الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ ﴿وَإذا جاءَهم أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلى الرَسُولِ وإلى أُولِي الأمْرِ مِنهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهم ولَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَيْطانَ إلا قَلِيلا﴾ المَعْنى: هَؤُلاءِ المُنافِقُونَ، الطاعِنُونَ عَلَيْكَ، الرافِعُونَ بِغَيْرِ بُرْهانٍ في صَدْرِ نُبُوَّتِكَ، ألا يَرْجِعُونَ إلى النَصَفَةِ، ويَنْظُرُونَ مَوْضِعَ الحُجَّةِ، ويَتَدَبَّرُونَ كَلامَ اللهِ تَعالى فَتَظْهَرُ لَهم بَراهِينُهُ، وتَلُوحُ أدِلَّتُهُ؟ (p-٦١٢)والتَدَبُّرُ: النَظَرُ في أعْقابِ الأُمُورِ وتَأْوِيلاتِ الأشْياءِ، هَذا كُلُّهُ يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ﴾ وهَذا أمْرٌ بِالنَظَرِ والِاسْتِدْلالِ. ثُمَّ عَرَّفَ تَعالى بِمَواقِعِ الحُجَّةِ، أيْ: لَوْ كانَ مِن كَلامِ البَشَرِ لَدَخَلَهُ ما في كَلامِ البَشَرِ مِنَ القُصُورِ، وظَهَرَ فِيهِ التَناقُضُ والتَنافِي الَّذِي لا يُمْكِنُ جَمْعُهُ، إذْ ذَلِكَ مَوْجُودٌ في كَلامِ البَشَرِ، والقُرْآنُ مُنَزَّهٌ عنهُ، إذْ هو كَلامُ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَإنْ عَرَضَتْ لِأحَدٍ شُبْهَةٌ وظَنَّ اخْتِلافًا في شَيْءٍ مِن كِتابِ اللهِ، فالواجِبُ أنْ يَتَّهِمَ نَظَرَهُ، ويَسْألَ مَن هو أعْلَمُ مِنهُ. وذَهَبَ الزَجّاجُ إلى أنَّ مَعْنى الآيَةِ: لَوَجَدُوا فِيما نُخْبِرُكَ بِهِ مِمّا يُبَيِّتُونَ اخْتِلافًا، أيْ: فَإذْ تُخْبِرُهم بِهِ عَلى حَدِّ ما يَقَعُ فَذَلِكَ دَلِيلُ أنَّهُ مِن عِنْدِ اللهِ غَيْبٌ مِنَ الغُيُوبِ، هَذا مَعْنى قَوْلِهِ، وقَدْ بَيَّنَهُ ابْنُ فُورَكٍ، والمَهْدَوِيُّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا جاءَهم أمْرٌ مِنَ الأمْنِ﴾ الآيَةُ، قالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: الآيَةُ في المُنافِقِينَ حَسْبَما تَقَدَّمَ مِن ذِكْرِهِمْ، والآيَةُ نازِلَةٌ في سَرايا رَسُولِ اللهِ ﷺ وبُعُوثِهِ، والمَعْنى: أنَّ المُنافِقِينَ كانُوا يَشْرَئِبُّونَ إلى سَماعِ ما يَسُوءُ النَبِيَّ ﷺ في سَراياهُ، فَإذا طَرَأتْ لَهم شُبْهَةُ أمْنٍ لِلْمُسْلِمِينَ أو فُتِحَ عَلَيْهِمْ حَقَّرُوها وصَغَّرُوا شَأْنَها، وأذاعُوا بِذَلِكَ التَصْغِيرِ والتَحْقِيرِ، وإذا طَرَأتْ لَهم شُبْهَةُ خَوْفِ المُسْلِمِينَ أو مُصِيبَةٌ عَظَّمُوها، وأذاعُوا ذَلِكَ التَعْظِيمَ، و"أذاعُوا بِهِ" مَعْناهُ: أفْشَوْهُ، وهو فِعْلٌ يَتَعَدّى بِحَرْفِ جَرٍّ، وبِنَفْسِهِ أحْيانًا، تَقُولُ: أذَعْتُ كَذا، وأذَعْتُ بِهِ، ومِنهُ قَوْلُ أبِي الأسْوَدِ: ؎ أذاعُوا بِهِ في الناسِ حَتّى كَأنَّهُ بِعَلْياءَ نارٌ أُوقِدَتْ بِثُقُوبِ وقالَتْ فِرْقَةٌ: الآيَةُ نازِلَةٌ في المُنافِقِينَ، وفي مَن ضَعُفَ جَلَدُهُ عَنِ الإيمانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وقَلَّتْ تَجْرِبَتُهُ. (p-٦١٣)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَإمّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ في أمْرِ السَرايا فَإنَّهم كانُوا يَسْمَعُونَ أقْوالَ المُنافِقِينَ فَيَقُولُونَها مَعَ مَن قالَها، ويُذِيعُونَها مَعَ مَن أذاعَها، وهم غَيْرُ مُتَثَبِّتِينَ في صِحَّتِها، وهَذا هو الدالُّ عَلى قِلَّةِ تَجْرِبَتِهِمْ، وإمّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ في سائِرِ الأُمُورِ الواقِعَةِ، كالَّذِي قالَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: «إنَّهُ جاءَ وقَوْمٌ في المَسْجِدِ يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ نِساءَهُ، قالَ: فَدَخَلْتُ عَلى عائِشَةَ، فَقُلْتُ: يا ابْنَةَ أبِي بَكْرٍ بَلَغَ مِن أمْرِكِ أنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللهِ ﷺ؟ فَقالَتْ: يا ابْنَ الخَطّابِ، عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ، قالَ: فَدَخَلْتُ عَلى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: يا حَفْصَةُ قَدْ عَلِمْتِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمْ يَكُنْ يُحِبُّكِ، ولَوْلا أنا لَطَلَّقَكِ، فَجَعَلَتْ تَبْكِي، قالَ: فَخَرَجْتُ حَتّى جِئْتُ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ وهو في غُرْفَةٍ لَهُ، ورَباحٌ مَوْلاهُ جالِسٌ عَلى أُسْكُفَّةِ الغُرْفَةِ، فَقُلْتُ: يا رَباحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عَلى رَسُولِ اللهِ، فَنَظَرَ إلى الغُرْفَةِ، ثُمَّ نَظَرَ إلَيَّ وسَكَتَ، فَقُلْتُ: يا رَباحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عَلى رَسُولِ اللهِ، فَلَعَلَّهُ يَظُنُّ أنِّي جِئْتُ مِن أجْلِ حَفْصَةَ، واللهِ لَوْ أمَرَنِي أنْ أضْرِبَ عُنُقَها لَضَرَبْتُهُ، فَنَظَرَ ثُمَّ أشارَ إلَيَّ بِيَدِهِ أنِ ادْخُلْ، فَدَخَلْتُ وإذا رَسُولُ اللهِ ﷺ مُضْطَجِعٌ عَلى حَصِيرٍ، وقَدْ أثَّرَ في جَنْبِهِ، وإذا لَيْسَ في غُرْفَتِهِ. إلّا قَبْضَةٌ مِن شَعِيرٍ، وقَبْضَةٌ مِن قَرَظٍ، وإذا أفِيقانِ مُعَلَّقانِ، فَبَكَيْتُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ما يُبْكِيكَ يا ابْنَ الخَطّابِ؟ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أنْتَ صَفْوَةُ اللهِ مِن خَلْقِهِ ورَسُولُهُ، ولَيْسَ لَكَ مِنَ الدُنْيا إلّا هَذا، وكِسْرى وقَيْصَرُ في الأشْجارِ والأنْهارِ، فَقالَ: ها هُنا أنْتَ يا عُمَرُ؟ أما تَرْضى أنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُنْيا ولَنا الآخِرَةُ؟ فَقُلْتُ: بَلى، ثُمَّ جَعَلْتُ أُحَدِّثُهُ حَتّى تَهَلَّلَ وابْتَسَمَ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّهُمُ ادَّعَوْا أنَّكَ طَلَّقْتَ نِساءَكَ، فَقالَ: لا، فَقُلْتُ: أتَأْذَنُ لِي أنْ أُعَرِّفَ الناسَ؟ فَقالَ: افْعَلْ إنْ شِئْتَ. قالَ: فَقُمْتُ عَلى بابِ المَسْجِدِ فَقُلْتُ: ألا إنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمْ يُطَلِّقْ نِساءَهُ، (p-٦١٤)فَأنْزَلَ اللهُ في هَذِهِ القِصَّةِ ﴿وَإذا جاءَهم أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذاعُوا بِهِ﴾. الآيَةَ،» وأنا الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَسُولِ﴾ الآيَةُ. المَعْنى: لَوْ أمْسَكُوا عَنِ الخَوْضِ، واسْتَقْصَوُا الأُمُورَ مِن قِبَلِ الرَسُولِ، أو أُولِي الأمْرِ -وَهُمُ الأُمَراءُ- قالَهُ السُدِّيُّ، وابْنُ زَيْدٍ، وقِيلَ: أهْلُ العِلْمِ، قالَهُ الحَسَنُ، وقَتادَةُ، وغَيْرُهُما، والمَعْنى يَقْتَضِيهِما مَعًا "لَعَلِمَهُ" طُلّابُهُ مِن أُولِي الأمْرِ، والبَحَثَةُ عنهُ وهم مُسْتَنْبِطُوهُ كَما يُسْتَنْبَطُ الماءُ وهُوَ: النَبَطُ، أيِ: الماءُ المُسْتَخْرَجُ مِنَ الأرْضِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ قَرِيبٌ ثَراهُ ما يَنالُ عَدُوُّهُ ∗∗∗ لَهُ نَبَطًا آبى الهَوانَ قَطُوبُ وهَذا التَأْوِيلُ جارٍ مَعَ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: أنا اسْتَنْبَطْتُهُ بِبَحْثِي وسُؤالِي. وتَحْتَمِلُ الآيَةُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: لَعَلِمَهُ المَسْؤُولُونَ المُسْتَنْبِطُونَ فَأخْبَرُوا بِعِلْمِهِمْ، وقَرَأ أبُو السَمّالِ: " لَعَلْمَهُ" بِسُكُونِ اللامِ، وذَلِكَ مِثْلُ "شَجْرَ بَيْنَهُمْ"،والضَمِيرُ فِي: "رَدُّوهُ" عَلى الأمْرِ، وفِي: "مِنهُمْ" يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى الرَسُولِ وأُولِي الأمْرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى الجَماعَةِ كُلِّها، أيْ: لَعَلِمَهُ البَحَثَةُ مِنَ الناسِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ﴾ الآيَةُ، هَذا الخِطابُ لِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ بِاتِّفاقٍ مِنَ المُتَأوِّلِينَ، والمَعْنى: لَوْلا هِدايَةُ اللهِ وإرْشادُهُ لَكم بِالإيمانِ -وَذَلِكَ فَضْلٌ مِنهُ ورَحْمَةٌ- لَكُنْتُمْ عَلى كُفْرِكُمْ، وذَلِكَ اتِّباعُ الشَيْطانِ. وحَكى الزَجّاجُ: لَوْلا فَضْلُ اللهِ في هَذا القُرْآنِ ورِسالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ. واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في الِاسْتِثْناءِ بِقَوْلِهِ: "إلّا قَلِيلًا"، مِمَّ هُوَ؟ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، (p-٦١٥)وابْنُ زَيْدٍ: ذَلِكَ مُسْتَثْنىً مِن قَوْلِهِ: "أذاعُوا بِهِ- إلّا قَلِيلًا"، ورَجَّحَهُ الطَبَرِيُّ، وقالَ قَتادَةُ: مُسْتَثْنىً مِن قَوْلِهِ: "يَسْتَنْبِطُونَهُ-إلّا قَلِيلًا"، وقالَتْ فِرْقَةٌ: ذَلِكَ مُسْتَثْنىً مِن قَوْلِهِ: ﴿لاتَّبَعْتُمُ الشَيْطانَ إلا قَلِيلا﴾، عَلى سَرْدِ الكَلامِ دُونَ تَقْدِيرِ تَقْدِيمٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ، فَقالَ الضَحّاكُ: إنَّ اللهَ هَدى الكُلَّ مِنهم لِلْإيمانِ، فَكانَ مِنهم مَن تَمَكَّنَ فِيهِ حَتّى لَمْ يَخْطُرْ لَهُ قَطُّ خاطِرُ شَكٍّ، ولا عَنَتْ لَهُ شُبْهَةُ ارْتِيابٍ، فَذَلِكَ هو القَلِيلُ، وسائِرُ مَن أسْلَمَ مِنَ العَرَبِ لَمْ يَخْلُ مِنَ الخَواطِرِ، فَلَوْلا فَضْلُ اللهِ بِتَجْرِيدِ الهِدايَةِ لَهم لَضَلُّوا واتَّبَعُوا الشَيْطانَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: هَذا مَعْنى قَوْلِ الضَحّاكِ، ويَجِيءُ الفَضْلُ مُعَيَّنًا، أيْ: رِسالَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ والقُرْآنُ، لِأنَّ الكُلَّ إنَّما هُدِيَ بِفَضْلِ اللهِ عَلى الإطْلاقِ، وقالَ قَوْمٌ: المُخاطَبُ بِقَوْلِهِ "لاتَّبَعْتُمُ" جَمِيعُ المُؤْمِنِينَ، وقَوْلُهُ: "إلّا قَلِيلًا" إشارَةٌ إلى مَن كانَ قَبْلَ الإسْلامِ غَيْرَ مُتَّبِعٍ لِلشَّيْطانِ عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ، كَوَرَقَةِ بْنِ نَوْفَلٍ، وزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وغَيْرِهِما. وقالَ قَوْمٌ: الِاسْتِثْناءُ إنَّما هو مِنَ الاتِّباعِ، أيْ: لاتَّبَعْتُمُ الشَيْطانَ كُلُّكم إلّا قَلِيلًا مِنَ الأُمُورِ كُنْتُمْ لا تَتَّبِعُونَهُ فِيها. وقالَ قَوْمٌ: قَوْلُهُ: "إلّا قَلِيلًا" عِبارَةٌ عَنِ العَدَمِ، يُرِيدُونَ: لاتَّبَعْتُمُ الشَيْطانَ كُلُّكُمْ، وهَذا الأخِيرُ قَوْلٌ قَلِقٌ، ولَيْسَ يُشْبِهُ ما حَكى سِيبَوَيْهِ مِن قَوْلِهِمْ: "أرْضٌ قَلَّما تُنْبِتُ كَذا" بِمَعْنى: لا تُنْبِتُهُ لِأنَّ اقْتِرانَ القِلَّةِ بِالِاسْتِثْناءِ يَقْتَضِي حُصُولَها، ولَكِنْ قَدْ ذَكَرَهُ الطَبَرِيُّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب