الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿أمْ لَهم نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ فَإذًا لا يُؤْتُونَ الناسَ نَقِيرًا﴾ ﴿أمْ يَحْسُدُونَ الناسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهم مُلْكًا عَظِيمًا﴾ ﴿فَمِنهم مَن آمَنَ بِهِ ومِنهم مَن صَدَّ عنهُ وكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾
عُرْفُ "أمْ" أنْ تُعْطَفَ بَعْدَ اسْتِفْهامٍ مُتَقَدِّمٍ، كَقَوْلِكَ: أقامَ زَيْدٌ أمْ عَمْرٌو؟ فَإذا ورَدَتْ ولَمْ يَتَقَدَّمْها اسْتِفْهامٌ، فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّها مُضَمَّنَةٌ مَعْنى الإضْرابِ عَنِ الكَلامِ الأوَّلِ والقَطْعِ عنهُ، وهي مُضَمَّنَةٌ -مَعَ ذَلِكَ- مَعْنى الِاسْتِفْهامِ، فَهي بِمَعْنى "بَلْ" مَعَ ألِفِ الِاسْتِفْهامِ، كَقَوْلِ العَرَبِ: إنَّها لَإبِلٌ أمْ شاءٌ؟، فالتَقْدِيرُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: إنَّها لَإبِلٌ بَلْ أهِيَ شاءٌ؟ وكَذَلِكَ هَذا المَوْضِعُ، تَقْدِيرُهُ: بَلْ ألَهم نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ؟ وقَدْ حُكِيَ عن بَعْضِ النَحْوِيِّينَ، أنَّ "أمْ" يُسْتَفْهَمُ بِها ابْتِداءً دُونَ تَقَدُّمِ اسْتِفْهامٍ، حَكاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ في المُشْكِلِ، وهَذا غَيْرُ مَشْهُورٍ لِلْعَرَبِ، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: "أمْ" بِمَعْنى "بَلْ"، ولَمْ يَذْكُرُوا الألِفَ اللازِمَةَ، فَأوجَبُوا -عَلى هَذا- حُصُولَ المِلْكِ لِلْمَذْكُورِينَ في الآيَةِ، والتَزَمُوا ذَلِكَ وفَسَّرُوا عَلَيْهِ، فالمَعْنى عِنْدَهُمْ: بَلْ هم مُلُوكٌ أهْلُ دُنْيا وعُتُوٍّ (p-٥٨٢)وَتَنَعُّمٍ، لا يَبْغُونَ غَيْرَهُ، فَهم بُخَلاءُ بِهِ، حَرِيصُونَ عَلى ألّا يَكُونَ ظُهُورٌ لِسِواهم.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والمَعْنى عَلى الأرْجَحِ -الَّذِي هو مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ والحُذّاقِ- أنَّهُ اسْتِفْهامٌ عَلى مَعْنى الإنْكارِ، أيْ: ألَهم مُلْكٌ؟ فَإذًا لَوْ كانَ لَبَخِلُوا.
قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "فَإذًا لا يُؤْتُوا" بِغَيْرِ نُونٍ عَلى إعْمالِ "إذًا"، والمُصْحَفُ عَلى إلْغائِها، والوَجْهانِ جائِزانِ، وإنْ كانَتْ صَدْرًا مِن أجْلِ دُخُولِ الفاءِ عَلَيْها.
والنَقِيرُ: أعْرَفُ ما فِيهِ أنَّها النُكْتَةُ الَّتِي في ظَهْرِ النَواةِ مِنَ التَمْرَةِ، ومِن هُنالِكَ تَنْبُتُ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي النُقْطَةُ الَّتِي في بَطْنِ النَواةِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: هو نَقْرُ الإنْسانِ بِأُصْبُعِهِ، وهَذا كُلُّهُ يَجْمَعُهُ أنَّهُ كِنايَةٌ عَنِ الغايَةِ في الحَقارَةِ والقِلَّةِ عَلى مَجازِ العَرَبِ واسْتِعارَتِها، و"فَإذًا" في هَذِهِ الآيَةِ مُلْغاةٌ لِدُخُولِ فاءِ العَطْفِ عَلَيْها، ويَجُوزُ إعْمالُها، والإلْغاءُ أفْصَحُ، وذَلِكَ أنَّها إذا تَقَدَّمَتْ أُعْمِلَتْ قَوْلًا واحِدًا، فَإذا دَخَلَ عَلَيْها وهي مُتَقَدِّمَةٌ فاءٌ أو واوٌ جازَ إعْمالُها والإلْغاءُ أفْصَحُ، وهي لُغَةُ القُرْآنِ، وتُكْتَبُ "إذًا" بِالنُونِ وبِالألِفِ، فالنُونُ هو الأصْلُ، كَعن ومِن، وجازَ كَتْبُها بِالألِفِ لِصِحَّةِ الوُقُوفِ عَلَيْها فَأشْبَهَتْ نُونَ التَنْوِينِ، ولا يَصِحُّ الوُقُوفُ عَلى "عن" و"مِن".
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ يَحْسُدُونَ الناسَ﴾ الآيَةُ، "أمْ" هَذِهِ عَلى بابِها، لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ الَّذِي في تَقْدِيرِنا: "بَلْ لَهُمْ" قَدْ تَقَدَّمَها.
واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في المُرادِ بِـ "الناسَ" في هَذا المَوْضِعِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، والسُدِّيُّ، والضَحّاكُ: هو النَبِيُّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، والفَضْلُ النُبُوَّةُ فَقَطْ، والمَعْنى: فَلِمَ يَخُصُّونَهُ بِالحَسَدِ ولا يَحْسُدُونَ آلَ إبْراهِيمَ في جَمِيعِ ما آتَيْناهم مِن هَذا وغَيْرِهِ مِنَ المُلْكِ؟ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والسُدِّيُّ أيْضًا: هو النَبِيُّ ﷺ، والفَضْلُ: ما أُبِيحَ لَهُ مِنَ النِساءِ فَقَطْ، وسَبَبُ الآيَةِ عِنْدَهم أنَّ اليَهُودَ قالَتْ لِكُفّارِ العَرَبِ: انْظُرُوا إلى هَذا الَّذِي يَقُولُ: إنَّهُ بُعِثَ بِالتَواضُعِ، وإنَّهُ لا يَمْلَأُ بَطْنَهُ طَعامًا، لَيْسَ هَمُّهُ إلّا في النِساءِ، ونَحْوَ هَذا، فَنَزَلَتِ الآيَةُ، والمَعْنى: فَلِمَ يَخُصُّونَهُ بِالحَسَدِ ولا يَحْسُدُونَ آلَ إبْراهِيمَ؟ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ؟ يَعْنِي سُلَيْمانَ وداوُدَ عَلَيْهِما (p-٥٨٣)الصَلاةُ والسَلامُ، في أنَّهُما أُعْطِيا النُبُوَّةَ والكِتابَ، وأُعْطِيا -مَعَ ذَلِكَ- مُلْكًا عَظِيمًا، في أمْرِ النِساءِ، وهو ما رُوِيَ أنَّهُ كانَ لِسُلَيْمانَ سَبْعُمِائَةِ امْرَأةٍ، وثَلاثُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ، ولِداوُدَ مِائَةُ امْرَأةٍ، ونَحْوُ هَذا مِنَ الأخْبارِ الوارِدَةِ في ذَلِكَ، فالمُلْكُ في هَذا القَوْلِ إباحَةُ النِساءِ كَأنَّهُ المَقْصُودُ أوَّلًا بِالذِكْرِ. وقالَ قَتادَةُ: الناسُ في هَذا المَوْضِعِ: العَرَبُ، حَسَدَتْها بَنُو إسْرائِيلَ في أنْ كانَ النَبِيُّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ مِنها، والفَضْلُ عَلى هَذا التَأْوِيلِ: هو مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، فالمَعْنى: لِمَ يَحْسُدُونَ العَرَبَ عَلى هَذا النَبِيِّ ﷺ وقَدْ أُوتِيَ آلُ إبْراهِيمَ ﷺ -وَهم أسْلافُهُمْ- أنْبِياءً وكُتُبًا كالتَوْراةِ والزَبُورِ، وحِكْمَةً وهي الفَهْمُ في الدِينِ، وما يَكُونُ مِنَ الهُدى مِمّا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الكِتابُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: نَحْنُ الناسُ. يُرِيدُ قُرَيْشًا.
"مُلْكًا عَظِيمًا" أيْ: سُلَيْمانَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقالَ مُجاهِدٌ: المُلْكُ العَظِيمُ في الآيَةِ هو النُبُوَّةُ، وقالَ هَمّامُ بْنُ الحارِثِ، وأبُو مَسْلَمَةَ: هو التَأْيِيدُ بِالمَلائِكَةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والأصْوَبُ أنَّهُ مُلْكُ سُلَيْمانَ، أو أمْرُ النِساءِ في التَأْوِيلِ المُتَقَدِّمِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمِنهم مَن آمَنَ بِهِ﴾ الآيَةُ، اخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في عَوْدِ الضَمِيرِ مِن "بِهِ"، فَقالَ الجُمْهُورُ: هو عائِدٌ عَلى القُرْآنِ الَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقًا لِما مَعَكم مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ [النساء: ٤٧] فَأعْلَمَ اللهُ أنَّ مِنهم مَن آمَنَ كَما أمَرَ، فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ الوَعِيدُ بِالطَمْسِ ولَمْ يَقَعْ، وصَدَّ قَوْمٌ ثَبَتَ الوَعِيدُ عَلَيْهِمْ في الآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، وحَكى مَكِّيٌّ في ذَلِكَ قِصَصًا لَيْسَتْ بِالثابِتَةِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو عائِدٌ عَلى الفَضْلِ الَّذِي آتاهُ اللهُ النَبِيَّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، أوِ العَرَبَ عَلى ما تَقَدَّمَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
قَرَأتْ فِرْقَةٌ: "صُدَّ عنهُ" بِضَمِّ الصادِ، عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، و"سَعِيرًا" مَعْناهُ: احْتِراقًا وتَلَهُّبًا، والسَعِيرُ: شِدَّةُ تَوَقُّدِ النارِ، فَهَذا كِنايَةٌ عن شِدَّةِ العَذابِ والعُقُوبَةِ.
{"ayahs_start":53,"ayahs":["أَمۡ لَهُمۡ نَصِیبࣱ مِّنَ ٱلۡمُلۡكِ فَإِذࣰا لَّا یُؤۡتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِیرًا","أَمۡ یَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَیۡنَاۤ ءَالَ إِبۡرَ ٰهِیمَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَیۡنَـٰهُم مُّلۡكًا عَظِیمࣰا","فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن صَدَّ عَنۡهُۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِیرًا"],"ayah":"أَمۡ یَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَیۡنَاۤ ءَالَ إِبۡرَ ٰهِیمَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَیۡنَـٰهُم مُّلۡكًا عَظِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق