الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأرْضِ قالُوا ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولَئِكَ مَأْواهم جَهَنَّمُ وساءَتْ مَصِيرًا﴾ ﴿إلا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِجالِ والنِساءِ والوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ولا يَهْتَدُونَ سَبِيلا﴾ ﴿فَأُولَئِكَ عَسى اللهُ أنْ يَعْفُوَ عنهم وكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ ﴿وَمَن يُهاجِرْ في سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ في الأرْضِ مُراغَمًا كَثِيرًا وسَعَةً ومَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهاجِرًا إلى اللهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وقَعَ أجْرُهُ عَلى اللهِ وكانَ اللهِ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ المُرادُ بِهَذِهِ الآيَةِ إلى قَوْلِهِ: "مَصِيرًا" جَماعَةٌ مِن أهْلِ مَكَّةَ، كانُوا قَدْ أسْلَمُوا، وأظْهَرُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ الإيمانَ بِهِ، فَلَمّا هاجَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أقامُوا مَعَ قَوْمِهِمْ، وفُتِنَ مِنهم جَماعَةٌ فافْتَتَنُوا، فَلَمّا كانَ أمْرُ بَدْرٍ خَرَجَ مِنهم قَوْمٌ مَعَ الكُفّارِ فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِمْ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: كانَ قَوْمٌ مِن أهْلِ مَكَّةَ قَدْ أسْلَمُوا، وكانُوا يَسْتَخْفُونَ بِإسْلامِهِمْ، فَأخْرَجَهُمُ المُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ، فَقالَ المُسْلِمُونَ: كانَ أصْحابُنا هَؤُلاءِ مُسْلِمِينَ وأُكْرِهُوا فاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ، فَنَزَلَتْ: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ﴾ الآيَةُ، قالَ: فَكُتِبَ إلى مَن بَقِيَ بِمَكَّةَ مِنَ المُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الآيَةِ ألّا عُذْرَ لَهُمْ، فَخَرَجُوا فَلَحِقَهُمُ المُشْرِكُونَ فَأعْطَوْهُمُ الفِتْنَةَ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةُ الأُخْرى: ﴿وَمِنَ الناسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللهِ فَإذا أُوذِيَ في اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ الناسِ كَعَذابِ اللهِ﴾ [العنكبوت: ١٠] الآيَةُ، فَكَتَبَ إلَيْهِمُ المُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، فَخَرَجُوا ويَئِسُوا مِن كُلِّ خَيْرٍ، ثُمَّ نَزَلَتْ فِيهِمْ: ﴿ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِن بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٠]، فَكَتَبُوا إلَيْهِمْ بِذَلِكَ أنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ لَكم مَخْرَجًا، فَخَرَجُوا فَلَحِقَهُمُ المُشْرِكُونَ فَقاتَلُوهم حَتّى (p-٦٤١)نَجا مَن نَجا وقُتِلَ مَن قُتِلَ. وقالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في خَمْسَةٍ قُتِلُوا بِبَدْرٍ، وهُمْ: قَيْسُ بْنُ الفاكِهِ بْنِ المُغِيرَةِ، والحارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الأسْوَدِ، وقَيْسُ بْنُ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، وأبُو العاصِي بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الحَجّاجِ، وعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ. قالَ النَقّاشُ: في أُناسٍ سِواهم أسْلَمُوا ثُمَّ خَرَجُوا إلى بَدْرٍ، فَلَمّا رَأوا قِلَّةَ المُسْلِمِينَ قالُوا: غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وكانَ العَبّاسُ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ الكُفّارِ لَكِنَّهُ نَجا وأُسِرَ، وكانَ مِنَ المُطْعِمِينَ في نَفِيرِ بَدْرٍ، قالَ السُدِّيُّ: «لَمّا أُسِرَ العَبّاسُ، وعَقِيلٌ، ونُفَيْلٌ، قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِلْعَبّاسِ: "افْدِ نَفْسَكَ وابْنَ أخِيكَ"، فَقالَ لَهُ العَبّاسُ: يا رَسُولَ اللهِ، ألَمْ نُصَلِّ قِبْلَتَكَ ونَشْهَدْ شَهادَتَكَ؟ قالَ "يا عَبّاسُ، إنَّكم خاصَمْتُمْ فَخُصِمْتُمْ، ثُمَّ تَلا عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها﴾،» قالَ السُدِّيُّ: فَيَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كانَ مَن أسْلَمَ ولَمْ يُهاجِرْ فَهو كافِرٌ حَتّى يُهاجِرَ، إلّا مَن لا يَسْتَطِيعُ حِيلَةً ولا يَهْتَدِي سَبِيلًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا الَّذِي قالَهُ السُدِّيُّ نَظَرٌ، والَّذِي يَجْرِي مَعَ الأُصُولِ أنَّ مَن ماتَ مِن أُولَئِكَ بَعْدَ أنْ قَبِلَ الفِتْنَةَ وارْتَدَّ فَهو كافِرٌ، ومَأْواهُ جَهَنَّمُ عَلى جِهَةِ الخُلُودِ، وهَذا هو ظاهِرُ أمْرِ تِلْكَ الجَماعَةِ، وإنْ فَرَضْنا فِيهِمْ مَن ماتَ مُؤْمِنًا وأُكْرِهَ عَلى الخُرُوجِ، أو ماتَ بِمَكَّةَ فَإنَّما هو عاصٍ في تَرْكِ الهِجْرَةِ، مَأْواهُ جَهَنَّمُ عَلى جِهَةِ العِصْيانِ دُونَ خُلُودٍ، لَكِنْ لَمّا لَمْ يَتَعَيَّنْ أحَدٌ أنَّهُ ماتَ عَلى الإيمانِ لَمْ يَسُغْ ذِكْرُهم في الصَحابَةِ، ولَمْ يُعْتَدَّ بِما كانَ عُرِفَ مِنهم قَبْلُ، ولا حُجَّةَ لِلْمُعْتَزِلَةِ في شَيْءٍ مِن أمْرِ هَؤُلاءِ عَلى تَكْفِيرِهِمْ بِالمَعاصِي، وأمّا العَبّاسُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللهُ أنَّهُ أسْلَمَ قَبْلَ بَدْرٍ، ولِذَلِكَ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ في يَوْمِ بَدْرٍ: « "مَن لَقِيَ العَبّاسَ فَلا يَقْتُلْهُ فَإنَّما أُخْرِجَ كُرْهًا".» (p-٦٤٢)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وذُكِرَ أنَّهُ إنَّما أسْلَمَ مَأْسُورًا حِينَ ذَكَرَ لَهُ النَبِيُّ ﷺ أمْرَ المالِ الَّذِي تَرَكَ عِنْدَ أُمِّ الفَضْلِ، وذُكِرَ أنَّهُ أسْلَمَ في عامِ خَيْبَرَ، وكانَ يَكْتُبُ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِأخْبارِ المُشْرِكِينَ، وكانَ يُحِبُّ أنْ يُهاجِرَ، «فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ "أنِ امْكُثْ بِمَكَّةَ فَمُقامُكَ بِها أنْفَعُ لَنا".» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: لَكِنْ عامَلَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَ أُسِرَ عَلى ظاهِرِ أمْرِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "تَوَفّاهُمُ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ فِعْلًا ماضِيًا لَمْ يَسْتَنِدْ بِعَلامَةِ تَأْنِيثٍ، إذْ تَأْنِيثُ لَفْظِ المَلائِكَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا عَلى مَعْنى: تَتَوَفّاهُمْ، فَحُذِفَتْ إحْدى التاءَيْنِ، ويَكُونَ في العِبارَةِ إشارَةٌ إلى ما يَأْتِي مِن هَذا المَعْنى في المُسْتَقْبَلِ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ، وقَرَأ إبْراهِيمُ: "تُوَفّاهُمْ" بِضَمِّ التاءِ، قالَ أبُو الفَتْحِ: كَأنَّهم يُدْفَعُونَ إلى المَلائِكَةِ ويُحْتَسَبُونَ عَلَيْهِمْ، و"تَوَفّاهُمْ" بِفَتْحِ التاءِ مَعْناهُ: تَقْبِضُ أرْواحَهُمْ، وحَكى ابْنُ فُورَكٍ عَنِ الحَسَنِ أنَّ المَعْنى: تَحْشُرُهم إلى النارِ. و"ظالِمِي أنْفُسِهِمْ" نُصِبَ عَلى الحالِ، أيْ: ظالِمِيها بِتَرْكِ الهِجْرَةِ، قالَ الزَجّاجُ: حُذِفَتِ النُونُ مِن "ظالِمِينَ" تَخْفِيفًا، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "بالِغَ الكَعْبَةِ"،﴾ [المائدة: ٩٥] وقَوْلُ المَلائِكَةِ "فِيمَ كُنْتُمْ" تَقْرِيرٌ وتَوْبِيخٌ، وقَوْلُ هَؤُلاءِ: "كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأرْضِ" اعْتِذارٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، إذْ كانُوا يَسْتَطِيعُونَ الحِيَلَ ويَهْتَدُونَ السَبِيلَ، ثُمَّ وقَفَتْهُمُ المَلائِكَةُ عَلى ذَنْبِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: ﴿ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللهِ واسِعَةً﴾، والأرْضُ في قَوْلِ هَؤُلاءِ: هي أرْضُ مَكَّةَ خاصَّةً، وأرْضُ اللهِ: هي الأرْضُ بِالإطْلاقِ، والمُرادُ: "فَتُهاجِرُوا فِيها إلى مَوْضِعِ الأمْنِ"؟ وهَذِهِ المَقالَةُ إنَّما هي بَعْدَ تَوَفِّي المَلائِكَةِ لِأرْواحِ هَؤُلاءِ، وهي دالَّةٌ عَلى أنَّهم ماتُوا مُسْلِمِينَ، وإلّا فَلَوْ ماتُوا كافِرِينَ لَمْ يُقَلْ لَهم شَيْءٌ مِن هَذا، وإنَّما أُضْرِبَ عن ذِكْرِهِمْ في الصَحابَةِ لِشِدَّةِ ما واقَعُوهُ، ولِعَدَمِ تَعَيُّنِ أحَدٍ مِنهم بِالإيمانِ، ولِاحْتِمالِ (p-٦٤٣)رِدَّتِهِ. وتَوَعَّدَهُمُ اللهُ تَعالى بِأنَّ مَأْواهم جَهَنَّمُ، ثُمَّ اسْتَثْنى مِنهم مَن كانَ اسْتِضْعافُهُ عَلى حَقِيقَةٍ: مِن زَمَنَةِ الرِجالِ وضَعَفَةِ النِساءِ والوِلْدانِ، كَعَيّاشِ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ، والوَلِيدِ بْنِ هِشامٍ وغَيْرِهِما، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "كُنْتُ أنا وأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ، هي مِنَ النِساءِ، وأنا مِنَ الوِلْدانِ"، والحِيلَةُ: لَفْظٌ عامٌّ لِأسْبابِ أنْواعِ التَخَلُّصِ والسَبِيلُ: سَبِيلُ المَدِينَةِ فِيما ذَكَرَ مُجاهِدٌ، والسُدِّيُّ، وغَيْرُهُما، والصَوابُ أنَّهُ عامٌّ في جَمِيعِ السُبُلِ. ثُمَّ رَجّى اللهُ تَعالى هَؤُلاءِ بِالعَفْوِ عنهم و"عَسى" مِنَ اللهِ واجِبَةٌ، كَما أنَّها دالَّةٌ عَلى ثِقَلِ الأمْرِ المَعْفُوِّ عنهُ. قالَ الحَسَنُ: "عَسى" مِنَ اللهِ واجِبَةٌ، قالَ غَيْرُهُ: هي بِمَنزِلَةِ الوَعْدِ، إذْ لَيْسَ يُخْبِرُ بِـ "عَسى" عن شَكٍّ ولا تَوَقُّعٍ، وهَذا يَرْجِعُ إلى الوُجُوبِ، قالَ آخَرُونَ: هو عَلى مُعْتَقَدِ البَشَرِ، أيْ: ظَنُّكم بِمَن هَذِهِ حالُهُ تَرَجِّي عَفْوِ اللهِ تَعالى عنهُ. والمُراغَمُ: المُتَحَوَّلُ والمَذْهَبُ، كَذا قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والضَحّاكُ، والرَبِيعُ، وغَيْرُهُمْ، ومِنهُ قَوْلُ النابِغَةِ الجَعْدِيِّ: ؎ كَطَوْدٍ يُلاذُ بِأرْكانِهِ عَزِيزِ المُراغَمِ والمَذْهَبِ وقَوْلُ الآخَرِ: ؎ إلى بَلَدٍ غَيْرِ دانِي المَحَلِّ ∗∗∗ بَعِيدِ المُراغَمِ والمُضْطَرَبْ وقالَ مُجاهِدٌ: المُراغَمُ: المُتَزَحْزَحُ عَمّا يُكْرَهُ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: المُراغَمُ: المُهاجَرُ، وقالَ السُدِّيُّ: المُراغَمُ: المُبْتَغِي المَعِيشَةَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا كُلُّهُ تَفْسِيرٌ بِالمَعْنى، فَأمّا الخاصُّ بِاللَفْظَةِ فَإنَّ المُراغَمَ: مَوْضِعُ بِالمُراغَمَةِ، (p-٦٤٤)وَهُوَ أنْ يُرْغِمَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ المُتَنازِعَيْنِ أنْفَ صاحِبِهِ بِأنْ يَغْلِبَهُ عَلى مُرادِهِ، فَكُفّارُ قُرَيْشٍ أرْغَمُوا أُنُوفَ المَحْبُوسِينَ بِمَكَّةَ، فَلَوْ هاجَرَ مِنهم مُهاجِرٌ في أرْضِ اللهِ لَأرْغَمَ أُنُوفَ قُرَيْشٍ بِحُصُولِهِ في مَنَعَةٍ مِنهُمْ، فَتِلْكَ المَنَعَةُ هي مَوْضِعُ المُراغَمَةِ، وكَذَلِكَ الطَوْدُ الَّذِي ذَكَرَهُ النابِغَةُ، مَن صَعِدَ فِيهِ أمامَ طالِبٍ لَهُ وتَوَقَّلَ فَقَدْ أرْغَمَ أنْفَ ذَلِكَ الطالِبِ، وقَرَأ نُبَيْحٌ والجَرّاحُ، والحَسَنُ بْنُ عِمْرانَ: "مَرْغَمًا" بِفَتْحِ المِيمِ وسُكُونِ الراءِ دُونَ ألِفٍ. قالَ أبُو الفَتْحِ: هَذا إنَّما هو عَلى حَذْفِ الزَوائِدِ مِن "راغَمَ"، والجَماعَةُ عَلى "مُراغَمٍ". وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والرَبِيعُ، والضَحّاكُ، وغَيْرُهُمُ: السَعَةُ هُنا: هي السَعَةُ في الرِزْقِ، وقالَ قَتادَةُ: المَعْنى سَعَةٌ مِنَ الضَلالَةِ إلى الهُدى، ومِنَ العَيْلَةِ إلى الغِنى. وقالَ مالِكٌ: السَعَةُ سَعَةُ البِلادِ. قالَ القاضِي رَحِمَهُ اللهُ: والمُشْبِهُ لِفَصاحَةِ العَرَبِ أنْ يُرِيدَ سَعَةَ الأرْضِ، وكَثْرَةَ المَعاقِلِ، وبِذَلِكَ تَكُونُ السَعَةُ في الرِزْقِ، واتِّساعُ الصَدْرِ لِهُمُومِهِ وفِكْرِهِ وغَيْرُ ذَلِكَ مِن وُجُوهِ الفَرَحِ، ونَحْوُ هَذا المَعْنى قَوْلُ الشاعِرِ:. ؎ لَكانَ لِي مُضْطَرَبٌ واسِعٌ ∗∗∗ في الأرْضِ ذاتِ الطُولِ والعَرْضِ ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ وكُنْتُ إذا خَلِيلٌ رامَ قَطْعِي ∗∗∗ وجَدْتُ ورايَ مُنْفَسَحًا عَرِيضا وهَذا المَعْنى ظاهِرٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللهِ واسِعَةً﴾، وقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: الآيَةُ تُعْطِي أنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يَنْبَغِي أنْ يَخْرُجَ مِنَ البِلادِ الَّتِي تُغَيَّرُ فِيها السُنَنُ، ويُعْمَلُ فِيها بِغَيْرِ الحَقِّ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ﴾ الآيَةُ، حُكْمٌ باقٍ في الجِهادِ والمَشْيِ إلى الصَلاةِ والحَجِّ ونَحْوِهِ، أما إنَّهُ لا يُقالُ: إنَّ بِنَفْسِ خُرُوجِهِ ونِيَّتِهِ حَصَلَ في مَرْتَبَةِ الَّذِي قَضى (p-٦٤٥)ذَلِكَ الفَرْضَ أوِ العِبادَةَ في الجُمْلَةِ، ولَكِنْ يُقالُ: وقَعَ لَهُ بِذَلِكَ أجْرٌ عَظِيمٌ، ورُوِيَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ رَجُلٍ مِن كِنانَةَ، وقِيلَ: مِن خُزاعَةَ مِن بَنِي لَيْثٍ، وقِيلَ: في جُنْدَعٍ لَمّا سَمِعَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ولا يَهْتَدُونَ سَبِيلا﴾ قالَ: إنِّي لَذُو مالٍ وعَبِيدٍ -وَكانَ مَرِيضًا- فَقالَ: أخْرِجُونِي إلى المَدِينَةِ، فَأُخْرِجَ في سَرِيرٍ فَأدْرَكَهُ المَوْتُ بِالتَنْعِيمِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِهِ، واخْتُلِفَ في اسْمِهِ، فَحَكى الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أنَّهُ ضَمْرَةُ بْنُ العِيصِ، أوِ العِيصُ بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ زِنْباعٍ، وحُكِيَ عَنِ السُدِّيِّ أنَّهُ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، وحُكِيَ عن عِكْرِمَةَ أنَّهُ جُنْدُبُ بْنُ ضَمْرَةَ الجُنْدَعِيُّ، وحُكِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أيْضًا أنَّهُ ضَمْرَةُ بْنُ بَغِيضٍ الَّذِي مِن بَنِي لَيْثٍ، وحَكى أبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: أنَّهُ ضَمْرَةُ بْنُ العِيصِ، وحَكى المَهْدَوِيُّ أنَّهُ ضَمْرَةُ بْنُ نُعَيْمٍ، وقِيلَ: ضَمْرَةُ بْنُ خُزاعَةَ. وقَرَأتِ الجَماعَةُ "ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ" بِالجَزْمِ عَطْفًا عَلى "يَخْرُجْ"، وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمانَ، وإبْراهِيمُ النَخْعِيُّ فِيما ذَكَرَهُ أبُو عَمْرٍو "يُدْرِكُهُ" بِرَفْعِ الكافِ، قالَ أبُو الفَتْحِ: هَذا رَفْعٌ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: ثُمَّ هو يُدْرِكُهُ المَوْتُ، فَعَطَفَ الجُمْلَةَ مِنَ المُبْتَدَإ والخَبَرِ عَلى الفِعْلِ المَجْزُومِ بِفاعِلِهِ، فَهُما إذَنْ جُمْلَةٌ، فَكَأنَّهُ عَطَفَ جُمْلَةً عَلى جُمْلَةٍ، وعَلى هَذا حَمَلَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَوْلَ الأعْشى: ؎ إنْ تَرْكَبُوا فَرُكُوبُ الخَيْلِ عادَتُنا ∗∗∗ أو تَنْزِلُونَ فَإنّا مَعْشَرٌ نُزُلُ المُرادُ: وأنْتُمْ تَنْزِلُونَ. وعَلَيْهِ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ يَأْتِينِي بَقِيَّتُكم ∗∗∗ فَما عَلَيَّ بِذَنْبٍ عِنْدَكم فَوْتُ المَعْنى: ثُمَّ أنْتُمْ تَأْتِينِي، وهَذا أوجَهُ مِن أنْ يَحْمِلَهُ عَلى قَوْلِ الآخَرِ:(p-٦٤٦) ؎ ألَمْ يَأْتِيكَ والأنْباءُ تَنْمِي... ∗∗∗........................ وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وقَتادَةُ، ونُبَيْحٌ، والجَرّاحُ: "ثُمَّ يُدْرِكَهُ" بِنَصْبِ الكافِ وذَلِكَ عَلى إضْمارِ "أنْ" كَقَوْلِ الأعْشى: ؎ لَنا هَضْبَةٌ لا يَنْزِلُ الذُلُّ وسْطَها ∗∗∗ ويَأْوِي إلَيْها المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَما أرادَ: فَأنْ يُعْصَمَ، قالَ أبُو الفَتْحِ: وهَذا لَيْسَ بِالسَهْلِ، وإنَّما بابُهُ الشِعْرُ لا القُرْآنُ، وأنْشَدَ ابْنُ زَيْدٍ: ؎ سَأتْرُكُ مَنزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ ∗∗∗ وألْحَقُ بِالحِجازِ فَأسْتَرِيحا والآيَةُ أقْوى مِن هَذا لِتَقَدُّمِ الشَرْطِ قَبْلَ المَعْطُوفِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ومِن هَذِهِ الآيَةِ رَأى بَعْضُ العُلَماءِ أنَّ مَن ماتَ مِنَ المُسْلِمِينَ وقَدْ خَرَجَ غازِيًا فَلَهُ سَهْمُهُ مِنَ الغَنِيمَةِ، قاسُوا ذَلِكَ عَلى الأجْرِ، وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى الهِجْرَةِ فِيما سَلَفَ، و"وَقَعَ" عِبارَةٌ عَنِ الثُبُوتِ وقُوَّةِ اللُزُومِ، وكَذَلِكَ هي "وَجَبَ"، لِأنَّ الوُقُوعَ والوُجُوبَ نُزُولٌ في الأجْرامِ بِقُوَّةٍ، فَشُبِّهَ لازِمُ المَعانِي بِذَلِكَ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ..
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب