الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظاهِرِينَ في الأرْضِ فَمَن يَنْصُرُنا مِن بَأْسِ اللهِ إنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكم إلا ما أرى وما أهْدِيكم إلا سَبِيلَ الرَشادِ﴾ ﴿وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إنِّي أخافُ عَلَيْكم مِثْلَ يَوْمِ الأحْزابِ﴾ ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ والَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وما اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ﴾ ﴿وَيا قَوْمِ إنِّي أخافُ عَلَيْكم يَوْمَ التَنادِ﴾ ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكم مِنَ اللهِ مِنَ عاصِمٍ ومَن يُضْلِلِ اللهِ فَما لَهُ مِنَ هادٍ﴾ قَوْلُ هَذا المُؤْمِنِ: ﴿يا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظاهِرِينَ في الأرْضِ﴾ اسْتِنْزالٌ لَهم ووَعْظٌ لَهم مِن جِهَةِ شَهَواتِهِمْ، وتَحْذِيرٌ مِن زَوالِ تَرَفِهِمْ، ونَصِيحَةٌ لَهم في أمْرِ دُنْياهُمْ، وقَوْلُهُ: ﴿فِي الأرْضِ﴾ يُرِيدُ في أرْضِ مِصْرَ وما والاها مِن مَمْلَكَتِهِمْ. ثُمَّ قَرَّرَهم عَلى مَن هو الناصِرُ لَهم مِن بَأْسِ اللهِ تَعالى، وهَذِهِ الأقْوالُ تَقْتَضِي زَوالَ هَيْبَةِ فِرْعَوْنَ، ولِذَلِكَ اسْتَكانَ هو ورَجَعَ يَقُولُ: ﴿ما أُرِيكم إلا ما أرى﴾ كَما يَقُولُ مَن لا تَحَكُّمَ لَهُ. وقَوْلُهُ: ﴿أُرِيكُمْ﴾ مِن رَأى، قَدْ عُدِّيَ بِالهَمْزَةِ، فَلِلْفِعْلِ مَفْعُولانِ: أحَدُهُما الضَمِيرُ في ﴿أُرِيكُمْ﴾، والآخَرُ ما في قَوْلِهِ: ﴿إلا ما أرى﴾، وكَأنَّ الكَلامَ: "أُرِيكم ما أرى"، ثُمَّ أدْخَلَ في صَدْرِ الكَلامِ (p-٤٣٩)"ما" النافِيَةَ وقَلَبَ مَعْناها بِـ"إلّا" المُوجِبَةِ تَخْصِيصًا وتَأْكِيدًا لِلْأمْرِ، كَما تَقُولُ: "قامَ زَيْدٌ"، فَإذا قُلْتَ: "ما قامَ إلّا زَيْدٌ" أفَدْتَ تَخْصِيصَهُ وتَأْكِيدَ أمْرِهِ، و"أرى" مُتَعَدِّيَةٌ إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، وهو الضَمِيرُ الَّذِي فِيهِ، العائِدُ عَلى "ما"، تَقْدِيرُهُ: إلّا ما أراهُ، وحَذْفُ هَذا المَفْعُولِ مِنَ الصِفَةِ حَسَنٌ لِطُولِ الصِلَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "الرَشادِ" مَصْدَرَ "رَشَدَ"، وفي قِراءَةِ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: [سَبِيلَ الرَشّادِ] بِشَدِّ الشِينِ، قالَ أبُو الفَتْحِ: وهو اسْمُ فاعِلٍ في بِنْيَتِهِ مُبالَغَةٌ، وهو مِنَ الفِعْلِ الثُلاثِيِّ "رَشَدَ"، فَهو كَعَبّادٍ مِن عَبَدَ، وقالَ النُحاسُ: هو وهْمٌ، وتَوَهَّمَهُ مِنَ الفِعْلِ الرُباعِيِّ. وقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللهُ مَرْدُودٌ، قالَ أبُو حاتِمٍ: كانَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ يُفَسِّرُها: سَبِيلَ اللهِ، ويَبْعُدُ عِنْدِي هَذا عَلى مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وهَلْ كانَ فِرْعَوْنُ يَدَّعِي إلّا أنَّهُ إلَهٌ؟ ويُقْلِقُ بِناءُ اللَفْظَةِ عَلى هَذا التَأْوِيلِ. واخْتَلَفَ الناسُ في المُرادِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقالَ الَّذِي آمَنَ﴾، فَقالَ الجُمْهُورُ: هو المُؤْمِنُ المَذْكُورُ أوَّلًا، قَصَّ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى أقاوِيلَهُ إلى آخَرِ الآياتِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ كَلامُ ذَلِكَ المُؤْمِنِ قَدِيمٌ، وإنَّما أرادَ تَعالى بِالَّذِي آمَنَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، واحْتَجَّتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ بِقُوَّةِ كَلامِهِ، وأنَّهُ جَلَّحَ مَعَهم بِالإيمانِ، وذِكْرِ عَذابِ الآخِرَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ، ولَمْ يَكُنْ كَلامُ الأوَّلِ إلّا بِمُلايَنَةٍ لَهم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِثْلَ يَوْمِ الأحْزابِ﴾ أيْ: مِثْلَ يَوْمٍ مِن أيّامِهِمْ؛ لِأنَّ عَذابَهم لَمْ يَكُنْ في يَوْمٍ واحِدٍ ولا عَصْرٍ واحِدٍ، و"الأحْزابِ": المُتَحَزِّبُونَ عَلى أنْبِياءِ اللهِ تَعالى عَلَيْهِمُ الصَلاةُ والسَلامُ، و"مِثْلَ" الثانِي بَدَلٌ مِنَ الأوَّلِ، و"الدَأْبُ": العادَةُ، وقَوْلُهُ: ﴿وَما اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ﴾ أيْ: مِن نَفْسِهِ، أيْ: يَظْلِمُهم هُوَ، فالإرادَةُ هُنا عَلى بابِها لِأنَّ الظُلْمَ مِنهُ لا يَقَعُ البَتَّةَ، ولَيْسَ مَعْنى الآيَةِ أنَّ اللهَ لا يُرِيدُ ظُلْمَ بَعْضِ العِبادِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، والبُرْهانُ وُقُوعُهُ، ومُحالٌ أنْ يَقَعَ ما لا يُرِيدُهُ اللهُ تَعالى، وقَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ التَنادِ﴾ مَعْناهُ: يُنادِي قَوْمٌ قَوْمًا ويُنادِيهِمُ الآخَرُونَ. (p-٤٤٠)واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في التَنادِي المُشارِ إلَيْهِ، فَقالَ قَتادَةُ: هو نِداءُ أهْلِ الجَنَّةِ أهْلَ النارِ: ﴿فَهَلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَ رَبُّكم حَقًّا﴾ [الأعراف: ٤٤] الآيَةُ. ونِداءُ أهْلِ النارِ لَهُمْ: ﴿أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الماءِ﴾ [الأعراف: ٥٠] الآيَةُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ هو النِداءُ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ﴾ [الإسراء: ٧١]، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما وغَيْرُهُ: هو التَنادِي الَّذِي يَكُونُ بِالناسِ عِنْدَ النَفْخِ في الصُوَرِ نَفْخَةَ الفَزَعِ في الدُنْيا، وأنَّهم يَفِرُّونَ عَلى وُجُوهِهِمْ لِلْفَزَعِ الَّذِي يَنالُهُمْ، ويُنادِي بَعْضُهم بَعْضًا، ورُوِيَ هَذا التَأْوِيلُ عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ التَذْكِيرَ بِكُلِّ نِداءٍ في القِيامَةِ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلى الكُفّارِ والعُصاةِ، ولَها أجْوِبَةٌ بِنِداءٍ، وهي كَثِيرَةٌ، مِنها ما ذَكَرْناهُ، ومِنها: يا أهْلَ النارِ خُلُودٌ لا مَوْتٌ، يا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ لا مَوْتٌ، ومِنها نِداءُ أهْلِ الغَدَراتِ، والنِداءُ ﴿لَمَقْتُ اللهِ﴾ [غافر: ١٠]، والنِداءُ ﴿لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ﴾ [غافر: ١٦]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "التَنادْ" بِسُكُونِ الدالِ في الوَصْلِ، وهَذا عَلى إجْرائِهِمُ الوَصْلَ مَجْرى الوَقْفِ في غَيْرِ ما مَوْضِعٍ، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ: "التَنادِي" بِالياءِ في الوَصْلِ والوَقْفِ، وهَذا عَلى الأصْلِ، وقَرَأ الباقُونَ "التَنادِ" بِغَيْرِ ياءٍ فِيهِما، ورُوِيَ ذَلِكَ عن نافِعٍ وابْنِ كَثِيرٍ، وحُذِفَتِ الياءُ مَعَ الألِفِ واللامِ حَمْلًا عَلى حَذْفِها مَعَ مُعاقِبِها وهو التَنْوِينُ، وقالَ سِيبَوَيْهِ: حُذِفَتِ الياءُ تَخْفِيفًا، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، والضَحّاكُ، وأبُو صالِحٍ، والكَلْبِيُّ: "التَنادِّ" بِشَدِّ الدالِّ، وهَذا مَعْنى آخَرُ لَيْسَ مِنَ النِداءِ، بَلْ هو مِن نَدَّ البَعِيرُ إذا هَرَبَ، وبِهَذا المَعْنى فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ والسُدِّيُّ هَذِهِ الآيَةَ، ورَوَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ في (p-٤٤١)هَذا المَعْنى حَدِيثًا «أنَّ اللهَ تَعالى إذا طَوى السَماواتِ نَزَلَتْ مَلائِكَةُ كُلِّ سَماءٍ فَكانَتْ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُسْتَدِيرَةً بِالأرْضِ الَّتِي عَلَيْها الناسُ لِلْحِسابِ، فَإذا رَأى العالَمُ هَوْلَ القِيامَةِ وأخْرَجَتْ جَهَنَّمُ عُنُقَها إلى أصْحابِها فَرَّ الكُفّارُ ونَدُّوا مُدْبِرِينَ إلى كُلِّ جِهَةٍ، فَتَرُدُّهُمُ المَلائِكَةُ إلى المَحْشَرِ خاسِئِينَ لا عاصِمَ لَهُمْ،» قالَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ: ومِصْداقُ هَذا الحَدِيثِ في كِتابِ اللهِ تَعالى قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿والمَلَكُ عَلى أرْجائِها﴾ [الحاقة: ١٧]، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢]، وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِن أقْطارِ السَماواتِ والأرْضِ فانْفُذُوا، لا تَنْفُذُونَ إلا بِسُلْطانٍ﴾ [الرحمن: ٣٣]. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾ مَعْناهُ عَلى بَعْضِ الأقاوِيلِ في التَنادِي: تَفِرُّونَ هُرُوبًا مِنَ المُفْزِعِ، وعَلى بَعْضِها: تَفِرُّونَ مُدَبِّرِينَ إلى النارِ. والعاصِمُ: المُنَجِّي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب