الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أكْبَرُ مِن مَقْتِكم أنْفُسَكم إذْ تُدْعَوْنَ إلى الإيمانِ فَتَكْفُرُونَ﴾ ﴿قالُوا رَبَّنا أمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ فاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِن سَبِيلٍ﴾ ﴿ذَلِكم بِأنَّهُ إذا دُعِيَ اللهُ وحْدَهُ كَفَرْتُمْ وإنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فالحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ﴾ أخْبَرَ اللهُ تَعالى بِحالِ الكَفَرَةِ، وجَعَلَ ذَلِكَ عَقِبَ حالِ المُؤْمِنِينَ لِيَبِينَ الفَرْقُ، ورُوِيَ أنَّ هَذِهِ الحالَ تَكُونُ لِلْكُفّارِ عِنْدَ دُخُولِهِمُ النارَ؛ فَإنَّهم إذا أُدْخِلُوا فِيها مَقَتُوا أنْفُسَهُمْ، أيْ: مَقَتَ بَعْضُهم بَعْضًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَمْقُتَ كُلُّ واحِدٍ نَفْسَهُ، فَإنَّ العِبارَةَ تَحْتَمِلُ المَعْنَيَيْنِ، و"المَقْتُ" هو احْتِقارٌ وبُغْضٌ عن ذَنْبٍ ورِيبَةٍ، هَذا حَدُّهُ، وإذا مَقَتَ الكُفّارُ أنْفُسَهم نادَتْهم مَلائِكَةُ العَذابِ - عَلى جِهَةِ التَوْبِيخِ - فَيَقُولُونَ لَهُمْ: مَقَتُ اللهِ إيّاكم في الدُنْيا - إذْ كُنْتُمْ تَدْعَوْنَ إلى الإيمانِ فَتَكْفُرُونَ - أكْثَرُ مِن مَقْتِكم أنْفُسَكُمُ اليَوْمَ، هَذا هو مَعْنى الآيَةِ، وبِهِ فَسَّرَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ. وأضافَ تَعالى المَصْدَرَ إلى الفاعِلِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿لَمَقْتُ اللهِ﴾ والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِأنَّ القَوْلَ يَقْتَضِيهِ. واللامُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ [لَمَقْتُ]﴾ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لامَ الِابْتِداءِ أو لامَ القَسَمِ، وهو أصْوَبُ. و[أكْبَرُ] خَبَرُ الِابْتِداءِ. والعامِلُ في [إذْ] فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: "مَقَتَكم إذْ"، وقَدَّرَهُ قَوْمٌ: "اذْكُرُوا إذْ"، وذَلِكَ ضَعِيفٌ يَحُلُّ رَبْطَ الكَلامِ، اللهُمَّ إلّا أنْ يُقَدَّرَ أنَّ مَقْتَ اللهِ لَهم هو في الآخِرَةِ، وأنَّهُ أكْبَرُ مِن مَقْتِهِمْ أنْفُسَهُمْ، فَيَصِحُّ أنْ يُقَدَّرَ المُضْمَرُ: "اذْكُرُوا"، ولا يَجُوزُ أنْ يَعْمَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعالى: "لَمَقْتُ" لِأنَّ خَبَرَ الِابْتِداءِ قَدْ حالَ بَيْنَ "المَقْتِ" و"إذْ"، إذْ هي في صِلَتِهِ، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعْنى قَوْلِهِمْ: ﴿رَبَّنا أمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ﴾، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وقَتادَةُ، والضَحّاكُ، وأبُو مالِكٍ: أرادُوا بِمَوْتِهِمْ كَوْنَهم ماءً في (p-٤٢٦)الأصْلابِ، ثُمَّ أحْياءَهم في الدُنْيا، ثُمَّ إماتَتَهُمُ المَوْتَ المَعْرُوفَ، ثُمَّ إحْياءَهم يَوْمَ القِيامَةِ، قالُوا وهي كالَّتِي في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكم ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨]، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: أرادُوا أنَّهُ أحْياهم نَسَمًا عِنْدَ أخْذِ العَهْدِ عَلَيْهِمْ وقْتَ أخْذِهِمْ مِن صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ، ثُمَّ أماتَهم بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أحْياهم في الدُنْيا، ثُمَّ أماتَهم ثُمَّ أحْياهم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، لِأنَّ الإحْياءَ فِيهِ ثَلاثُ مَرّاتٍ. وقالَ السُدِّيُّ: أرادُوا أنَّهُ أحْياهم في الدُنْيا ثُمَّ أماتَهُمْ، تَمَّ أحْياهم في القُبُورِ وقْتَ سُؤالِ مُنْكَرٍ ونَكِيرٍ ثُمَّ أماتَهم فِيهِ، ثُمَّ أحْياهم في الحَشْرِ. وهَذا أيْضًا يَدْخُلُهُ الِاعْتِراضُ الَّذِي في القَوْلِ قَبْلَهُ، والأوَّلُ أثْبَتُ الأقْوالِ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: أرادُوا أنَّ الكافِرَ في الدُنْيا هو حَيُّ الجَسَدِ مَيِّتُ القَلْبِ، فَكَأنَّ حالَهم في الدُنْيا جَمَعَتْ إحْياءً وإماتَةً، ثُمَّ أماتَهم حَقِيقَةً، ثُمَّ أحْياهم بِالبَعْثِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والخِلافُ في هَذِهِ الآيَةِ مَقُولٌ كُلُّهُ في آيَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ، وهَذِهِ الآيَةُ يَظْهَرُ مِنها أنَّ مَعْناها مُنْقَطِعٌ مِن مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذْ تُدْعَوْنَ إلى الإيمانِ فَتَكْفُرُونَ﴾، ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ، بَلِ الآيَتانِ مُتَّصِلَتا المَعْنى، وذَلِكَ أنَّ كُفْرَهم في الدُنْيا كانَ أيْضًا بِإنْكارِهِمُ البَعْثَ، واعْتِقادِهِمْ أنَّهُ لا حَشْرَ ولا عَذابَ، ومَقْتَهم أنْفُسَهم إنَّما عَظَّمَهُ، لِأنَّ هَذا المُعْتَقَدَ كَذِبُهُمْ، فَلَمّا تَقَرَّرَ مَقَتَهم لِأنْفُسِهِمْ ورَأوا خِزْيًا طَوِيلًا عَرِيضًا، رَجَعُوا إلى المَعْنى الَّذِي كانَ كُفْرُهم بِهِ وهو البَعْثُ، وخَرَجَ الوُجُودُ مُقْتَرِنًا بِعَذابِهِمْ، فَأقَرُّوا بِهِ عَلى أتَمِّ وُجُوهِهِ، أيْ: كُنّا قَدْ كَفْرَنا بِإنْكارِنا البَعْثَ، ونَحْنُ اليَوْمُ نُقِرُّ أنَّكَ أحْيَيْتِنا اثْنَتَيْنِ وأمَتَّنا اثْنَتَيْنِ، كَأنَّهم قَصَدُوا تَعْظِيمَ قُدْرَتَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، واسْتِرْضاءَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ قالُوا عَقِبَ هَذا الإقْرارِ طَمَعًا مِنهُمْ، فَها نَحْنُ مُعْتَرِفُونَ بِذُنُوبِنا، فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِن سَبِيلٍ؟ وهَذا كَما تُكَلِّفُ إنْسانًا أنْ يُقِرَّ لَكَ بِحَقٍّ وهو يُنْكِرُ، فَإذا رَأى الغَلَبَةَ وصُرِعَ، أقَرَّ بِذَلِكَ (p-٤٢٧)الأمْرَ مُتَمَّمًا أوفى مِمّا كُنْتَ تَطْلُبُهُ بِهِ أوَّلًا، وفِيما بَعْدَ قَوْلِهِمْ: ﴿ "فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِن سَبِيلٍ"﴾ مَحْذُوفٌ مِنَ الكَلامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظاهِرُ، تَقْدِيرُهُ: لا إسْعافَ لِطَلَبَتِكُمْ، أو نَحْوَ هَذا مِنَ الرَدِّ والزَجْرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكم بِأنَّهُ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إشارَةً إلى مَقْتِهِمْ أنْفُسَهُمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إشارَةً إلى العَذابِ الَّذِي هم فِيهِ، أو إلى المَنعِ والزَجْرِ والإهانَةِ الَّتِي قُلْنا إنَّها مَقَدَّرَةٌ مَحْذُوفَةُ الذِكْرِ لِدَلالَةِ ظاهِرِ القَوْلِ عَلَيْها، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إشارَةً إلى مَقْتِ اللهِ تَعالى إيّاهُمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ المُخاطَبَةُ بِـ"ذَلِكُمْ" لِمُعاصِرِي مُحَمَّدٍ ﷺ فى الدُنْيا، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في الآخِرَةِ لِلْكُفّارِ عامَّةً. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا دُعِيَ اللهُ وحْدَهُ﴾ مَعْناهُ: بِحالَةِ تَوْحِيدٍ ونَفْيٍ لِما سِواهُ مِنَ الآلِهَةِ والأنْدادِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا﴾ أيْ: إذا ذُكِرَتِ اللاتُ والعُزّى وغَيْرُهُما صَدَّقْتُمْ واسْتَقَرَّتْ نُفُوسُكُمْ، فالحُكْمُ اليَوْمَ بِعَذابِكم وتَخْلِيدِكم في النارِ لِلَّهِ لا لِتِلْكَ الَّتِي كُنْتُمْ تُشْرِكُونَها مَعَهُ في الأُلُوهِيَّةِ، و"العَلِيِّ الكَبِيرِ" صِفَتا مَدْحٍ لا في المَكانِ ومُضادَّةِ السُفْلِ والصِغَرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب