الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِنَ نَفْسِكَ وأرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولا وكَفى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ ﴿مَن يُطِعِ الرَسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللهَ ومَن تَوَلّى فَما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ ﴿وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإذا بَرَزُوا مِن عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنهم غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ واللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأعْرِضْ عنهم وتَوَكَّلْ عَلى اللهِ وكَفى بِاللهِ وكِيلا﴾ قالَتْ فِرْقَةٌ: "ما" شَرْطِيَّةٌ، ودَخَلَتْ "مِن" بَعْدَها لِأنَّ الشَرْطَ لَيْسَ بِواجِبٍ فَأشْبَهَ النَفْيَ الَّذِي تَدْخُلُهُ "مِن". وقالَتْ فِرْقَةٌ: "ما" بِمَعْنى "الَّذِي" و"مِن" لِبَيانِ الجِنْسِ، لِأنَّ المُصِيبَ لِلْإنْسانِ أشْياءُ كَثِيرَةٌ، حَسَنَةٌ وسَيِّئَةٌ، ورَخاءٌ وشِدَّةٌ، وغَيْرُ ذَلِكَ، والخِطابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ. وغَيْرُهُ داخِلٌ في المَعْنى، وقِيلَ: الخِطابُ لِلْمَرْءِ عَلى الجُمْلَةِ. ومَعْنى هَذِهِ الآيَةِ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَتادَةَ، والحَسَنِ، والرَبِيعِ، وابْنِ زَيْدٍ، وأبِي صالِحٍ، وغَيْرِهِمُ: القَطْعُ واسْتِئْنافُ الإخْبارِ مِنَ اللهِ تَعالى بِأنَّ الحَسَنَةَ مِنهُ وبِفَضْلِهِ، والسَيِّئَةَ مِنَ الإنْسانِ بِإذْنابِهِ، وهي مِنَ اللهِ بِالخَلْقِ والِاخْتِراعِ. وفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "فَمِن نَفْسِكَ وأنا قَضَيْتُها عَلَيْكَ"، وقَرَأ بِها ابْنُ عَبّاسٍ، وحَكى أبُو عَمْرٍو أنَّها في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَأنا كَتَبْتُها"، ورُوِيَ أنَّ أُبَيًّا وابْنَ مَسْعُودٍ قَرَآ: "وَأنا قَدَّرْتُها عَلَيْكَ". ويُعَضِّدُ هَذا التَأْوِيلَ أحادِيثُ عَنِ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ مَعْناها: أنَّ ما يُصِيبُ ابْنَ آدَمَ مِن مَصائِبَ فَإنَّما هي عُقُوبَةُ ذُنُوبِهِ، ومِن ذَلِكَ « "أنَّ أبا بَكْرٍ الصِدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنهُ (p-٦٠٩)لَمّا نَزَلَتْ ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: ١٢٣] جَزِعَ، فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ألَسْتَ تَمْرَضُ؟ ألَسْتَ تَسْقَمُ؟ ألَسْتَ تَغْتَمُّ؟، وقالَ أيْضًا عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: "ما يُصِيبُ الرَجُلَ خَدْشَةُ عُودٍ ولا عَثْرَةُ قَدَمٍ، ولا اخْتِلاجُ عِرْقٍ إلّا بِذَنْبٍ، وما يَعْفُو اللهُ عنهُ أكْثَرُ"». فَفي هَذا بَيانُ أنَّ تِلْكَ كُلَّها مُجازاةٌ عَلى ما يَقَعُ مِنَ الإنْسانِ. وقالَتْ طائِفَةٌ: مَعْنى الآيَةِ كَمَعْنى الَّتِي قَبْلَها في قَوْلِهِ: ﴿وَإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِكَ﴾ [النساء: ٧٨] عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ "يَقُولُونَ". فَتَقْدِيرُهُ: "فَمالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا، يَقُولُونَ: ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ"، ويَجِيءُ القَطْعُ عَلى هَذا القَوْلِ مِن قَوْلِهِ: "وَأرْسَلْناكَ". وقالَتْ طائِفَةٌ: بَلِ القَطْعُ في الآيَةِ مِن أوَّلِها، والآيَةُ مُضَمَّنَةٌ الإخْبارَ أنَّ الحَسَنَةَ مِنَ اللهِ وبِفَضْلِهِ، وتَقْدِيرُ ما بَعْدَهُ: وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ عَلى جِهَةِ الإنْكارِ والتَقْرِيرِ، فَعَلى هَذِهِ المَقالَةِ ألِفُ الِاسْتِفْهامِ مَحْذُوفَةٌ مِنَ الكَلامِ، وحَكى هَذا القَوْلَ المَهْدَوِيُّ. و"رَسُولًا" نُصِبَ عَلى الحالِ، وهي حالٌ تَتَضَمَّنُ مَعْنى التَأْكِيدِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولا﴾، ثُمَّ تَلاهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَفى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ تَوَعُّدٌ لِلْكَفَرَةِ، وتَهْدِيدٌ تَقْتَضِيهِ قُوَّةُ الكَلامِ، لِأنَّ المَعْنى: شَهِيدًا عَلى مَن كَذَّبَهُ، والمَعْنى أنَّ الرَسُولَ إنَّما يَأْمُرُ ويَنْهى بَيانًا مِنَ اللهِ وتَبْلِيغًا، فَإنَّما هي أوامِرُ اللهِ ونَواهِيهِ. قالَتْ فِرْقَةٌ: سَبَبُ هَذِهِ الآيَةِ «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: "مَن أحَبَّنِي فَقَدْ أحَبَّ اللهَ" (p-٦١٠)فاعْتَرَضَتِ اليَهُودُ عَلَيْهِ في هَذِهِ المَقالَةِ، وقالُوا: هَذا مُحَمَّدٌ يَأْمُرُ بِعِبادَةِ اللهِ وحْدَهُ، وهو في هَذا القَوْلِ مُدَّعٍ لِلرُّبُوبِيَّةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» تَصْدِيقًا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، وتَبْيِينًا لِصُورَةِ التَعَلُّقِ بَيْنَهُ وبَيْنَ فَضْلِ اللهِ تَعالى. و"تَوَلّى" مَعْناهُ: أعْرَضَ، وأصْلُ تَوَلّى في المَعْنى أنْ يَتَعَدّى بِحَرْفٍ فَنَقُولَ: تَوَلّى فُلانٌ عَنِ الإيمانِ، وتَوَلّى إلى الإيمانِ، لِأنَّ اللَفْظَةَ تَتَضَمَّنُ إقْبالًا وإدْبارًا، لَكِنَّ الِاسْتِعْمالَ غَلَبَ عَلَيْها في كَلامِ العَرَبِ عَلى الإعْراضِ والإدْبارِ، حَتّى اسْتُغْنِيَ فِيها عن ذِكْرِ الحَرْفِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ. "حَفِيظًا" يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، أيْ: لِيَحْفَظَهم حَتّى لا يَقَعُوا في الكُفْرِ والمَعاصِي ونَحْوِهِ، أو: لِيَحْفَظَ مَساوِئَهم وذُنُوبَهم ويَحْسُبَها عَلَيْهِمْ. وهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي الإعْراضَ عَمَّنْ تَوَلّى والتَرْكَ لَهُ، وهي قَبْلَ نُزُولِ القِتالِ، وإنَّما كانَتْ تَوْطِئَةً ورِفْقًا مِنَ اللهِ تَعالى حَتّى يَسْتَحْكِمَ أمْرُ الإسْلامِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَقُولُونَ طاعَةٌ﴾ الآيَةُ، نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ بِاتِّفاقٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ، المَعْنى: يَقُولُونَ لَكَ يا مُحَمَّدُ: أمْرُنا طاعَةٌ، فَإذا خَرَجُوا مِن عِنْدِكَ اجْتَمَعُوا لَيْلًا وقالُوا غَيْرَ ما أظْهَرُوا لَكَ، و"بَيَّتَ" مَعْناهُ: فَعَلَ لَيْلًا، فَإمّا أُخِذَ مِن "باتَ"، وإمّا مِنَ "البَيْتِ" لِأنَّهُ مُلْتَزَمٌ بِاللَيْلِ، وفِيهِ الأسْرارُ الَّتِي يُخافُ شِياعُها، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ أتَوْنِي فَلَمْ أرْضَ ما بَيَّتُوا وكانُوا أتَوْنِي بِأمْرٍ نُكُرْ ومِنهُ قَوْلُ النَمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ: ؎ هَبَّتْ لِتَعْذِلَنِي بِلَيْلٍ اسْمَعِي سَفَهًا ∗∗∗ تُبَيِّتُكِ المَلامَةُ فاهْجَعِي (p-٦١١)المَعْنى: وتَقُولُ لِيَ: اسْمَعْ، وزِيدَتِ الياءُ إشْباعًا لِتَصْرِيعِ القافِيَةِ، كَقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ ألا أيُّها اللَيْلُ الطَوِيلُ ألا انْجَلِي... ∗∗∗............................... وقَوْلِهِ: بِأمْثَلِ. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "بَيَّتَ" بِتَحْرِيكِ التاءِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ بِإدْغامِها في الطاءِ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "بَيَّتَ مُبَيِّتٌ مِنهم يا مُحَمَّدُ". و"تَقُولُ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: تَقُولُ أنْتَ يا مُحَمَّدُ، ويُحْتَمَلُ، تَقُولُ هي لَكَ. و"يَكْتُبُ" مَعْناهُ عَلى وجْهَيْنِ: إمّا يَكْتُبُهُ عِنْدَهُ حَسَبَ كَتْبِ الحَفَظَةِ حَتّى يَقَعَ الجَزاءُ، وإمّا يَكْتُبُهُ في كِتابِهِ إلَيْكَ، أيْ: يُنْزِلُهُ في القُرْآنِ ويُعْلِمُ بِها، قالَ هَذا القَوْلَ الزَجّاجُ. والأمْرُ بِالإعْراضِ إنَّما هو عن مُعاقَبَتِهِمْ ومُجازاتِهِمْ، وأمّا اسْتِمْرارُ دَعْوَتِهِمْ وعِظَتِهِمْ فَلازِمٌ، قالَ الضَحّاكُ: مَعْنى "أعْرِضْ عنهُمْ" لا تُخْبِرْ بِأسْمائِهِمْ، وهَذا أيْضًا قَبْلَ نُزُولِ القِتالِ عَلى ما تَقَدَّمَ، ثُمَّ أمَرَ اللهُ تَعالى بِالتَوَكُّلِ عَلَيْهِ والتَمَسُّكِ بِعُرْوَتِهِ الوُثْقى ثِقَةً بِإنْجازِ وعْدِهِ في النَصْرِ، والوَكِيلُ: القائِمُ بِالأُمُورِ المُصْلِحُ لِما يُخافُ مِن فَسادِها، ولَيْسَ ما غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمالُ في "الوَكِيلِ" في عَصْرِنا بِأصْلٍ في كَلامِ العَرَبِ، وهي لَفْظَةٌ رَفِيعَةٌ وضَعَها الِاسْتِعْمالُ العامِّيُّ كالعَرِيفِ والنَقِيبِ وغَيْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب