الباحث القرآني

(p-٤١٨)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ غافِرٍ هَذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعٍ، وقَدْ رُوِيَ في بَعْضِ آياتِها أنَّها مَدَنِيَّةٌ، وهَذا ضَعِيفٌ، والأوَّلُ أصَحُّ، وهَذِهِ الحَوامِيمُ الَّتِي رَوى أُنْسٌ رَضِيَ اللهُ عنهُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ «أنَّها دِيباجُ القُرْآنِ،» ووَقَفَهُ الزَجّاجُ عَلى ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، ومَعْنى هَذِهِ العِبارَةِ أنَّها خَلَتْ مِنَ الأحْكامِ، وقُصِرَتْ عَلى المَواعِظِ والزَجْرِ وطُرُقِ الآخِرَةِ مَحْضًا، وأيْضًا فَهي قِصارٌ لا يَلْحَقُ لِقارِئٍ فِيها سَآمَةٌ. ورُوِيَ أنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَوى أنَّ النَبِيَّ عَلَيْهِ السَلامُ قالَ: « "مَن أرادَ أنْ يَرْتَعَ في رِياضٍ مُونِقَةٍ مِنَ الجَنَّةِ فَلْيَقْرَء الحَوامِيمَ"،» وهَذا نَحْوُ الكَلامِ الأوَّلِ في (p-٤١٩)المَعْنى. وقالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "مَثَلُ الحَوامِيمِ في القُرْآنِ مَثَلُ الحِبَراتِ في الثِيابِ".» قوله عزّ وجلّ: ﴿حم﴾ ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ ﴿غافِرِ الذَنْبِ وقابِلِ التَوْبِ شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَوْلِ لا إلَهَ إلا هو إلَيْهِ المَصِيرُ﴾ ﴿ما يُجادِلُ في آياتِ اللهِ إلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهم في البِلادِ﴾ ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ والأحْزابُ مِن بَعْدِهِمْ وهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وجادَلُوا بِالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأخَذْتُهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ في أوائِلِ السُوَرِ، وتِلْكَ الأقْوالُ كُلُّها تَتَرَتَّبُ في قَوْلِهِ: [حَمْ]، ويَخْتَصُّ هَذا المَوْضِعُ بِقَوْلٍ آخَرَ قالَهُ الضَحّاكُ، والكِسائِيُّ: إنَّ [حَمَ] هِجاءُ (حُمَّ) بِضَمِّ الحاءِ وشَدِّ المِيمِ المَفْتُوحَةِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: "حُمَّ الأمْرُ ووَقَعَ تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللهِ"، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "آلَرَ، حَمْ، ون هي حُرُوفُ "الرَحْمَنِ" مُقَطَّعَةٌ في سُوَرٍ"، وقالَ القُرَظِيُّ: أقْسَمَ اللهُ بِحِلْمِهِ ومُلْكِهِ، «وَسَألَ أعْرابِيٌّ النَبِيَّ ﷺ عن [حَمْ] ما هُوَ؟ فَقالَ: "بَدْءُ أسْماءٍ وفَواتِحُ سُوَرٍ".» وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِ الحاءِ، ورُوِيَ عن أبِي عَمْرٍو كَسْرُها عَلى الإمالَةِ، ورُوِيَ عن نافِعٍ الفَتْحُ، ورُوِيَ عنهُ الوَسَطُ بَيْنَهُما، وكَذَلِكَ اخْتُلِفَ عن عاصِمٍ، ورُوِيَ عن عِيسى (p-٤٢٠)كَسَرُ الحاءِ عَلى الإمالَةِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ بِفَتْحِ الحاءِ وسُكُونِ المِيمِ، وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ أيْضًا حَمَ بِفَتْحِ الحاءِ وفَتْحِ المِيمِ الأخِيرَةِ في النُطْقِ، ولِذَلِكَ وجْهانِ: أحَدُهُما التَحْرِيكُ لِلِالتِقاءِ مَعَ الياءِ الساكِنَةِ، والآخِرُ: حَرَكَةُ إعْرابٍ، وذَلِكَ نُصِبَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: اقْرَأْ حَمَ، وهَذا عَلى أنْ تُجْرى مَجْرى الأسْماءِ، والحُجَّةُ مِنهُ قَوْلُ شُرَيْحِ بْنِ أوفى العَبْسِيِّ: ؎ يُذَكِّرُنِي حامِيمَ والرُمْحُ شاجِرٌ ∗∗∗ فَهَلّا تَلا حامِيمَ قَبْلَ التَقَدُّمِ؟ وقَوْلُ الكُمَيْتِ: ؎ وجَدْنا لَكم في آلِ حامِيمَ آيَةٌ ∗∗∗ ∗∗∗ تَأوَّلَها مِنّا تَقِيٌّ ومُعْرِبُ وقَرَأ أبُو السَمّالِ: بِكَسْرِ المِيمِ الأخِيرَةِ، وذَلِكَ لِالتِقاءِ الساكِنَيْنِ، و[حَمْ] آيَةٌ. و[تَنْزِيلُ] رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِنَ اللهِ﴾ وعَلى القَوْلِ بِأنَّ [حَمْ] إشارَةٌ إلى حُرُوفِ المُعْجَمِ يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿ [تَنْزِيلُ]﴾ خَبَرَ ابْتِداءٍ، و[الكِتابِ]: القُرْآنِ، وقَوْلُهُ (p-٤٢١)تَعالى: ﴿ "غافِرِ"﴾ بَدَلٌ مِنَ المَكْتُوبَةِ، وإنْ أرَدْتُّ بِـ"غافِرِ" المُضِيَّ - أيْ غُفْرانَهُ في الدُنْيا وقَضاؤَهُ بِالغُفْرانِ وسَتْرَهُ عَلى المُذْنِبِينَ - فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ "غافِرِ" صِفَةً؛ لِأنَّ إضافَتَهُ إلى المَعْرِفَةِ تَكُونُ مَحْضَةً، وهَذا مُتَرَجِّحٌ جِدًّا، وإذا أرَدْتَ بِـ"غافِرِ" الِاسْتِقْبالَ أيْ غُفْرانَهُ يَوْمَ القِيامَةِ - فالإضافَةُ غَيْرُ مَحْضَةٍ، و"غافِرِ" نَكِرَةٌ، فَلا يَكُونُ نَعْتًا؛ لِأنَّ المَعْرِفَةَ لا تُنْعَتُ بِالنَكِرَةِ، وفي هَذا نَظَرٌ. وقالَ الزَجّاجُ: "غافِرِ" و"قابِلِ" صِفَتانِ، و﴿شَدِيدِ العِقابِ﴾ بَدَلٌ، و"الذَنْبِ" اسْمُ الجِنْسِ، وأمّا ﴿ "التَوْبِ"﴾ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كالعَوْمِ والنَوْمِ فَيَكُونُ اسْمَ جِنْسٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ تَوْبَةٍ، كَتَمْرَةٍ وتَمْرٍ، وساعَةٍ وساعٍ. وقَبُولُ التَوْبَةِ مِنَ الكافِرِ مَقْطُوعٌ بِهِ؛ لِإخْبارِ اللهِ تَعالى، وقَبُولِ التَوْبَةِ مِنَ العاصِي في وُجُوبِها قَوْلانِ لِأهْلِ السُنَّةِ، وحَكى الطَبَرِيُّ عن أبِي بَكْرِ بْنِ عَيّاشٍ أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ فَقالَ: إنِّي قَتَلْتُ، فَهَلْ لِي مِن تَوْبَةٍ؟ فَقالَ: نَعَمِ، اعْمَلْ ولا تَيْأسْ، ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ إلى قَوْلِهِ تَعالى: " قابِلِ التَوْبِ ". [وَ ﴿شَدِيدِ العِقابِ﴾ صِفَةٌ، وقِيلَ: بَدَلٌ]. ثُمَّ عَقَّبَ تَعالى هَذا الوَعِيدَ بِوَعْدٍ ثانٍ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ذِي الطَوْلِ﴾، أيْ: ذِي التَطَوُّلِ والمَنِّ بِكُلِّ نِعْمَةٍ، فَلا خَيْرَ إلّا مِنهُ، فَتَرَتَّبَ في الآيَةِ وعِيدٌ بَيْنَ وعْدَيْنِ، وهَكَذا رَحْمَةُ اللهِ تَغْلِبُ غَضَبَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: سَمِعْتُ هَذِهِ النَزْعَةُ مِن أبِي رَضِيَ اللهُ عنهُ، وهي نَحْوٌ مَن قَوْلِ عَمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ"، يُرِيدُ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: ٥] ﴿إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: ٦]. (p-٤٢٢)وَ"الطَوْلُ": الإنْعامُ، ومِنهُ "ما حَلِيتُ بِطائِلٍ"، وحَكى الثَعْلَبِيُّ عن أهْلِ الإشارَةِ أنَّهُ تَعالى غافِرِ الذَنْبِ فَضْلًا، وقابِلِ التَوْبِ وعْدًا، وشَدِيدِ العِقابِ عَدْلًا. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: الطَوْلُ: السَعَةُ والغِنى. ثُمَّ صَدَعَ تَعالى بِالتَوْحِيدِ في قَوْلِهِ: ﴿لا إلَهَ إلا هُوَ﴾، وبِالبَعْثِ والحَشْرِ في قَوْلِهِ: ﴿إلَيْهِ المَصِيرُ﴾. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما يُجادِلُ في آياتِ اللهِ﴾ يُرِيدُ: جِدالًا باطِلًا، لِأنَّ الجِدالَ فِيها يَقَعُ مِنَ المُؤْمِنِينَ لَكِنْ في إثْباتِها وشَرْحِها، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا يَغْرُرْكَ﴾ أنْزَلَهُ مَنزِلَةَ: "فَلا يَحْزُنْكَ ولا يَهُمَّنَّكَ" لِتَدُلَّ الآيَةُ عَلى أنَّهم يَنْبَغِي ألّا يَغْتَرُّوا بِإمْلاءِ اللهِ تَعالى لَهُمْ، فالخِطابُ لَهُ والإشارَةُ إلى مَن يَقَعُ مِنهُ الِاغْتِرارُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ [يَغْرُرْكَ] بِمَعْنى: تَظُنُّ أنَّ وراءَ تَقَلُّبِهِمْ وإمْهالِهِمْ خَيْرًا لَهُمْ، فَتَقُولُ: عَسى أنْ لا يُعَذَّبُوا. وحُلَّ الفِعْلُ مِنَ الإدْغامِ لِسُكُونِ الحَرْفِ الثانِي، وحَيْثُ هُما مُتَحَرِّكانِ لا يَجُوزُ الحَلُّ، لا تَقُولُ: زِيدٌ يَغْرُرُكَ. وتَقَلُّبُهم في البِلادِ عِبارَةٌ عن تَمَتُّعِهِمْ بِالمَساكِنِ والمَزارِعِ والأسْفارِ وغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ مَثَّلَ لَهم بِمَن تَقَدَّمُهم مِنَ الأُمَمِ، أيْ: كَما حَلَّ بِأُولَئِكَ كَذَلِكَ يَنْزِلُ بِهَؤُلاءِ. و[الأحْزابُ]: يُرِيدُ بِهِمْ عادًا وثَمُودَ أو أهْلَ مَدْيَنَ وغَيْرَهُمْ، وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "بِرَسُولِها"، رَدًّا عَلى "الأُمَّةِ"، وضَمِيرُ الجَماعَةِ هو عَلى مَعْنى الأُمَّةِ لا عَلى لَفْظِها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَأْخُذُوهُ﴾ مَعْناهُ: لِيُهْلِكُوهُ، كَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَأخَذْتُهُمْ﴾، والعَرَبُ تَقُولُ لِلْقَتِيلِ: أخِيذٌ، ولِلْأسِيرِ: أخِيذٌ، ومِنهُ قَوْلُهُمْ: "أكْذَبُ مِنَ الأخِيذِ الصَبْحانِ"، وقالَ (p-٤٢٣)قَتادَةُ: "لِيَأْخُذُوهُ" مَعْناهُ: لِيَقْتُلُوهُ. و[لِيُدْحِضُوا] مَعْناهُ: لِيُزْلِقُوا ولِيُذْهِبُوا، والمَدْحَضَةُ: المَزَلَّةُ والمَزْلَقَةُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَكَيْفَ كانَ عِقابِ﴾ تَعْجِيبٌ وتَعْظِيمٌ، ولَيْسَ بِاسْتِفْهامٍ عن كَيْفِيَّةِ وُقُوعِ الأمْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب