الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكم آياتِهِ ويُنَزِّلُ لَكم مِنَ السَماءِ رِزْقًا وما يَتَذَكَّرُ إلا مِنَ يُنِيبُ﴾ ﴿فادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِينَ ولَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ﴾ ﴿رَفِيعُ الدَرَجاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُوحَ مِن أمْرِهِ عَلى مِن يَشاءُ مِن عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَلاقِ﴾ ﴿يَوْمَ هم بارِزُونَ لا يَخْفى عَلى اللهِ مِنهم شَيْءٌ لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ﴾ ﴿اليَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ اليَوْمَ إنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ هَذا ابْتِداءُ مُخاطَبَةٍ في مَعْنى تَوْحِيدِ اللهِ تَعالى وتَبْيِينِ عَلاماتِ ذَلِكَ. وآياتُ اللهِ: تَعُمُّ آياتِ قُدْرَتِهِ وآياتِ قُرْآنِهِ والمُعْجِزاتِ الظاهِرَةِ عَلى أيْدِي رُسُلِهِ، وتَنْزِيلُ الرِزْقِ: هو في تَنْزِيلِ المَطَرُ وفي تَنْزِيلِ القَضاءِ والحُكْمِ، بِنَيْلِ ما يَنالُهُ المَرْءُ في تِجارَةٍ وغَيْرِ ذَلِكَ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "[وَيُنْزِلُ]" بِالتَخْفِيفِ، وقَرَأ الحَسَنُ، والأعْرَجُ، وعِيسى وجَماعَةٌ بِالتَشْدِيدِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما يَتَذَكَّرُ إلا مَن يُنِيبُ﴾ مَعْناهُ: وما يَتَذَكَّرُ تَذَكُّرًا يُعْتَدُّ بِهِ ويَنْفَعُ صاحِبَهُ؛ لِأنّا نَجِدُ مَن لا يُنِيبُ يَتَذَكَّرُ، لَكِنْ لَمّا كانَ ذَلِكَ غَيْرُ نافِعٍ عُدَّ كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ﴾ مُخاطَبَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ، و"ادْعُوا": مَعْناهُ: اعْبُدُوا. (p-٤٢٨)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَفِيعُ الدَرَجاتِ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالدَرَجاتِ صِفاتَهُ العُلى، وعَبَّرَ تَعالى بِما يَقْرُبُ لِأفْهامِ السامِعِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: رَفِيعُ الدَرَجاتِ الَّتِي يُعْطِيها لِلْمُؤْمِنِينَ، ويَتَفَضَّلُ بِها عَلى عِبادِهِ المُخْلِصِينَ في جَنَّتِهِ. و"العَرْشُ" هو الجِسْمُ المَخْلُوقُ الأعْظَمُ، الَّذِي السَماواتُ السَبْعُ والأرَضُونَ فِيهِ كالدَنانِيرِ في الفَلاةِ مِنَ الأرْضِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُلْقِي الرُوحَ﴾. قالَ الضَحّاكُ: الرُوحُ هُنا هو الوَحْيُ والقُرْآنُ وغَيْرُهُ مِمّا لَمْ يُتْلَ، وقالَ قَتادَةُ والسُدِّيُّ: الرُوحُ النُبُوَّةُ ومَكانَتُها، كَما قالَ: ﴿رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ [الشورى: ٥٢]، وسَمّى هَذا رُوحًا لِأنَّهُ يُحْيِي بِهِ الأُمَمَ والأزْمانَ كَما يُحْيِي الجَسَدَ بِرُوحِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إلْقاءُ الرَوْحِ عامًّا لِكُلِّ ما يُنْعِمُ اللهُ بِهِ عَلى عِبادِهِ المُهْتَدِينَ في تَفْهِيمِهِ الإيمانَ والمَعْقُولاتِ الشَرْعِيَّةِ. والمُقَدَّرُ - عَلى هَذا التَأْوِيلِ - هو اللهُ تَعالى. قالَ الزَجّاجُ: الرُوحُ: كُلُّ ما بِهِ حَياةُ الناسِ، وكُلُّ مُهْتَدٍ حَيٌّ، وكُلُّ ضالٍّ كالمَيِّتِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن أمْرِهِ﴾ إنْ جَعَلْتَهُ جِنْسًا لِلْأُمُورِ فَـ"مِن" لِلتَّبْعِيضِ، أو لِابْتِداءِ الغايَةِ، وإنْ جَعْلَنا الأمْرَ مِن مَعْنى الكَلامِ، فَـ"مِن" إمّا لِابْتِداءِ الغايَةِ، وإمّا بِمَعْنى الباءِ، ولا تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ بَتَّةً. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وجَماعَةٌ: "لِيُنْذِرَ" بِالياءِ وكَسْرِ الذالِ، وفي الفِعْلِ ضَمِيرٌ يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى اللهِ تَعالى، أو عَلى الرُوحِ، أو عَلى "مِن" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن يَشاءُ مَن عِبادِهِ﴾، وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ السَمَيْفَعِ اليَمانِيُّ: "لِيُنْذَرَ" بِالياءِ وفَتْحِ الذالِ، وضَمِّ المِيمِ مِن "يَوْمُ"، وجَعَلَ اليَوْمَ مُنْذِرًا عَلى الِاتِّساعِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "لِتُنْذِرَ" بِالتاءِ عَلى المُخاطَبَةِ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، و"يَوْمَ" بِالنَصْبِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، ونافِعٌ، وجَماعَةٌ: "التَلاقِ" بِدُونِ ياءٍ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو أيْضًا، وعِيسى، ويَعْقُوبُ: "التَلاقِي" بِالياءِ، والخِلافُ فِيها كالخِلافِ الَّذِي مَرَّ في "يَوْمِ التَنادِ"، ومَعْناهُ: تَلاقِي جَمِيعِ العالِمِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وذَلِكَ أمْرٌ لَمْ يَتَّفِقْ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ. وقالَ السُدِّيُّ: مَعْناهُ: تَلاقِي أهْلِ السَماءِ وأهْلِ الأرْضِ، وقِيلَ: مَعْناهُ: تَلاقِي الناسِ مَعَ بارِئِهِمْ، وهَذا المَعْنى الأخِيرُ هو أشَدُّها تَخْوِيفًا، وقِيلَ: يَلْتَقِي المَرْءُ وعَمَلَهُ. (p-٤٢٩)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ هم بارِزُونَ﴾ مَعْناهُ: في بِرازٍ مِنَ الأرْضِ يَنْفُذُهُمُ البَصَرُ ويَسْمَعُهُمُ الداعِي، ونُصِبَ "يَوْمَ" عَلى البَدَلِ مِنَ الأوَّلِ، فَهو نَصْبُ المَفْعُولِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُنْصَبَ عَلى الظَرْفِ ويَكُونُ العامِلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَخْفى﴾، وهي حَرَكَةُ إعْرابٍ لا حَرَكَةَ بَنِاءٍ؛ لِأنَّ الظَرْفَ لا يُبْنى إلّا إذا أُضِيفَ إلى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ كَيَوْمِئِذٍ، وكَقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ عَلى حِينِ عاتَبْتُ المَشِيبَ عَلى الصِبا ∗∗∗ وقُلْتُ ألَمّا أصْحُ والشَيْبُ وازِعُ؟ وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ [المائدة: ١١٩]، وأمّا في هَذِهِ الآيَةِ فالجُمْلَةُ أمْرٌ مُتَمَكِّنٌ، كَما تَقُولُ: "جِئْتُ يَوْمَ زَيْدٌ أمِيرٌ" فَلا يَجُوزُ البِناءُ،فَتَأمَّلْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَخْفى عَلى اللهِ مِنهم شَيْءٌ﴾ أيْ: مِن بَواطِنِهِمْ وسَرائِرِهِمْ ودَعَواتَ صُدُورِهِمْ، وفي مُصْحَفِ أبِيِّ بْنِ كَعْبٍ: [لا يَخْفى عَلَيْهِ مِنهم شَيْءٌ] بِضَمِيرِ بَدَلِ المَكْتُوبَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ﴾. رُوِيَ أنَّ اللهَ تَعالى يُقَرِّرُ هَذا التَقْرِيرَ ويَسْكُتُ (p-٤٣٠)العالَمُ هَيْبَةً وجَزَعًا، فَيُجِيبُ هو نَفْسَهُ: ﴿لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ﴾، قالَ الحَسَنُ: هو تَعالى السائِلُ وهو المُجِيبُ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّهُ تَعالى يُقَرِّرُ فَيُجِيبُ العالَمُ بِذَلِكَ، وقِيلَ: يُنادِي بِالتَقْرِيرِ مَلَكٌ فَيُجِيبُ الناسُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وإذا تَأمَّلَ المُؤْمِنُ أنَّهُ لا حَوْلَ لِمَخْلُوقٍ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ، فالزَمانُ كُلُّهُ وأيّامُ الدَهْرِ أجْمَعُ إنَّما المُلْكُ فِيها لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ، لَكِنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ لِلْكَفَرَةِ والجَهَلَةِ يَتَّضِحُ يَوْمَ القِيامَةِ. وإذا تَأمَّلَ تَسْخِيرَ أهْلِ السَمَواتِ وعِبادَتِهِمْ ونُفُوذِ القَضاءِ في الأرْضِ فَأيُّ مُلْكٍ لِغَيْرِ اللهِ؟ ثُمَّ يُعْلِمُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى أهْلَ المَوْقِفِ بِأنَّهُ يَوْمُ المُجازاةِ بِالأعْمالِ صالِحِها وسَيِّئِها، وهَذِهِ الآيَةُ نَصٌّ في أنَّ الثَوابَ والعِقابَ مُعَلَّقٌ بِاكْتِسابِ العَبْدِ، وأنَّهُ يَوْمٌ لا يُوضَعُ فِيهِ أمْرٌ غَيْرَ مَوْضِعِهِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا ظُلْمَ اليَوْمَ﴾. ثُمَّ أخْبَرَهم عن نَفْسِهِ بِسُرْعَةِ الحِسابِ، وتِلْكَ عِبارَةٌ عن إحاطَتِهِ بِالأشْياءِ عِلْمًا، فَهو يُحاسَبُ الخَلائِقَ في ساعَةٍ واحِدَةٍ كَما يَرْزُقُهُمْ؛ لِأنَّهُ لا يَحْتاجُ إلى عَدٍّ وفِكْرٍ، لا رَبَّ غَيْرُهُ. ورُوِيَ أنَّ يَوْمَ القِيامَةِ لا يَنْتَصِفُ حَتّى يُقْبَلَ المُؤْمِنُونَ في الجَنَّةِ والكافِرُونَ في النارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب