الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ أو جاءُوكم حَصِرَتْ صُدُورُهم أنْ يُقاتِلُوكم أو يُقاتِلُوا قَوْمَهم ولَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهم عَلَيْكم فَلَقاتَلُوكم فَإنِ اعْتَزَلُوكم فَلَمْ يُقاتِلُوكم وألْقَوْا إلَيْكُمُ السَلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكم عَلَيْهِمْ سَبِيلا﴾ كانَ هَذا الحُكْمُ في أوَّلِ الإسْلامِ قَبْلَ أنْ يَسْتَحْكِمَ أمْرُ الطاعَةِ مِنَ الناسِ، فَكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ هادَنَ مِنَ العَرَبِ قَبائِلَ، كَرَهْطِ هِلالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الأسْلَمِيِّ، وسُراقَةَ بْنِ مالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، وخُزَيْمَةَ بْنِ عامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنافٍ، فَقَضَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِأنَّهُ مَن وصَلَ مِنَ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا عَهْدَ بَيْنَهم وبَيْنَ النَبِيِّ ﷺ إلى هَؤُلاءِ أهْلِ العَهْدِ، فَدَخَلَ في عِدادِهِمْ وفَعَلَ مِنَ المُوادَعَةِ، فَلا سَبِيلَ عَلَيْهِ. قالَ عِكْرِمَةُ، والسُدِّيُّ، وابْنُ زَيْدٍ: ثُمَّ لَمّا تَقَوّى الإسْلامُ وكَثُرَ ناصِرُوهُ نُسِخَتْ هَذِهِ والَّتِي بَعْدَها بِما في سُورَةِ [بَراءَةٍ]، (p-٦٢٣)وَقالَ أبُو عُبَيْدَةَ، وغَيْرُهُ: "يَصِلُونَ" -فِي هَذا المَوْضِعِ- مَعْناهُ: يَنْتَسِبُونَ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎ إذا اتَّصَلَتْ قالَتْ لِبَكْرِ بْنِ وائِلٍ وبَكْرٌ سَبَتْها والأُنُوفُ رَواغِمُ يُرِيدُ إذا انْتَسَبَتْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا غَيْرُ صَحِيحٍ، قالَ الطَبَرِيُّ: قِتالُ رَسُولِ اللهِ ﷺ قُرَيْشًا وهم قَرابَةُ السابِقِينَ إلى الإسْلامِ يَقْضِي بِأنَّ قَرابَةَ مَن لَهُ مِيثاقٌ أجْدَرُ بِأنْ تُقاتَلَ، فَإنْ قِيلَ: إنَّ النَبِيَّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ لَمْ يُقاتِلْ قُرَيْشًا إلّا بَعْدَ نَسْخِ هَذِهِ الآيَةِ، قِيلَ: التَوارِيخُ تَقْضِي بِخِلافِ ذَلِكَ، لِأنَّ الناسِخَ لِهَذِهِ الآيَةِ هي سُورَةُ [بَراءَةٍ]، ونَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وإسْلامِ جَمِيعِ قُرَيْشٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: "أو جاءُوكُمْ" عُطِفَ عَلى: "يَصِلُونَ"، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾، والمَعْنى في العَطْفَيْنِ مُخْتَلِفٌ، وهَذا أيْضًا حُكْمٌ كانَ قَبْلَ أنْ يَسْتَحْكِمَ أمْرُ الإسْلامِ، فَكانَ المُشْرِكُ إذا اعْتَزَلَ القِتالَ، وجاءَ إلى دارِ الإسْلامِ مُسالِمًا كارِهًا لِقِتالِ قَوْمِهِ، مَعَ المُسْلِمِينَ، ولِقِتالِ المُسْلِمِينَ مَعَ قَوْمِهِ، لا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وهَذِهِ نُسِخَتْ أيْضًا بِما في [بَراءَةٍ]. و"حَصِرَتْ": ضاقَتْ وحَرِجَتْ، ومِنهُ الحَصَرُ في القَوْلِ، وهُوَ: ضِيقُ الكَلامِ عَلى المُتَكَلِّمِ. (p-٦٢٤)وَقَرَأ الحَسَنُ، وقَتادَةُ: "حَصِرَةٌ"، كَذا قالَ الطَبَرِيُّ، وحَكى ذَلِكَ المَهْدَوِيُّ عن عاصِمٍ مِن رِوايَةِ حَفْصٍ، وحُكِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قَرَأ: "حَصِراتٌ"، وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ سَقَطَ: "أو جاءُوكُمْ"، و"حَصِرَتْ" عِنْدَ جُمْهُورِ النَحْوِيِّينَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ بِتَقْدِيرِ: قَدْ حَصِرَتْ.. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا يَصْحَبُ الفِعْلَ الماضِيَ إذا كانَ في مَوْضِعِ الحالِ، والداعِي إلَيْهِ أنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ تَقْدِيرِ الحالِ وبَيْنَ خَبَرٍ مُسْتَأْنِفٍ، كَقَوْلِكَ: "جاءَ زَيْدٌ رَكِبَ الفَرَسَ"، فَإنْ أرَدْتَ بِقَوْلِكَ: "رَكِبَ الفَرَسَ" خَبَرًا آخَرَ عن زَيْدٍ لَمْ تَحْتَجْ إلى تَقْدِيرِ "قَدْ"، وإنْ أرَدْتَ بِهِ الحالَ مِن زَيْدٍ قَدَّرْتَهُ بِـ "قَدْ"، قالَ الزَجّاجُ: "حَصِرَتْ": خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وقالَ المُبَرِّدُ: "حَصِرَتْ": دُعاءٌ عَلَيْهِمْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: لا يَصِحُّ هُنا الدُعاءُ، لِأنَّهُ يَقْتَضِي الدُعاءَ عَلَيْهِمْ بِألّا يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ، ذَلِكَ فاسِدٌ. قالَ المُؤَلِّفُ: وقَوْلُ المُبَرِّدِ يُخَرَّجُ عَلى أنَّ الدُعاءَ عَلَيْهِمْ بِألّا يُقاتِلُوا المُسْلِمِينَ تَعْجِيزٌ لَهُمْ، والدُعاءَ عَلَيْهِمْ بِألّا يُقاتِلُوا قَوْمَهم تَحْقِيرٌ لَهُمْ، أيْ: هم أقَلُّ وأحْقَرُ، ويُسْتَغْنى عنهُمْ، كَما تَقُولُ إذا أرَدْتَ هَذا المَعْنى: لا جَعَلَ اللهُ فُلانًا عَلَيَّ ولا مَعِيَ أيْضًا، بِمَعْنى: أسْتَغْنِي عنهُ وأسْتَقِلُّ دُونَهُ. واللامُ في قَوْلِهِ: "لَسَلَّطَهُمْ" جَوابُ "وَلَوْ"، وفي قَوْلِهِ: "فَلَقاتَلُوكُمْ" لامُ المُحاذاةِ والِازْدِواجِ، لِأنَّها بِمَثابَةِ الأُولى، لَوْ لَمْ تَكُنِ الأُولى كُنْتَ تَقُولُ: لَوْ شاءَ اللهُ لَقاتَلُوكُمْ، والمَعْنى تَقْرِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلى مِقْدارِ النِقْمَةِ وصَرْفِها، أيْ: لَوْ شاءَ اللهُ لَقَوّاهم وجَرَّأهم عَلَيْكُمْ، فَإذْ قَدْ أنْعَمَ اللهُ عَلَيْكم بِالهُدْنَةِ فاقْبَلُوها وأطِيعُوا فِيها. وقَرَأتْ طائِفَةٌ "فَلَقَتَلُوكُمْ"، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ، والحَسَنُ: "فَلَقَتَّلُوكُمْ" بِتَشْدِيدِ التاءِ، والمَعْنى: "فَإنِ اعْتَزَلُوكُمْ" أيْ: هادَنُوكم وتارَكُوكم في القَتْلِ. و"السَلَمَ" هُنا: الصُلْحُ، قالَهُ الرَبِيعُ، ومِنهُ قَوْلُ الطِرِمّاحِ بْنِ حَكِيمٍ: (p-٦٢٥)وَذاكَ أنَّ تَمِيمًا غادَرَتْ سَلَمًا لِلْأسْدِ كُلَّ حَصانٍ رَعْثَةِ الكَبِدِ وقالَ الرَبِيعُ: السَلَمُ هاهُنا الصُلْحُ، وكَذا قَرَأتْهُ عامَّةُ القُرّاءِ، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ "السَلْمَ" بِسُكُونِ اللامِ، وقَرَأ الحَسَنُ: "السِلْمَ" بِكَسْرِ السِينِ وسُكُونِ اللامِ، فَمَعْنى جُمْلَةِ هَذِهِ الآيَةِ: خُذُوا المُنافِقِينَ الكافِرِينَ واقْتُلُوهم حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ، إلّا مَن دَخَلَ مِنهم في عِدادِ مَن بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ والتَزَمَ مُهادَنَتَكُمْ، أو مَن جاءَكم وقَدْ كَرِهَ قِتالَكم وقِتالَ قَوْمِهِ، وهَذا بِفَضْلِ اللهِ عَلَيْكم ودِفاعِهِ عنكُمْ، لِأنَّهُ لَوْ شاءَ لَسَلَّطَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ هم بِهَذِهِ الصِفَةِ مِنَ المُتارَكَةِ عَلَيْكم فَلَقاتَلُوكُمْ، فَإنِ اعْتَزَلُوكُمْ، أيْ: إذا وقَعَ هَذا فَلَمْ يُقاتِلُوكم فَلا سَبِيلَ لَكم عَلَيْهِمْ، وهَذا والَّذِي في سُورَةِ [المُمْتَحِنَةِ] مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكم في الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكم مِن دِيارِكم أنْ تَبَرُّوهم وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللهُ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: ٨]، مَنسُوخٌ بِما في سُورَةِ [بَراءَةٍ]، قالَهُ قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ، وغَيْرُهُما.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب