتَتِرُونَ أَن یَشۡهَدَ عَلَیۡكُمۡ سَمۡعُكُمۡ وَلَاۤ أَبۡصَـٰرُكُمۡ وَلَا جُلُودُكُمۡ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَا یَعۡلَمُ كَثِیرࣰا مِّمَّا تَعۡمَلُونَ"],"ayah":"حَتَّىٰۤ إِذَا مَا جَاۤءُوهَا شَهِدَ عَلَیۡهِمۡ سَمۡعُهُمۡ وَأَبۡصَـٰرُهُمۡ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق