الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿اللهُ لا إلَهَ إلا هو لَيَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ومَن أصْدَقُ مِنَ اللهُ حَدِيثًا﴾ ﴿فَما لَكم في المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ واللهُ أرْكَسَهم بِما كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَن أضَلَّ اللهُ ومَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا﴾
لَمّا تَقَدَّمَ الإنْذارُ والتَحْذِيرُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء: ٨٦] تَلاهُ مُقَوِّيًا لَهُ الإعْلامُ بِصِفَةِ الرُبُوبِيَّةِ وحالِ الوَحْدانِيَّةِ، والإعْلامُ بِالحَشْرِ والبَعْثِ مِنَ القُبُورِ لِلثَّوابِ والعِقابِ، إعْلامًا بِقَسَمٍ، والمُقْسَمُ بِهِ تَقْدِيرُهُ: وهُوَ، أو: وحَقِّهِ، أو: وعَظَمَتِهِ "لَيَجْمَعَنَّكُمْ". والجَمْعُ هُنا: الحَشْرُ، فَلِذَلِكَ حَسُنَتْ بَعْدَهُ "إلى"، أيْ: إلَيْهِ السَوْقُ والحَشْرُ، و"القِيامَةِ" أصْلُها: القِيامُ، ولَمّا كانَ قِيامُ الحَشْرِ مِن أذَلِّ الحالِ وأضْعَفِها إلى أشَدِّ الأهْوالِ وأعْظَمِها لَحِقَتْهُ هاءُ المُبالَغَةِ.
و"لا رَيْبَ فِيهِ" تَبْرِئَةٌ هي وما بَعْدَها بِمَثابَةِ الِابْتِداءِ تَطْلُبُ الخَبَرَ، ومَعْناهُ: لا رَيْبَ فِيهِ في نَفْسِهِ وحَقِيقَةِ أمْرِهِ، وإنِ ارْتابَ فِيهِ الكَفَرَةُ فَغَيْرُ ضائِرٍ.
﴿وَمَن أصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا﴾ ظاهِرُهُ الِاسْتِفْهامُ، ومَعْناهُ: تَقْرِيرُ الخَبَرِ، تَقْدِيرُهُ: لا أحَدَ أصْدَقُ مِنَ اللهِ تَعالى، لِأنَّ دُخُولَ الكَذِبِ في حَدِيثِ البَشَرِ إنَّما عِلَّتُهُ الخَوْفُ والرَجاءُ، أو سُوءُ السَجِيَّةِ، وهَذِهِ مَنفِيَّةٌ في حَقِّ اللهِ تَعالى وتَقَدَّسَتْ أسْماؤُهُ، والصِدْقُ في حَقِيقَتِهِ أنْ يَكُونَ ما يَجْرِي عَلى لِسانِ المُخْبِرِ مُوافِقًا لِما في قَلْبِهِ ولِلْأمْرِ المُخْبَرِ عنهُ في وُجُودِهِ، و"حَدِيثًا" نُصِبَ عَلى التَمْيِيزِ.
وقَوْلُهُ: ﴿فَما لَكم في المُنافِقِينَ﴾ الآيَةُ. الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وهَذا ظاهِرُهُ (p-٦٢٠)اسْتِفْهامٌ، والمَقْصِدُ مِنهُ التَوْبِيخُ، واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ فِي: مَنِ المُرادُ بِالمُنافِقِينَ؟، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هم قَوْمٌ كانُوا بِمَكَّةَ فَكَتَبُوا إلى أصْحابِ النَبِيِّ ﷺ بِالمَدِينَةِ، أنَّهم قَدْ آمَنُوا وتَرَكُوا الهِجْرَةَ، وأقامُوا بَيْنَ أظْهُرِ الكُفّارِ، ثُمَّ سافَرَ قَوْمٌ مِنهم إلى الشامِ فَأعْطَتْهم قُرَيْشٌ بِضاعاتٍ، وقالُوا لَهُمْ: إنَّكم لا تَخافُونَ أصْحابَ مُحَمَّدٍ، لِأنَّكم تَخْدَعُونَهم بِإظْهارِ الإيمانِ لَهُمْ، فاتَّصَلَ خَبَرُهم بِالمَدِينَةِ، فاخْتَلَفَ المُؤْمِنُونَ فِيهِمْ، فَقالَتْ طائِفَةٌ: نَخْرُجُ إلى أعْداءِ اللهِ المُنافِقِينَ، وقالَتْ طائِفَةٌ: بَلْ هم مُؤْمِنُونَ لا سَبِيلَ لَنا إلَيْهِمْ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ. وقالَ مُجاهِدٌ: بَلْ نَزَلَتْ في قَوْمٍ جاؤُوا إلى المَدِينَةِ مِن مَكَّةَ، فَأظْهَرُوا الإسْلامَ، ثُمَّ قالُوا: لَنا بِضاعاتٌ بِمَكَّةَ فانْصَرَفُوا إلَيْها، وأبْطَنُوا الكُفْرَ، فاخْتَلَفَ فِيهِمْ أصْحابُ النَبِيِّ ﷺ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذانِ القَوْلانِ يُعَضِّدُهُما ما في آخِرِ الآيَةِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى يُهاجِرُوا﴾ [النساء: ٨٩]. قالَ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ: نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ الَّذِينَ رَجَعُوا عن رَسُولِ اللهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ، عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وأصْحابِهِ، لِأنَّ أصْحابَ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ اخْتَلَفُوا فِيهِمْ.
وقالَ السُدِّيُّ: بَلْ نَزَلَتْ في قَوْمٍ مُنافِقِينَ كانُوا بِالمَدِينَةِ فَطَلَبُوا الخُرُوجَ عنها نِفاقًا وكُفْرًا، وقالُوا: إنّا اجْتَوَيْناها. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: إنَّما نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا في حَدِيثِ الإفْكِ، لِأنَّ الصَحابَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِمْ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
الِاخْتِلافُ في هَذِهِ النازِلَةِ كانَ بَيْنَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وسَعْدِ بْنِ عُبادَةَ حَسْبَما وقَعَ في البُخارِيِّ، وكانَ لِكُلِّ واحِدٍ أتْباعٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ عَلى قَوْلِهِ، وكُلُّ مَن قالَ في هَذِهِ (p-٦٢١)الآيَةِ إنَّها فِيمَن كانَ بِالمَدِينَةِ يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "حَتّى يُهاجِرُوا" لَكِنَّهم يُخْرِجُونَ المُهاجَرَةَ إلى هَجْرِ ما نَهى اللهُ عنهُ، وتَرْكِ الخِلافِ والنِفاقِ، كَما قالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهى اللهُ عنهُ".»
و"فِئَتَيْنِ" مَعْناهُ: فِرْقَتَيْنِ، ونَصْبُهُما عَلى الحالِ، كَما تَقُولُ: ما لَكَ قائِمًا، هَذا مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ. وقالَ الكُوفِيُّونَ: نَصْبُهُ بِما يَتَضَمَّنُهُ "فَما لَكُمْ" مِنَ الفِعْلِ، والتَقْدِيرُ: ما لَكم كُنْتُمْ فِئَتَيْنِ، أو صِرْتُمْ، وهَذا الفِعْلُ المُقَدَّرُ يَنْصِبُ عِنْدَهُمُ النَكِرَةَ والمَعْرِفَةَ، كَما تَقُولُ: مالِكٌ الشاتِمَ لِزَيْدٍ، وخَطَّأ هَذا القَوْلَ الزَجّاجُ، لِأنَّ المَعْرِفَةَ لا تَكُونُ حالًا.
و"أرْكَسَهُمْ" مَعْناهُ: رَجَعَهم في كُفْرِهِمْ وضَلالِهِمْ، والرِكْسُ: الرَجِيعُ، ومِنهُ حَدِيثُ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ في الِاسْتِنْجاءِ: « "فَأخَذَ الحَجَرَيْنِ، وألْقى الرَوْثَةَ وقالَ إنَّها رِكْسٌ"،» ومِنهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أبِي الصَلْتِ:
؎ فَأُرْكِسُوا في حَمِيمِ النارِ إنَّهُمُ كانُوا عُصاةً وقالُوا الإفْكَ والزُورا
وحَكى النَضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، والكِسائِيُّ: رَكَسَ وأرْكَسَ بِمَعْنىً واحِدٍ، أيْ: رَجَعَهُمْ، ومَن قالَ مِنَ المُتَأوِّلِينَ: أهْلَكَهُمْ، أو أضَلَّهم فَإنَّما هي بِالمَعْنى، لِأنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَتَضَمَّنُهُ رَدُّهم إلى الكُفْرِ.
و"بِماكَسَبُوا" مَعْناهُ: بِما اجْتَرَحُوا مِنَ الكُفْرِ والنِفاقِ، أيْ إنَّ كُفْرَهم بِخَلْقٍ مِنَ اللهِ واخْتِراعٍ، وبِتَكَسُّبٍ مِنهُمْ، وقَوْلُهُ: "أتُرِيدُونَ" اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ الإبْعادُ واليَأْسُ مِمّا أرادُوهُ، والمَعْنى: أتُرِيدُونَ أيُّها المُؤْمِنُونَ القائِلُونَ بِأنَّ أُولَئِكَ المُنافِقِينَ مُؤْمِنُونَ أنْ (p-٦٢٢)تَسِمُوا بِالهُدى مَن قَدْ يَسَّرَهُ اللهُ لِضَلالَةٍ وحَتَّمَها عَلَيْهِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ "وَمَن يُضْلِلِ" فَلا سَبِيلَ إلى إصْلاحِهِ ولا إلى إرْشادِهِ.
{"ayahs_start":87,"ayahs":["ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَیَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ لَا رَیۡبَ فِیهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِیثࣰا","۞ فَمَا لَكُمۡ فِی ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ فِئَتَیۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوۤا۟ۚ أَتُرِیدُونَ أَن تَهۡدُوا۟ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِیلࣰا"],"ayah":"ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَیَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ لَا رَیۡبَ فِیهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِیثࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق