الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ لَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ ﴿قُلْ أإنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدادًا ذَلِكَ رَبُّ العالَمِينَ﴾ ﴿وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن فَوْقِها وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها في أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ﴾
ذَكَرَ عَزَّ وجَلَّ حالَةَ الَّذِينَ آمَنُوا مُعادِلًا بِذَلِكَ حالَةَ الكافِرِينَ المَذْكُورِينَ لِيُبَيِّنَ الفَرْقَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: مَعْناهُ: غَيْرُ مَنقُوصٍ، وقالَتْ فِرْقَةٌ مَعْناهُ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ، يُقالُ: مَنَنْتُ الحَبْلَ، إذا قَطَعْتُهُ، وقالَ مُجاهِدٌ: مَعْناهُ: غَيْرُ مَحْسُوبٍ؛ مَحْصُورٌ، فَهو مُعَدٌّ لِأنْ يُمَنَّ بِهِ، ويَظْهَرُ في الآيَةِ أنَّهُ وصَفَهُ بِعَدَمِ المَنِّ والأذى، مِن حَيْثُ هو مِن جِهَةِ اللهِ تَعالى، فَهو شَرِيفٌ لا مَنَّ فِيهِ، وأُعْطِيّاتُ البَشَرِ هي الَّتِي يَدْخُلُها المَنُّ، وقالَ السَدِّيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في المَرْضى (p-٤٦٥)والزَمْنى، إذا عَجَزُوا عن إكْمالِ الطاعاتِ كُتِبَ لَهم مِنَ الأجْرِ، كَأصَحِّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
ثُمَّ أمَرَ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ أنْ يُوقِفَهم مُوَبَّخًا عَلى كَفْرِهِمْ بِخالِقِ الأرْضِ والسَماواتِ ومُخْتَرِعِها، ووَصَفَ صُورَةَ الخَلْقِ ومَدَّهُ، والحِكْمَةُ في خَلْقِهِ هَذِهِ المَخْلُوقاتِ في مُدَّةٍ مُمْتَدَّةٍ مَعَ قُدْرَةِ اللهِ عَلى إيجادِها في حِينٍ واحِدٍ، هي إظْهارُ القُدْرَةِ في ذَلِكَ حَسَبَ شَرَفِ الإيجادِ أوَّلًا أوَّلًا، قالَ قَوْمٌ: لِيُعَلِّمَ عِبادَهُ التَأنِّي في الأُمُورِ والمَهَلُ. وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ غَيْرَ مَرَّةٍ في نَظِيرِ قَوْلِهِ: [أإنَّكُمْ]، واخْتَلَفَ رُواةُ الحَدِيثِ في اليَوْمِ الَّذِي ابْتَدَأ اللهُ تَعالى فِيهِ خَلْقَ الأرْضِ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - وغَيْرِهِ «أنَّ أوَّلَ يَوْمٍ هو الأحَدُ، وأنَّ اللهَ تَعالى خَلَقَ فِيهِ وفي الِاثْنَيْنِ الأرْضَ، ثُمَّ خَلَقَ الجِبالَ ونَحْوَها يَوْمَ الثُلاثاءِ،» قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: فَمِن هُنا قِيلَ: هو يَوْمٌ ثَقِيلٌ، ثُمَّ خَلَقَ الشَجَرَ والثِمارَ والأنْهارَ يَوْمَ الأرْبِعاءِ، ومِن هُنا قِيلَ: هو يَوْمُ راحَةٍ وتَفَكُّرٍ في هَذِهِ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهِ، ثُمَّ خَلَقَ السَماواتِ وما فِيها يَوْمَ الخَمِيسِ ويَوْمَ الجُمْعَةِ، وفي آخِرِ ساعَةٍ مِن يَوْمِ الجُمْعَةِ: خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ، وقالَ السَدِّيُّ: وسُمِّيَ يَوْمُ الجُمْعَةِ لِاجْتِماعِ المَخْلُوقاتِ فِيهِ وتَكامُلِها. فَهَذِهِ رِوايَةٌ فِيها أحادِيثٌ مَشْهُورَةٌ، ولَمّا لَمْ يَخْلُقْ تَعالى في يَوْمِ السَبْتِ شَيْئًا امْتَنَعَ فِيهِ بَنُو إسْرائِيلَ عَنِ الشُغْلِ فِيهِ، ووَقَعَ في كِتابٍ مُسْلِمٍ «أنَّ أوَّلَ يَوْمٍ خَلَقَ اللهُ فِيهِ التُرْبَةَ يَوْمَ السَبْتِ، ثُمَّ رَتَّبَ المَخْلُوقاتِ عَلى سِتَّةِ أيّامٍ، وجَعَلَ الجُمْعَةَ عارِيًا مِنَ المَخْلُوقاتِ، إلّا مِن آدَمَ وحْدَهُ.» والظاهِرُ مِنَ القِصَصِ في طِينَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ أنَّ الجُمْعَةَ الَّتِي خُلِقَ فِيها آدَمُ قَدْ تَقَدَّمَتْها أيّامٌ وجُمَعٌ كَثِيرَةٌ، وأنَّ هَذِهِ الأيّامَ الَّتِي خَلَقَ اللهُ فِيها هَذِهِ المَخْلُوقاتِ هي أوَّلُ الأيّامِ، لِأنَّ بِإيجادِ الأرْضِ والسَماءِ والشَمْسِ وُجِدَ اليَوْمُ، وقَدْ يُحْتَمَلُ أنْ يَجْعَلَ تَعالى قَوْلَهُ ﴿ "يَوْمَيْنِ"﴾ عَلى التَقْدِيرِ، وإنْ لَمْ تَكُنِ الشَمْسُ خُلِقَتْ بَعْدُ، وكَأنَّ تَفْصِيلَ الوَقْتِ يُعْطِي أنَّها الأحَدُ ويَوْمُ الِاثْنَيْنِ كَما ذُكِرَ.
و"الأنْدادُ": الأشْباهُ والأمْثالُ، وهَذِهِ إشارَةٌ إلى كُلِّ ما عُبِدَ مِنَ المَلائِكَةِ والأصْنامِ وغَيْرِ ذَلِكَ، قالَ السَدِّيُّ: أكْفاءٌ مِنَ الرِجالِ يُطِيعُونَهم. و"الرَواسِي": هي الجِبالُ الثَوابِتُ، رَسا الجَبَلُ إذا ثَبَتَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَبارَكَ فِيها﴾ أيْ جَعَلَها مُنْبِتَةً لِلطَّيِّباتِ والأطْعِمَةِ، وجَعَلَها طَهُورًا، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن وُجُوهِ البَرَكَةِ، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (p-٤٦٦)رَضِيَ اللهُ عنهُ: [وَقَسَّمَ فِيها أقْواتَها]، وفي مُصْحَفِ عُثْمانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "وَقَدَّرَ".
واخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: [أقْواتَها]، فَقالَ السَدِّيُّ: هي أقْواتُ البَشَرِ وأرْزاقُهُمْ، وأضافَها إلى الأرْضِ مِن حَيْثُ هي فِيها وعنها، وقالَ قَتادَةُ: هي أقْواتُ الأرْضِ مِنَ الجِبالِ والأنْهارِ والأشْجارِ والصُخُورِ والمَعادِنِ والأشْياءِ، الَّتِي بِها قِوامُ الأرْضِ ومَصالِحُها، ورَوى ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما في هَذا حَدِيثًا مَرْفُوعًا، فَشَبَّهَها بِالقُوتِ الَّذِي بِهِ قِوامُ الحَيَوانِ، وقالَ مُجاهِدٌ: أرادَ أقْواتَها مِنَ المَطَرِ والمِياهِ، وقالَ عِكْرِمَةُ، والضَحّاكُ، ومُجاهِدٌ أيْضًا: أرادَ تَبارَكَ وتَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿ "أقْواتَها":﴾ خَصائِصَها الَّتِي قَسَّمَها في البِلادِ، فَجَعَلَ في اليَمَنِ أشْياءَ لَيْسَتْ في غَيْرِهِ، وكَذَلِكَ في العِراقِ والشامِ والأنْدَلُسِ وغَيْرِها مِنَ الأقْطارِ، لِيَحْتاجَ بَعْضُها إلى بَعْضٍ، ويَتَقَوَّتُ مِن هَذِهِ في هَذِهِ المَلابِسِ والمَطْعُومِ، وهَذا نَحْوَ القَوْلِ الأوَّلِ، إلّا أنَّهُ بِوَجْهٍ أعْمٍّ مِنهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ﴾ يُرِيدُ تَعالى: بِاليَوْمَيْنِ الأوَّلِينَ، وهَذا كَما تَقُولُ: بَنَيْتُ جِدارَ دارِي في يَوْمٍ، وأكْمَلْتُ جَمِيعَها في يَوْمَيْنِ، أيْ بِالأوَّلِ.
وقَرَأ الحَسَنُ البَصْرِيُّ، وأبُو جَعْفَرٍ، وجُمْهُورُ الناسِ: "[سَواءً]" بِالنَصْبِ عَلى الحالِ، أيْ: سَواءٌ هي وما انْقَضى فِيها، وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنِ القَعْقاعِ: "سَواءٌ" بِالرَفْعِ، أيْ هي سَواءٌ، وقَرَأ الحَسَنُ، وابْنُ أبِي إسْحاقٍ، وعِيسى، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: "سَواءٍ" بِالخَفْضِ عَلى نَعْتِ "الأيّامِ". واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في مَعْنى ﴿ "لِلسّائِلِينَ"﴾ فَقالَ قَتادَةُ، والسَدِّيُّ: مَعْناهُ: سَواءٌ لِمَن سَألَ عَنِ الأمْرِ واسْتَفْهَمَ عن حَقِيقَةِ وُقُوعِهِ وأرادَ العِبْرَةَ فِيهِ، فَإنَّهُ يَجِدُهُ كَما قالَ عَزَّ وجَلَّ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ وجَماعَةٌ: مَعْناهُ: مُسْتَوٍ مُهَيَّأٌ أمْرَ هَذِهِ المَخْلُوقاتِ ونَفْعِها لِلْمُحْتاجِينَ إلَيْها مِنَ البَشَرِ، فَعَبَّرَ عنهم بِالسائِلِينَ، بِمَعْنى الطالِبِينَ؛ لِأنَّهم مِن شَأْنِهِمْ ولا بُدَّ طَلَبُ ما يَنْتَفِعُونَ بِهِ، فَهم في حُكْمِ مَن سَألَ هَذِهِ الأشْياءَ؛ إذْ هم أهْلَ حاجَةٍ إلَيْها. ولَفْظَةُ "سَواءٍ" تَجْرِي مَجْرى "عَدْلٍ" و"زَوْرٍ" في أنْ تَرِدْ عَلى المُفْرَدِ والمُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ.
{"ayahs_start":8,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُمۡ أَجۡرٌ غَیۡرُ مَمۡنُونࣲ","۞ قُلۡ أَىِٕنَّكُمۡ لَتَكۡفُرُونَ بِٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ فِی یَوۡمَیۡنِ وَتَجۡعَلُونَ لَهُۥۤ أَندَادࣰاۚ ذَ ٰلِكَ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","وَجَعَلَ فِیهَا رَوَ ٰسِیَ مِن فَوۡقِهَا وَبَـٰرَكَ فِیهَا وَقَدَّرَ فِیهَاۤ أَقۡوَ ٰتَهَا فِیۤ أَرۡبَعَةِ أَیَّامࣲ سَوَاۤءࣰ لِّلسَّاۤىِٕلِینَ"],"ayah":"وَجَعَلَ فِیهَا رَوَ ٰسِیَ مِن فَوۡقِهَا وَبَـٰرَكَ فِیهَا وَقَدَّرَ فِیهَاۤ أَقۡوَ ٰتَهَا فِیۤ أَرۡبَعَةِ أَیَّامࣲ سَوَاۤءࣰ لِّلسَّاۤىِٕلِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق