الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَإنْ أعْرَضُوا فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةً عادٍ وثَمُودَ﴾ ﴿إذْ جاءَتْهُمُ الرُسُلُ مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ ألا تَعْبُدُوا إلا اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لأنْزَلَ مَلائِكَةً فَإنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ﴾ ﴿فَأمّا عادٌ فاسْتَكْبَرُوا في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وقالُوا مَن أشَدُّ مِنّا قُوَّةً أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهم هو أشَدُّ مِنهم قُوَّةً وكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ﴾ المَعْنى: فَإنَّ أعْرَضَتْ قُرَيْشٌ والعَرَبُ الَّذِينَ دَعَوْتُهم إلى اللهِ تَعالى عن هَذِهِ الآياتِ البَيِّناتِ، فَأعْلِمْهم بِأنَّكَ تُحَذِّرْهم أنْ يُصِيبَهم مِنَ العَذابِ الَّذِي أصابَ الأُمَمَ الَّتِي كَذَّبَتْ كَما تُكَذِّبُ هي الآنَ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةً"،﴾ وقَرَأ النَخْعِيُّ، وأبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ، وابْنُ مُحَيْصِنٌ: "صَعْقَةٌ مِثْلَ صَعْقَةِ"، فَأمّا هَذِهِ القِراءَةُ الأخِيرَةُ، فَفِيها المَعْنى بَيِّنٌ؛ لِأنَّ الصَعْقَةَ: الهَلاكُ لِلْإنْسانِ، وأمّا الأُولى، فالمَعْرُوفُ في الصاعِقَةِ أنَّها الوَقْعَةُ الشَدِيدَةُ مِن صَوْتِ الرَعْدِ، وهي تَكُونُ مَعَها في الأحْيانِ قِطْعَةُ نارٍ، فَشُبِّهَتْ هُنا وقْعَةُ العَذابِ بِها؛ لِأنَّ عادًا لَمْ تُعَذَّبْ إلّا بِرِيحٍ، وإنَّما هَذا تَشْبِيهٌ واسْتِعارَةٌ، وبِالوَقْعَةِ فَسَرَّ هُنا الصاعِقَةَ قَتادَةُ وغَيْرُهُ. وخَصَّ عادًا وثَمُودًا بِالذِكْرِ لِوُقُوفِ قُرَيْشٍ عَلى بِلادِها في اليَمَنِ وفي الحَجَرِ في طَرِيقِ الشامِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ﴾، أيْ: قَدْ تَقَدَّمُوا في الزَمَنِ واتَّصَلَتْ نِذارَتُهم إلى أعْمارِ عادٍ وثَمُودٍ، وبِهَذا الِاتِّصالِ قامَتِ الحُجَّةُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِن خَلْفِهِمْ﴾، أيْ: جاءَهم رَسُولٌ بَعْدَ اكْتِمالِ أعْمارِهِمْ وبَعْدَ تَقَدُّمِ وجُودِهِمْ في الزَمَنِ، فَلِذَلِكَ قالَ تَعالى: (p-٤٧٠)﴿وَمِن خَلْفِهِمْ﴾، وجاءَ مِن مَجْمُوعِ العِبارَةِ إقامَةُ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ في أنَّ الرِسالَةَ والنِذارَةَ عَمَّتْهم خَبَرًا ومُباشَرَةً، ولا يَتَوَجَّهُ أنْ يَجْعَلَ ﴿وَمِن خَلْفِهِمْ﴾ عِبارَةً عَمّا أتى بَعْدَهم في الزَمانِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ لا يَلْحَقُهم مِنهُ تَقْصِيرٌ، وأمّا الطَبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعالى، فَقالَ: إنَّ الضَمِيرَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمِن خَلْفِهِمْ﴾ عائِدٌ عَلى الرُسُلِ، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ﴾ عَلى الأُمَمِ، وتابَعَهُ الثَعْلَبِيُّ، وهَذا غَيْرُ قَوِيٍّ؛ لِأنَّهُ يُفَرِّقُ الضَمائِرَ ويُشَعِّبُ المَعْنى. و"أنْ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألا تَعْبُدُوا إلا اللهَ﴾ نَصْبٌ عَلى إسْقاطِ الخافِضِ، التَقْدِيرُ: "بِأنْ"، و"تَعْبُدُوا" مَجْزُومٌ عَلى النَهْيِ، ويَتَوَجَّهُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى أنْ تَكُونَ "لا" نافِيَةٌ، وفِيهِ بُعْدٌ، وكانَ مِن تِلْكَ الأُمَمِ إنْكارُ بِعْثَةِ البَشَرِ واسْتِدْعاءُ المَلائِكَةِ، وهَذِهِ أيْضًا كانَتْ مِن مَقالاتِقُرَيْشٍ، وقَوْلُهُمْ: ﴿فَإنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ﴾ لَيْسَ عَلى جِهَةِ الإقْرارِ بِأنَّهم أُرْسِلُوا بِشَيْءٍ، وإنَّما مَعْناهُ: عَلى زَعْمِكم ودَعْواكم. ثُمَّ وصَفَ حالَةَ القَوْمِ، وأنَّ عادًا طَلَبُوا التَكَبُّرَ ووَضَعُوا أنْفُسَهم فِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، بَلْ بِالكُفْرِ والمَعاصِي، وغَوَتْهم قُوَّتُهم وعِظَمُ أبْدانِهِمْ والنِعَمُ عَلَيْهِمْ، فَقالُوا - عَلى جِهَةِ التَقْرِيرِ -: ﴿مَن أشَدُّ مِنّا قُوَّةً﴾ ؟ أيْ: لا أحَدَ أشَدَّ مِنّا قُوَّةً، فَعَرَضَ اللهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهم هو أشَدُّ مِنهم قُوَّةً﴾، وهَذا بَيِّنٌ في العَقْلِ، فَإنَّ المُوجِدَ لِلشَّيْءِ المُخْتَرِعَ لَهُ المُذْهِبَ مَتى شاءَ هو أقْوى مِنهُ، وأخْبَرَ تَبارَكَ وتَعالى عنهم بِجُحُودِهِمْ لِآياتِهِ المَنصُوبَةِ لِلنَّظَرِ والمُنَزَّلَةِ مِن عِنْدِهِ؛ إذْ لَفْظُ الآيَةِ يَعُمُّ ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب