الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ والَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ الطاغُوتِ فَقاتِلُوا أولِياءَ الشَيْطانِ إنَّ كَيْدَ الشَيْطانِ كانَ ضَعِيفًا﴾ ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ لَهم كُفُّوا أيْدِيَكم وأقِيمُوا الصَلاةَ وآتُوا الزَكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذا فَرِيقٌ مِنهم يَخْشَوْنَ الناسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أو أشَدَّ خَشْيَةً وقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالُ لَوْلا أخَّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ﴾ هَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي تَقْوِيَةَ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ وتَحْرِيضَهُمْ، و"الطاغُوتِ" كُلُّ ما عُبِدَ واتُّبِعَ مِن دُونِ اللهِ، وتَدُلُّ قَرِينَةُ ذِكْرِ الشَيْطانِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُرادَ بِالطاغُوتِ هُنا الشَيْطانُ، وإعْلامُهُ تَعالى بِضَعْفِ كَيْدِ الشَيْطانِ تَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِ المُؤْمِنِينَ، وتَجْرِئَةٌ لَهم عَلى مُقارَعَةِ الكَيْدِ الضَعِيفِ فَإنَّ العَزْمَ والحَزْمَ الَّذِي يَكُونُ عَلى حَقائِقِ الإيمانِ يَكْسِرُهُ ويَهُدُّهُ، ودَخَلَتْ "كانَ" دالَّةً عَلى لُزُومِ الصِفَةِ. (p-٦٠٤)وَقَوْلُهُ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ﴾ اخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ فِيمَنِ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ﴾، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: كانَ عَبْدُ الرَحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وسَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ، والمِقْدادُ بْنُ عَمْرٍو الكِنْدِيُّ، وجَماعَةٌ سِواهم قَدْ أنِفُوا مِنَ الذُلِّ بِمَكَّةَ قَبْلَ الهِجْرَةِ، وسَألُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ أنْ يُبِيحَ لَهم مُقاتَلَةَ المُشْرِكِينَ، فَأمَرَهُمُ اللهُ تَعالى بِكَفِّ الأيْدِي، وألّا يَفْعَلُوا، فَلَمّا كانَ بِالمَدِينَةِ وفُرِضَ القِتالُ، شَقَّ ذَلِكَ عَلى بَعْضِهِمْ، وصَعُبَ مَوْقِعُهُ، ولَحِقَهم ما يَلْحَقُ البَشَرَ مِنَ الخَوَرِ والكَعِّ عن مُقارَعَةِ العَدُوِّ فَنَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِمْ. وقالَ قَوْمٌ: كانَ كَثِيرٌ مِنَ العَرَبِ قَدِ اسْتَحْسَنُوا الدُخُولَ في دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ عَلى فَرائِضِهِ الَّتِي كانَتْ قَبْلَ القِتالِ مِنَ الصَلاةِ والزَكاةِ ونَحْوِها، والمُوادَعَةِ وكَفِّ الأيْدِي، فَلَمّا نَزَلَ القِتالُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وجَزِعُوا لَهُ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ فِيهِمْ. وقالَ مُجاهِدٌ وابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: إنَّما الآيَةُ حِكايَةٌ عَنِ اليَهُودِ أنَّهم فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَ نَبِيِّهِمْ في وقْتِهِ، فَمَعْنى الحِكايَةِ عنهم تَقْبِيحُ فِعْلِهِمْ، ونَهْيُ المُؤْمِنِينَ عن فِعْلِ مِثْلِهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: المُرادُ بِالآيَةِ المُنافِقُونَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ، عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ وأمْثالُهُ، وذَلِكَ أنَّهم كانُوا قَدْ سَكَنُوا عَلى الكُرْهِ إلى فَرائِضِ الإسْلامِ مَعَ الدَعَةِ وعَدَمِ القِتالِ، فَلَمّا نَزَلَ القِتالُ شَقَّ عَلَيْهِمْ وصَعُبَ عَلَيْهِمْ صُعُوبَةً شَدِيدَةً، إذْ كانُوا مُكَذِّبِينَ بِالثَوابِ، ذَكَرَهُ المَهْدَوِيُّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُحَسِّنُ هَذا القَوْلَ أنَّ ذِكْرَ المُنافِقِينَ يَطَّرِدُ فِيما بَعْدَها مِنَ الآياتِ. ومَعْنى "كُفُّوا أيْدِيَكُمْ": أمْسِكُوا عَنِ القِتالِ. والفَرِيقُ: الطائِفَةُ مِنَ الناسِ، كَأنَّهُ فارَقَ غَيْرَهُ، وقَوْلُهُ: ﴿يَخْشَوْنَ الناسَ كَخَشْيَةِ اللهِ﴾ يَعْنِي أنَّهم كانُوا يَخافُونَ اللهَ في جِهَةِ المَوْتِ، لِأنَّهم لا يَخْشَوْنَ المَوْتَ إلّا مِنهُ، فَلَمّا كَتَبَ عَلَيْهِمْ قِتالَ الناسِ رَأوا أنَّهم يَمُوتُونَ بِأيْدِيهِمْ، فَخَشَوْهم في جِهَةِ المَوْتِ كَما كانُوا يَخْشَوْنَ اللهَ. وقالَ الحَسَنُ: قَوْلُهُ: "كَخَشْيَةِ اللهِ" يَدُلُّ عَلى أنَّها في المُؤْمِنِينَ، وهي خَشْيَةُ خَوْفٍ لا خَشْيَةُ مَخافَةٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: يَخْشَوْنَ الناسَ عَلى حَدِّ خَشْيَةِ المُؤْمِنِينَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ. (p-٦٠٥)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا تَرْجِيحٌ لا قَطْعٌ. وقَوْلُهُ: ﴿أو أشَدَّ خَشْيَةً﴾ قالَتْ فِرْقَةٌ: "أو" بِمَعْنى الواوِ، وفِرْقَةٌ: هي بِمَعْنى بَلْ، وفِرْقَةٌ: هي لِلتَّخْيِيرِ، وفِرْقَةٌ: عَلى بابِها في الشَكِّ في حَقِّ المُخاطَبِ، وفِرْقَةٌ: هي عَلى جِهَةِ الإبْهامِ عَلى المُخاطَبِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدْ شَرَحْتُ هَذِهِ الأقْوالَ كُلَّها في [سُورَةِ البَقَرَةِ] في قَوْلِهِ: ﴿أو أشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤]، لِأنَّ المَوْضِعَيْنِ سَواءٌ. وقَوْلُهُمْ: ﴿لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ﴾ ؟ رَدٌّ في صَدْرِ أوامِرِ اللهِ تَعالى، وقِلَّةُ اسْتِسْلامٍ، والأجَلُ القَرِيبُ يَعْنُونَ بِهِ مَوْتَهم عَلى فُرُشِهِمْ، هَكَذا قالَ المُفَسِّرُونَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا يَحْسُنُ إذا كانَتِ الآيَةُ في اليَهُودِ أوِ المُنافِقِينَ، وأمّا إذا كانَتْ في طائِفَةٍ مِنَ الصَحابَةِ فَإنَّما طَلَبُوا التَأخُّرَ إلى وقْتِ ظُهُورِ الإسْلامِ وكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب