الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَرَرِ والمُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهِ المُجاهِدِينَ بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ عَلى القاعِدِينَ دَرَجَةً وكُلا وعَدَ اللهِ الحُسْنى وفَضَّلَ اللهِ المُجاهِدِينَ عَلى القاعِدِينَ أجْرًا عَظِيمًا﴾ ﴿دَرَجاتٍ مِنهُ ومَغْفِرَةً ورَحْمَةً وكانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فِي قَوْلِهِ: "لا يَسْتَوِي" إبْهامٌ عَلى السامِعِ هو أبْلَغُ مِن تَحْدِيدِ المَنزِلَةِ الَّتِي بَيْنَ المُجاهِدِ والقاعِدِ، فالمُتَأمِّلُ يَمْشِي مَعَ فِكْرَتِهِ، ولا يَزالُ يَتَخَيَّلُ الدَرَجاتِ بَيْنَهُما. و"القاعِدُونَ" عِبارَةٌ عَنِ المُتَخَلِّفِينَ، إذِ القُعُودُ هَيْئَةُ مَن لا يَتَحَرَّكُ إلى الأمْرِ المَقْعُودِ عنهُ في الأغْلَبِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ: "غَيْرُ أُولِي الضَرَرِ" بِرَفْعِ الراءِ مِن "غَيْرُ"، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ "غَيْرَ" بِالنَصْبِ، واخْتَلَفَ عن عاصِمٍ، فَرُوِيَ عنهُ الرَفْعُ والنَصْبُ، وقَرَأ الأعْمَشُ، وأبُو حَيْوَةَ: "غَيْرِ" بِكَسْرِ الراءِ، فَمَن رَفَعَ جَعَلَ "غَيْرُ" صِفَةً لِلْقاعِدِينَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، كَما هي عِنْدَهُ صِفَةٌ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "غَيْرِ المَغْضُوبِ"﴾ [الفاتحة: ٧] بِجَرِّ "غَيْرِ" صِفَةٍ، ومِثْلُهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: ؎ وإذا جُوزِيتَ قَرْضًا فاجْزِهِ إنَّما يَجْزِي الفَتى غَيْرُ الجَمَلْ (p-٦٣٨)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: كَذا ذَكَرَهُ أبُو عَلِيٍّ، ويُرْوى: "لَيْسَ الجَمَلْ". ومَن قَرَأ بِنَصْبِ الراءِ جَعَلَهُ اسْتِثْناءً مِنَ "القاعِدِينَ"، قالَ أبُو الحَسَنِ: ويُقَوِّي ذَلِكَ أنَّها نَزَلَتْ بَعْدَها عَلى طَرِيقِ الِاسْتِثْناءِ والِاسْتِدْراكِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدْ يَتَحَصَّلُ الِاسْتِدْراكُ بِتَخْصِيصِ القاعِدِينَ بِالصِفَةِ، قالَ الزَجّاجُ: يَجُوزُ أيْضًا في قِراءَةِ الرَفْعِ أنْ يَكُونَ عَلى جِهَةِ الِاسْتِثْناءِ، كَأنَّهُ قالَ: لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ والمُجاهِدُونَ إلّا أُولُو الضَرَرِ فَإنَّهم يُساوُونَ المُجاهِدِينَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا مَرْدُودٌ، لِأنَّ أُولِي الضَرَرِ لا يُساوُونَ المُجاهِدِينَ، وغايَتُهم أنْ خَرَجُوا مِنَ التَوْبِيخِ والمَذَمَّةِ الَّتِي لَزِمَتِ القاعِدِينَ مِن غَيْرِ عُذْرٍ، قالَ: ويَجُوزُ في قِراءَةِ نَصْبِ الراءِ أنْ يَكُونَ عَلى الحالِ، وأمّا كَسْرُ الراءِ فَعَلى الصِفَةِ مِنَ "المُؤْمِنِينَ". ورُوِيَ مِن غَيْرِ طَرِيقٍ «أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ: ﴿لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَرَرِ والمُجاهِدُونَ﴾، فَجاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ حِينَ سَمِعَها فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ هَلْ مِن رُخْصَةٍ فَإنِّي ضَرِيرُ البَصَرِ؟ فَنَزَلَتْ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَرَرِ﴾، قالَ الفِلَّقانُ بْنُ عاصِمٍ: كُنّا قُعُودًا عِنْدَ النَبِيِّ ﷺ فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ، وكانَ إذا أُوحِيَ إلَيْهِ دامَ بَصَرُهُ مَفْتُوحَةً عَيْناهُ، وفَرَغَ سَمْعُهُ وبَصَرُهُ لِما يَأْتِيهِ مِنَ اللهِ، وكُنّا نَعْرِفُ ذَلِكَ في وجْهِهِ، فَلَمّا فَرَغَ قالَ لِلْكاتِبِ: اكْتُبْ: ﴿لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَرَرِ والمُجاهِدُونَ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، قالَ: فَقامَ الأعْمى فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، ما ذَنْبُنا؟ قالَ: فَأنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ، فَقُلْنا لِلْأعْمى: إنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، قالَ: فَخافَ أنْ يَنْزِلَ فِيهِ شَيْءٌ فَبَقِيَ قائِمًا مَكانَهُ يَقُولُ: "أتُوبُ إلى رَسُولِ اللهِ" حَتّى فَرَغَ رَسُولُ اللهِ، فَقالَ لِلْكاتِبِ: اكْتُبْ ﴿غَيْرُ أُولِي الضَرَرِ﴾ ؛» وأُولُو الضَرَرِ هم أهْلُ الأعْذارِ إذْ قَدْ أضَرَّتْ بِهِمْ حَتّى مَنَعَتْهُمُ الجِهادَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ﴾ هي الغايَةُ في كَمالِ الجِهادِ، ولَمّا كانَ أهْلُ (p-٦٣٩)الدِيوانِ مُتَمَلِّكِينَ بِذَلِكَ العَطاءِ، يَصْرِفُونَ في الشَدائِدِ، وتَرُوعُهُمُ البُعُوثُ والأوامِرُ، قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: هم أعْظَمُ أجْرًا مِنَ المُتَطَوِّعِ، لِسُكُونِ جَأْشِهِ، ونِعْمَةِ بالِهِ في الصَوائِفِ الكِبارِ ونَحْوِها. واحْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ المُظْهِرَةِ لِفَضْلِ المالِ مَن قالَ: إنَّ الغِنى أفْضَلُ مِنَ الفَقْرِ، وإنَّ مُتَعَلِّقَهُ بِها لَبَيِّنٌ. وفَسَّرَ الناسُ الآيَةَ عَلى أنَّ تَكْمِلَةَ التَفْضِيلِ فِيها بِالدَرَجَةِ، ثُمَّ بِالدَرَجاتِ إنَّما هو مُبالَغَةٌ وتَأْكِيدٌ وبَيانٌ، وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الفَضْلُ بِدَرَجَةٍ هو عَلى القاعِدِينَ مِن أهْلِ العُذْرِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: لِأنَّهم مَعَ المُؤْمِنِينَ بِنِيّاتِهِمْ، كَما قالَ النَبِيُّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ في غَزْوَةِ تَبُوكٍ: « "إنَّ بِالمَدِينَةِ رِجالًا ما قَطَعْنا وادِيًا ولا سَلَكْنا جَبَلًا ولا طَرِيقًا إلّا وهم مَعَنا، حَبَسَهُمُ العُذْرُ"،» قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:. والتَفْضِيلُ بِالأجْرِ العَظِيمِ والدَرَجاتِ هو عَلى القاعِدِينَ مِن غَيْرِ أهْلِ العُذْرِ. و"الحُسْنى": الجَنَّةُ: وهي الَّتِي وُعِدَها المُؤْمِنُونَ، وكَذَلِكَ قالَ السُدِّيُّ وغَيْرُهُ. وقالَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ: الدَرَجاتُ هي دَرَجاتٌ في الجَنَّةِ، ما بَيْنَ الدَرَجَتَيْنِ حُضْرُ الفَرَسِ الجَوادِ المُضَمَّرِ سَبْعِينَ سَنَةً، وقالَ بِهَذا القَوْلِ الطَبَرِيُّ ورَجَّحَهُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الدَرَجاتُ في الآيَةِ هي السَبْعُ المَذْكُوراتُ في سُورَةِ [بَراءَةٍ]، فَهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم لا يُصِيبُهم ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ في سَبِيلِ اللهِ﴾ [التوبة: ١٢٠] الآياتُ، فَذَكَرَ فِيها المَوْطِئَ الغائِظَ لِلْكُفّارِ، والنَيْلَ مِنَ العَدُوِّ، والنَفَقَةَ الصَغِيرَةَ والكَبِيرَةَ، وقَطْعَ الأودِيَةِ والمَسافاتِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ودَرَجاتُ الجِهادِ لَوْ حُصِرَتْ أكْثَرُ مِن هَذِهِ، لَكِنْ يَجْمَعُها بَذْلُ النَفْسِ والمالِ، (p-٦٤٠)والِاعْتِمالُ بِالبَدَنِ والمالِ في أنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيا، ولا شَكَّ أنَّ بِحَسَبِ مَراتِبِ الأعْمالِ ودَرَجاتِها تَكُونُ مَراتِبُ الجَنَّةِ ودَرَجاتُها، فالأقْوالُ كُلُّها مُتَقارِبَةٌ، وباقِي الآيَةِ وعْدٌ كَرِيمٌ وتَأْنِيسٌ. ونَصْبُ "دَرَجاتٍ" إمّا عَلى البَدَلِ مِنَ الأجْرِ، وإمّا عَلى إضْمارِ فِعْلٍ عَلى أنْ تَكُونَ تَأْكِيدًا لِلْأجْرِ، كَما تَقُولُ: "لَكَ عَلَيَّ ألْفُ دِرْهَمٍ عُرْفًا"، كَأنَّكَ قُلْتَ: أعْرِفُها عُرْفًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب