الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا﴾ المُتَعَمِّدُ في لُغَةِ العَرَبِ: القاصِدُ إلى الشَيْءِ، واخْتَلَفَ العُلَماءُ في صِفَةِ المُتَعَمِّدِ في القَتْلِ، فَقالَ عَطاءٌ وإبْراهِيمُ النَخْعِيُّ، وغَيْرُهُما: هو مَن قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ كالسَيْفِ أوِ الخِنْجَرِ وسِنانِ الرُمْحِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ المَشْحُوذِ المُعَدِّ لِلْقَطْعِ، أو بِما يَعْلَمُ أنَّ فِيهِ المَوْتَ مِن ثَقِيلِ الحِجارَةِ ونَحْوِهِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: المُتَعَمِّدُ: كُلُّ مَن قَتَلَ، بِحَدِيدَةٍ كانَ القَتْلُ أو بِحَجَرٍ أو بِعَصا أو بِغَيْرِ ذَلِكَ، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ، وهو الأصَحُّ. ورَأْيُ الشافِعِيِّ وغَيْرِهِ أنَّ القَتْلَ بِغَيْرِ الحَدِيدِ المَشْحُوذِ هو شِبْهُ العَمْدِ، ورَأوا فِيهِ تَغْلِيظَ الدِيَةِ، ومالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ لا يَرى شِبْهَ العَمْدِ، ولا يَقُولُ بِهِ في شَيْءٍ، وإنَّما القَتْلُ عِنْدَهُ ما ذَكَرَهُ اللهُ تَعالى عَمْدًا وخَطَأً لا غَيْرُ، والقَتْلُ بِالسُمِّ عِنْدَهُ عَمْدٌ وإنْ قالَ: ما أرَدْتُ إلّا سُكْرَهُ. وقَوْلُهُ: "فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ" تَقْدِيرُهُ عِنْدَ أهْلِ السُنَّةِ: فَجَزاؤُهُ إنْ جازاهُ بِذَلِكَ، أيْ: هو أهْلُ ذَلِكَ ومُسْتَحِقُّهُ لِعِظَمِ ذَنْبِهِ، ونَصَّ عَلى هَذا أبُو مِجْلَزٍ، وأبُو صالِحٍ، وغَيْرُهُما، وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى القَوْلِ بِالمَشِيئَةِ في جَمِيعِ العُصاةِ، قاتِلٍ وغَيْرِهِ، وذَهَبَتِ المُعْتَزِلَةُ إلى عُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ، وأنَّها مُخَصَّصَةٌ بِعُمُومِها لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨]. وتَوَرَّكُوا في ذَلِكَ عَلى ما رُوِيَ عن زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ أنَّهُ قالَ: نَزَلَتِ الشَدِيدَةُ بَعْدَ الهَيِّنَةِ، يُرِيدُ نَزَلَتْ ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ بَعْدَ ﴿وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨]، فَهم يَرَوْنَ أنَّ هَذا الوَعِيدَ نافِذٌ حَتْمًا عَلى كُلِّ قاتِلٍ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا، ويَرَوْنَهُ عُمُومًا ماضِيًا لِوَجْهِهِ، مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ (p-٦٣٢)لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨] كَأنَّهُ قالَ: إلّا مَن قَتَلَ عَمْدًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وأهْلُ الحَقِّ يَقُولُونَ لَهُمْ: هَذا العُمُومُ مُنْكَرٌ غَيْرُ ماضٍ لِوَجْهِهِ مِن جِهَتَيْنِ: إحْداهُما ما أنْتُمْ مَعَنا مُجْمِعُونَ عَلَيْهِ مِنَ الرَجُلِ الَّذِي يُشْهَدُ عَلَيْهِ، أو يُقِرُّ بِالقَتْلِ عَمْدًا ويَأْتِي السُلْطانُ أوِ الأولِياءُ فَيُقامُ عَلَيْهِ الحَدُّ، ويُقْتَلُ قَوَدًا، فَهَذا غَيْرُ مُتَّبَعٍ في الآخِرَةِ، والوَعِيدُ غَيْرُ نافِذٍ عَلَيْهِ إجْماعًا مُتَرَكِّبًا عَلى الحَدِيثِ الصَحِيحِ مِن طَرِيقِ عُبادَةَ بْنِ الصامِتِ: « "أنَّهُ مَن عُوقِبَ في الدُنْيا فَهو كَفّارَةٌ لَهُ".» وهَذا نَقْضٌ لِلْعُمُومِ، والجِهَةُ الأُخْرى أنَّ لَفْظَ هَذِهِ الآيَةِ لَيْسَ بِلَفْظِ عُمُومٍ، بَلْ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ كَثِيرًا لِلْخُصُوصِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ [المائدة: ٤٤]، ولَيْسَ حُكّامُ المُؤْمِنِينَ إذا حَكَمُوا بِغَيْرِ الحَقِّ في أمْرٍ بِكَفَرَةٍ بِوَجْهٍ، وكَقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ ومَن لا يَذُدْ عن حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ يُهَدَّمْ، ومَن لا يَظْلِمِ الناسَ يُظْلَمِ (p-٦٣٣)وَهَذا إنَّما مَعْناهُ الخُصُوصُ، لِأنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَن لا يَظْلِمُ يُظْلَمُ، فَهَذِهِ جِهَةٌ أُخْرى تَدُلُّ عَلى أنَّ العُمُومَ غَيْرُ مُتَرَتِّبٍ، وما احْتَجُّوا بِهِ مِن قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ فَلَيْسَ كَما ذَكَرُوهُ، وإنَّما أرادَ زَيْدٌ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ [الفُرْقانِ]، ومُرادُهُ بِاللَيِّنَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا يَقْتُلُونَ النَفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلا بِالحَقِّ﴾ [الفرقان: ٦٨] الآيَةُ، وإنْ كانَ المَهْدَوِيُّ قَدْ حَكى عنهُ أنَّهُ قالَ: أُنْزِلَتِ الآيَةُ: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨] بِأرْبَعَةِ أشْهُرٍ، فَإذا دَخَلَهُ التَخْصِيصُ فالوَجْهُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ في الكافِرِ يَقْتُلُ المُؤْمِنَ، أمّا عَلى ما رُوِيَ«أنَّها نَزَلَتْ في شَأْنِ مِقْيَسِ بْنِ صُبابَةَ حِينَ قَتَلَ أخاهُ هِشامَ بْنَ صُبابَةَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ فَأخَذَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ الدِيَةَ، ثُمَّ بَعَثَهُ مَعَ رَجُلٍ مِن فِهْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ في أمْرٍ ما، فَعَدا عَلَيْهِ مِقْيَسٌ فَقَتَلَهُ، ورَجَعَ إلى مَكَّةَ مُرْتَدًّا، وجَعَلَ يُنْشِدُ: ؎ قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا وحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ∗∗∗ سَراةَ بَنِي النَجّارِ أرْبابَ فارِعِ ؎ حَلَلْتُ بِهِ وتْرِي وأدْرَكْتُ ثَوْرَتِي ∗∗∗ وكُنْتُ إلى الأوثانِ أوَّلَ راجِعِ فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "لا أُؤَمِّنُهُ في حِلٍّ ولا في حَرَمٍ"، وأمَرَ بِقَتْلِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وهو مُتَعَلِّقٌ بِالكَعْبَةِ،» وإمّا أنْ يَكُونَ عَلى ما حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: "مُتَعَمِّدًا" مَعْناهُ: مُسْتَحِلًّا لِقَتْلِهِ، فَهَذا يَؤُولُ أيْضًا إلى الكُفْرِ، وفي المُؤْمِنِ الَّذِي قَدْ سَبَقَ في عِلْمِ اللهِ أنَّهُ يُعَذِّبُهُ بِمَعْصِيَتِهِ عَلى ما قَدَّمْنا مِن تَأْوِيلٍ، فَجَزاؤُهُ -إنْ جازاهُ،-وَيَكُونُ قَوْلُهُ: "خالِدًا" إذا كانَتْ في المُؤْمِنِ بِمَعْنى باقٍ مُدَّةً طَوِيلَةً عَلى نَحْوِ دُعائِهِمْ لِلْمُلُوكِ (p-٦٣٤)بِالتَخْلِيدِ ونَحْوِ ذَلِكَ، ويَدُلُّ عَلى هَذا سُقُوطُ قَوْلِهِ: -أبَدًا- فَإنَّ التَأْبِيدَ لا يَقْتَرِنُ بِالخُلُودِ إلّا في ذِكْرِ الكُفّارِ. واخْتَلَفَ العُلَماءُ في قَبُولِ تَوْبَةِ القاتِلِ، فَجَماعَةٌ عَلى ألّا تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عُمَرَ، وكانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ: "الشِرْكُ والقَتْلُ مُبْهَمانِ، مَن ماتَ عَلَيْهِما خُلِّدَ"، وكانَ يَقُولُ: "هَذِهِ الآيَةُ مَدَنِيَّةٌ نَسَخَتِ الآيَةَ الَّتِي في الفُرْقانِ، إذِ الفُرْقانُ مَكِّيَّةٌ"، والجُمْهُورُ عَلى قَبُولِ تَوْبَتِهِ، ورُوِيَ عن بَعْضِ العُلَماءِ أنَّهم كانُوا يَقْصِدُونَ الإغْلاظَ والتَخْوِيفَ أحْيانًا، فَيُطْلِقُونَ: "لا تُقْبَلُ تَوْبَةُ القاتِلِ"، مِنهُمُ ابْنُ شِهابٍ، كانَ إذا سَألَهُ مَن يَفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ قَدْ قَتَلَ قالَ لَهُ: "تَوْبَتُكَ مَقْبُولَةٌ"، وإذا سَألَهُ مَن لَمْ يَفْعَلْ قالَ لَهُ: "لا تَوْبَةَ لِلْقاتِلِ"، ومِنهُمُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَعَ عنهُ في تَفْسِيرِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ أنَّ رَجُلًا سَألَهُ: "ألِلْقاتِلِ تَوْبَةٌ"؟ فَقالَ لَهُ: "لا تَوْبَةَ لِلْقاتِلِ، وجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ"، فَلَمّا مَضى السائِلُ قالَ لَهُ أصْحابُهُ: "ما هَكَذا كُنّا نَعْرِفُكَ تَقُولُ إلّا أنَّ لِلْقاتِلِ التَوْبَةَ"، فَقالَ لَهُمْ: "إنِّي رَأيْتُهُ مُغْضَبًا، وأظُنُّهُ يُرِيدُ أنْ يَقْتُلَ"، فَقامُوا فَطَلَبُوهُ وسَألُوا عنهُ، فَإذا هو كَذَلِكَ، وذَكَرَ هِبَةُ اللهِ في كِتابِ "الناسِخُ والمَنسُوخُ" لَهُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨]، وقالَ: "هَذا إجْماعُ الناسِ إلّا ابْنَ عَبّاسٍ، وابْنَ عُمَرَ، فَإنَّهُما قالا: هي مُحْكَمَةٌ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِيما قالَهُ هِبَةُ اللهِ نَظَرٌ، لِأنَّهُ مَوْضِعُ عُمُومٍ وتَخْصِيصٍ، لا مَوْضِعُ نَسْخٍ، وإنَّما رَكَّبَ كَلامَهُ عَلى اخْتِلافِ الناسِ في قَبُولِ تَوْبَةِ القاتِلِ، واللهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب