الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكم فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ ﴿وَإنَّ مِنكم لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ فَإنْ أصابَتْكم مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إذْ لَمْ أكُنْ مَعَهم شَهِيدًا﴾ ﴿وَلَئِنْ أصابَكم فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكم وبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهم فَأفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ هَذا خِطابٌ لِلْمُخْلِصِينَ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، وأمْرٌ لَهم بِجِهادِ الكُفّارِ، والخُرُوجِ في سَبِيلِ اللهِ، وحِمايَةِ الشَرْعِ. و"خُذُوا حِذْرَكُمْ" مَعْناهُ: احْزِمُوا واسْتَعِدُّوا بِأنْواعِ الِاسْتِعْدادِ، فَهُنا يَدْخُلُ أخْذُ السِلاحِ وغَيْرِهِ، و"انْفِرُوا" مَعْناهُ: اخْرُجُوا مُجِدِّينَ مُصَمِّمِينَ، يُقالُ: نَفَرَ الرَجُلُ يَنْفِرُ -بِكَسْرِ الفاءِ- نَفِيرًا، ونَفَرَتِ الدابَّةُ تَنْفُرُ -بِضَمِّ الفاءِ- نُفُورًا. و"ثُباتٍ" مَعْناهُ: جَماعاتٌ مُتَفَرِّقاتٌ، فَهي كِنايَةٌ عَنِ السَرايا. (p-٦٠٠)وَ"جَمِيعًا" مَعْناهُ: الجَيْشُ الكَثِيفُ مَعَ النَبِيِّ ﷺ، هَكَذا قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ. والثُبَةُ: حُكِيَ أنَّها فَوْقَ العَشْرَةِ مِنَ الرِجالِ، وزْنُها فُعَلَةٌ بِفَتْحِ العَيْنِ، أصْلُها: ثُبْوَةٌ، وقِيلَ: ثُبَيَةٌ، حُذِفَتْ لامُها بَعْدَ أنْ تَحَرَّكَتْ وانْقَلَبَتْ ألِفًا حَذْفًا غَيْرَ مَقِيسٍ، ولِذَلِكَ جُمِعَتْ: ثِبُونْ، بِالواوِ والنُونِ عِوَضًا عَنِ المَحْذُوفِ، وكُسِرَ أوَّلُها في الجَمْعِ دَلالَةً عَلى خُرُوجِها عن بابِها لِأنَّ بابَها أنْ تُجْمَعَ بِالتاءِ أبَدًا، فَيُقالَ: ثُباتٍ، وتُصَغَّرُ: ثُبَيَّةٌ، أصْلُها: ثُبَيْوَةٌ، وأمّا ثُبَةُ الحَوْضِ -وَهِيَ وسَطُهُ الَّذِي يَثُوبُ الماءُ إلَيْهِ- فالمَحْذُوفُ مِنها العَيْنُ، وأصْلُها: ثُوَبَةٌ وتَصْغِيرُها: ثُوَبْيَةٌ، وهي مِن ثابَ يَثُوبُ، وكَذَلِكَ قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ في بَيْتِ أبِي ذُؤَيْبٍ: ؎ فَلَمّا جَلاها بِالإيامِ تَحَيَّزَتْ ثُباتًا عَلَيْها ذُلُّها واكْتِئابُها إنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ لَيْسَ بِجَمْعٍ، سِيقَ عَلى الأصْلِ، لِأنَّ أصْلَ ثُبَةٍ: ثُبَوَةٌ، تَحَرَّكَتِ الواوُ وانْفَتَحَ ما قَبْلَها فانْقَلَبَتْ ألِفًا، فَساقَها أبُو ذُؤَيْبٍ في هَذِهِ الحالِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنَّ مِنكُمْ﴾ إنَّ إيجابٌ، والخِطابُ لِجَماعَةِ المُؤْمِنِينَ، والمُرادُ بِـ "مِن" المُنافِقُونَ، وعَبَّرَ عنهم بِـ "مِنكُمْ" إذْ هم في عِدادِ المُؤْمِنِينَ ومُنْتَحِلُونَ دَعْوَتَهُمْ، واللامُ الداخِلَةُ عَلى "مَن" لامُ التَأْكِيدِ دَخَلَتْ عَلى اسْمِ "إنَّ" لَمّا كانَ الخَبَرُ مُتَقَدِّمًا في المَجْرُورِ، وذَلِكَ مَهْيَعٌ في كَلامِهِمْ، كَقَوْلِكَ: "إنَّ في الدارِ لَزَيْدًا"، واللامُ الداخِلَةُ عَلى "لَيُبَطِّئَنَّ" لامُ قَسَمٍ عِنْدَ الجُمْهُورِ، تَقْدِيرُهُ: "وَإنَّ مِنكم لَمَن واللهِ- لَيُبَطِّئَنَّ" وقِيلَ: هي لامُ تَأْكِيدٍ، ولَيُبَطِّئَنَّ مَعْناهُ: يُبَطِّئُ غَيْرَهُ، أيْ: يُثَبِّطُهُ ويَحْمِلُهُ عَلى التَخَلُّفِ عن مَغازِي رَسُولِ اللهِ ﷺ، وقَرَأ مُجاهِدٌ: "لَيُبْطِئَنَّ" بِالتَخْفِيفِ في الطاءِ. و"مُصِيبَةٌ" يَعْنِي مِن قَتْلٍ واسْتِشْهادٍ، وإنَّما هي مُصِيبَةٌ بِحَسَبِ اعْتِقادِ المُنافِقِينَ ونَظَرِهِمُ الفاسِدِ، أو عَلى أنَّ المَوْتَ كُلَّهُ مُصِيبَةٌ كَما شاءَ اللهُ تَعالى، وإنَّما الشَهادَةُ في (p-٦٠١)الحَقِيقَةِ نِعْمَةٌ لِحُسْنِ مَآلِها، و"شَهِيدًا" مَعْناهُ: مُشاهِدًا، فالمَعْنى: أنَّ المُنافِقَ يَسُرُّهُ غَيْبُهُ إذا كانَتْ شِدَّةٌ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ تَخَلُّفَهُ إنَّما هو فَزَعٌ مِنَ القِتالِ، ونُكُولٌ عَنِ الجِهادِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَئِنْ أصابَكم فَضْلٌ مِنَ اللهِ﴾ الآيَةُ، المَعْنى: ولَئِنْ ظَفِرْتُمْ وغَنِمْتُمْ وكُلُّ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ، نَدِمَ المُنافِقُ أنْ لَمْ يَحْضُرْ ويُصِبِ الغَنِيمَةَ، وقالَ: ﴿يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهم فَأفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ مُتَمَنِّيًا شَيْئًا قَدْ كانَ عاهَدَ أنْ يَفْعَلَهُ ثُمَّ غَدَرَ في عَهْدِهِ، لِأنَّ المُؤْمِنَ إنَّما يَتَمَنّى مِثْلَ هَذا إذا كانَ المانِعُ لَهُ مِنَ الحُضُورِ عُذْرًا واضِحًا، وأمْرًا لا قُدْرَةَ لَهُ مَعَهُ، فَهو يَتَأسَّفُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلى فَواتِ الخَيْرِ، والمُنافِقُ يُعاطِي المُؤْمِنِينَ المَوَدَّةَ، ويُعاهِدُ عَلى التِزامِ كُلَفِ الإسْلامِ، ثُمَّ يَتَخَلَّفُ نِفاقًا وشَكًّا وكُفْرًا بِاللهِ ورَسُولِهِ، ثُمَّ يَتَمَنّى عِنْدَ ما يَكْشِفُ الغَيْبُ الظَفَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَعَلى هَذا يَجِيءُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَأنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكم وبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ﴾ التِفاتَةً بَلِيغَةً، واعْتِراضًا بَيْنَ القائِلِ والمَقُولِ بِلَفْظٍ يُظْهِرُ زِيادَةً في قُبْحِ فِعْلِهِمْ. وحَكى الطَبَرِيُّ عن قَتادَةَ وابْنِ جُرَيْجٍ أنَّهُما كانا يَتَأوَّلانِ قَوْلَ المُنافِقِ: ﴿يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ﴾ عَلى مَعْنى الحَسَدِ مِنهُ لِلْمُؤْمِنِينَ في نَيْلِ رَغِيبَةٍ. وقَرَأ الحَسَنُ: "لَيَقُولُنَّ" بِضَمِّ اللامِ عَلى مَعْنى "مَن"، وضَمُّ اللامِ لِتَدُلَّ عَلى الواوِ المَحْذُوفَةِ. ويَدُلُّ مَجْمُوعُ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ عَلى أنَّ خارِجَ المُنافِقِينَ فَإنَّما كانَ يَقْصِدُ الغَنِيمَةَ، ومُتَخَلِّفَهم إنَّما كانَ يَقْصِدُ الشَكَّ وتَرَبُّصَ الدَوائِرِ بِالمُؤْمِنِينَ. و"كَأنْ" مُضَمَّنَةٌ مَعْنى التَشْبِيهِ، ولَكِنَّها لَيْسَتْ كالثَقِيلَةِ في الحاجَةِ إلى الِاسْمِ والخَبَرِ، وإنَّما تَجِيءُ بَعْدَها الجُمَلُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ: "تَكُنْ" بِتاءٍ، وقَرَأ غَيْرُهُما: "يَكُنْ" بِياءٍ، وذَلِكَ حَسَنٌ لِلْفَصْلِ الواقِعِ بَيْنَ الفِعْلِ والفاعِلِ. (p-٦٠٢)وَقَوْلُهُ: "فَأفُوزَ" نُصِبَ بِالفاءِ في جَوابِ التَمَنِّي، وقَرَأ الحَسَنُ، ويَزِيدٌ النَحْوِيُّ: "فَأفُوزُ" بِالرَفْعِ عَلى القَطْعِ والِاسْتِئْنافِ، التَقْدِيرُ: فَأنا أفُوزُ، قالَ رُوحٌ: لَمْ يَجْعَلْ لِلَيْتَ جَوابًا، وقالَ الزَجّاجُ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿كَأنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكم وبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ﴾ مُؤَخَّرٌ، وإنَّما مَوْضِعُهُ: ﴿فَإنْ أصابَتْكم مُصِيبَةٌ﴾. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ لِأنَّهُ يُفْسِدُ فَصاحَةَ الكَلامِ..
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب