الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ مَتاعُ الدُنْيا قَلِيلٌ والآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلا﴾ [النساء: ٧٧] ﴿أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ ولَوْ كُنْتُمْ في بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وإنْ تُصِبْهم حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِ اللهِ وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللهِ فَمالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ المَعْنى: قُلْ يا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاءِ: مَتاعُ الدُنْيا، أيِ الاسْتِمْتاعُ بِالحَياةِ فِيها الَّذِي حَرَصْتُمْ عَلَيْهِ وأشْفَقْتُمْ مِن فَقْدِهِ، قَلِيلٌ، لِأنَّهُ فانٍ زائِلٌ، والآخِرَةُ الَّتِي هي نَعِيمٌ مُؤَبَّدٌ خَيْرٌ لِمَن أطاعَ اللهَ واتَّقاهُ في الِامْتِثالِ لِأوامِرِهِ عَلى المَحابِّ والمَكارِهِ. وقَرَأ نافِعٌ وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ: "تُظْلَمُونَ" بِالتاءِ عَلى الخِطابِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "يُظْلَمُونَ" بِالياءِ عَلى تَرْكِ المُخاطَبَةِ وذِكْرِ الغائِبِ. (p-٦٠٦)والفَتِيلُ: الخَيْطُ في شِقِّ نَواةِ التَمْرَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِيهِ. و﴿أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ﴾ جَزاءٌ وجَوابُهُ، وهَكَذا قِراءَةُ الجُمْهُورِ، وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمانَ: "يُدْرِكُكُمُ" بِضَمِّ الكافَيْنِ ورَفْعِ الفِعْلِ. قالَ أبُو الفَتْحِ: ذَلِكَ عَلى تَقْدِيرِ دُخُولِ الفاءِ كَأنَّهُ قالَ: فَيُدْرِكُكُمُ المَوْتُ، وهي قِراءَةٌ ضَعِيفَةٌ. وهَذا إخْبارٌ مِنَ اللهِ يَتَضَمَّنُ تَحْقِيرَ الدُنْيا، وأنَّهُ لا مَنجى مِنَ الفَناءِ والتَنَقُّلِ. واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في قَوْلِهِ: "فِي بُرُوجٍ"، فالأكْثَرُ والأصَحُّ أنَّهُ أرادَ البُرُوجَ والحُصُونَ الَّتِي في الأرْضِ المَبْنِيَّةِ، لِأنَّها غايَةُ البَشَرِ في التَحَصُّنِ والمَنَعَةِ، فَمَثَّلَ اللهُ لَهم بِها، قالَ قَتادَةُ: المَعْنى: في قُصُورٍ مُحَصَّنَةٍ، وقالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، والجُمْهُورُ. وقالَ السُدِّيُّ: هي بُرُوجٌ في السَماءِ الدُنْيا مَبْنِيَّةٌ، وحَكى مَكِّيٌّ هَذا القَوْلَ عن مالِكٍ، وأنَّهُ قالَ: ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿والسَماءِ ذاتِ البُرُوجِ﴾ [البروج: ١]. وحَكى النَقّاشُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: ﴿فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ مَعْناهُ: في قُصُورٍ مِن حَدِيدٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا لا يُعْطِيهِ اللَفْظُ، وإنَّما البُرُوجُ في القُرْآنِ إذا ورَدَتْ مُقْتَرِنَةً بِذِكْرِ السَماءِ بُرُوجُ المَنازِلِ لِلْقَمَرِ وغَيْرِهِ، عَلى ما سَمَّتْها العَرَبُ وعَرَفَتْها. وبَرَجَ مَعْناهُ: ظَهَرَ، ومِنهُ البُرُوجُ، أيِ: المُطَوَّلَةُ الظاهِرَةُ، ومِنهُ تَبَرُّجُ المَرْأةِ. و"مُشَيَّدَةٍ" قالَ الزَجّاجُ وغَيْرُهُ: مَعْناهُ مَرْفُوعَةٌ مُطَوَّلَةٌ، لِأنَّ "شادَ الرَجُلُ البِناءَ" إذا صَنَعَهُ بِالشِيدِ، وهو الجِصُّ، و"أشادَ" و"شَيَّدَ" إذا رَفَعَهُ وعَلّاهُ، ومِنهُ "أشادَ الرَجُلُ ذِكْرَ الرَجُلِ" إذا رَفَعَهُ، وقالَتْ طائِفَةٌ: "مُشَيَّدَةٍ" مَعْناهُ: مُحَسَّنَةٌ بِالشِيدِ، وذَلِكَ عِنْدَهم أنَّ "شادَ الرَجُلُ" مَعْناهُ: جَصَّصَ بِالشِيدِ، وشَيَّدَ مَعْناهُ: كَرَّرَ ذَلِكَ الفِعْلَ، فَهي لِلْمُبالَغَةِ، كَما تَقُولُ: "كَسَرْتُ العُودَ مَرَّةً"، و"كَسَّرْتُهُ في مَواضِعَ مِنهُ كَثِيرَةٍ مِرارًا"، و"خَرَقْتُ الثَوْبَ وخَرَّقْتُهُ" إذا كانَ الخَرْقُ مِنهُ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ، فَعَلى هَذا يَصِحُّ أنْ تَقُولَ: "شادَ الرَجُلُ الجِدارَ مَرَّةً"، و"شَيَّدَ الرَجُلُ الجِدارَ" إذا أرَدْتَ المُبالَغَةَ، لِأنَّ (p-٦٠٧)التَشْيِيدَ مِنهُ وقَعَ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ شادَهُ مَرْمَرًا وجَلَّلَهُ كَلْـ سًا فَلِلطَّيْرِ في ذُراهُ وُكُورُ والهاءُ والمِيمُ في قَوْلِهِ: "وَإنْ تُصِبْهُمْ" رَدٌّ عَلى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: "كُفُّوا أيْدِيَكُمْ"، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُمُ المُنافِقُونَ، لِأنَّ المُؤْمِنِينَ لا تَلِيقُ بِهِمْ هَذِهِ المَقالَةُ، ولِأنَّ اليَهُودَ لَمْ يَكُونُوا لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ تَحْتَ أمْرٍ، فَتُصِيبُهم بِسَبَبِهِ أسْواءٌ، ومَعْنى الآيَةِ: وإنْ تُصِبْ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ حَسَنَةٌ مِن هَزْمِ عَدُوٍّ، أو غَنِيمَةٍ أو غَيْرِ ذَلِكَ رَأوا أنَّ ذَلِكَ بِالِاتِّفاقِ مِن صُنْعِ اللهِ، لا أنَّهُ بِبَرَكَةِ اتِّباعِكَ والإيمانِ بِكَ، وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ، أيْ: هَزِيمَةٌ، أو شِدَّةُ جُوعٍ، وغَيْرُ ذَلِكَ، قالُوا: هَذِهِ بِسَبَبِكَ لِسُوءِ تَدْبِيرِكَ، كَذا قالَ ابْنُ زَيْدٍ، وقِيلَ: لِشُؤْمِكَ عَلَيْنا، قالَهُ الزَجّاجُ وغَيْرُهُ. وقَوْلُهُ: ﴿قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللهِ﴾ إعْلامٌ مِنَ اللهِ تَعالى أنَّ الخَيْرَ والشَرَّ، والحَسَنَةَ والسَيِّئَةَ خَلْقٌ لَهُ ومِن عِنْدِهِ، لا رَبَّ غَيْرُهُ، ولا خالِقَ ولا مُخْتَرِعَ سِواهُ، فالمَعْنى: قُلْ يا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاءِ: لَيْسَ الأمْرُ كَما زَعَمْتُمْ مِن عِنْدِي، ولا مِن عِنْدِ غَيْرِي، بَلْ هو كُلُّهُ مِن عِنْدِ اللهِ، قالَ قَتادَةُ: النِعَمُ والمَصائِبُ مِن عِنْدِ اللهِ، قالَ ابْنُ زَيْدٍ: النَصْرُ والهَزِيمَةُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: السَيِّئَةُ والحَسَنَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا كُلُّهُ شَيْءٌ واحِدٌ. ثُمَّ وبَّخَهم بِالِاسْتِفْهامِ عن عِلَّةِ جَهْلِهِمْ، وقِلَّةِ فَهْمِهِمْ وتَحْصِيلِهِمْ لِما يُخْبِرُونَ بِهِ مِنَ الحَقائِقِ، والفِقْهُ في اللُغَةِ: الفَهْمُ، وأوقَفَتْهُ الشَرِيعَةُ عَلى الفَهْمِ في الدِينِ وأُمُورِهِ، وغَلَبَ عَلَيْهِ بَعْدُ الِاسْتِعْمالُ في عِلْمِ المَسائِلِ الأحْكامِيَّةِ. والبَلاغَةُ في الِاسْتِفْهامِ عن قِلَّةِ (p-٦٠٨)فِقْهِهِمْ بَيِّنَةٌ، لِأنَّكَ إذا اسْتَفْهَمْتَ عن عِلَّةِ أمْرٍ ما فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلامُكَ إيجابَ ذَلِكَ الأمْرِ تَضَمُّنًا لَطِيفًا بَلِيغًا. ووَقَفَ أبُو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ عَلى قَوْلِهِ: "فَما"، ووَقَفَ الباقُونَ عَلى اللامِ في قَوْلِهِ: "فَمالِ" اتِّباعًا لِلْخَطِّ، ومَنَعَهُ قَوْمٌ جُمْلَةً، لِأنَّهُ حَرْفُ جَرٍّ فَهي بَعْضُ المَجْرُورِ، وهَذا كُلُّهُ بِحَسَبِ ضَرُورَةٍ وانْقِطاعِ نَفَسٍ، وأمّا أنْ يَخْتارَ أحَدٌ الوَقْفَ فِيما ذَكَرْناهُ ابْتِداءً فَلا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب