الباحث القرآني

(p-٤٦٨)قوله عزّ وجلّ: ﴿ذَلِكَ أدْنى ألا تَعُولُوا﴾ [النساء: ٣] ﴿وَآتُوا النِساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكم عن شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ ﴿وَلا تُؤْتُوا السُفَهاءَ أمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكم قِيامًا وارْزُقُوهم فِيها واكْسُوهم وقُولُوا لَهم قَوْلا مَعْرُوفًا﴾. "أدْنى" أقْرَبُ، وهو مِنَ الدُنُوِّ، ومَوْضِعُ أنَّ مِنَ الإعْرابِ نَصْبٌ بِإسْقاطِ الخافِضِ، والناصِبُ أرْيَحِيَّةُ الفِعْلِ الَّذِي في "أدْنى"، التَقْدِيرُ: ذَلِكَ أدْنى إلى ألّا تَعُولُوا. و"تَعُولُوا" مَعْناهُ: تَمِيلُوا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ والرَبِيعُ بْنُ أنَسٍ وأبُو مالِكٍ والسُدِّيُّ وغَيْرُهُمْ، يُقالُ: عالَ الرَجُلُ يَعُولُ: إذا مالَ وجارَ، ومِنهُ قَوْلُ أبِي طالِبٍ في شِعْرِهِ في النَبِيِّ ﷺ: ؎ بِمِيزانِ قِسْطٍ لا يَخِسُّ شُعَيْرَةً ووِزانِ صِدْقٍ وزْنُهُ غَيْرُ عائِلِ يُرِيدُ غَيْرُ مائِلٍ. ومِنهُ قَوْلُ عُثْمانَ لِأهْلِ الكُوفَةِ حِينَ كَتَبَ إلَيْهِمْ: إنِّي لَسْتُ بِمِيزانٍ لا أعُولُ. ويُرْوى بَيْتُ أبِي طالِبٍ: "لَهُ شاهِدٌ مِن نَفْسِهِ غَيْرُ عائِلِ"، وعالَ يُعِيلُ، مَعْناهُ: افْتَقَرَ فَصارَ عالَةً. وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنهم زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وابْنُ زَيْدٍ والشافِعِيُّ: مَعْناهُ: ذَلِكَ أدْنى ألّا يَكْثُرَ عِيالُكم. وحَكى ابْنُ الأعْرابِيِّ أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: عالَ الرَجُلُ يَعُولُ إذا كَثُرَ عِيالُهُ، وقَدَحَ في هَذا الزَجّاجُ وغَيْرُهُ، بِأنَّ اللهَ قَدْ أباحَ كَثْرَةَ السَرارِي، وفي ذَلِكَ تَكْثِيرُ العِيالِ، فَكَيْفَ يَكُونُ أقْرَبَ إلى ألّا يُكْثِرَ؟!. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا القَدْحُ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأنَّ السَرارِيَ إنَّما هُنَّ مالٌ يُتَصَرَّفُ فِيهِ بِالبَيْعِ، وإنَّما العِيالُ الفادِحُ الحَرائِرُ ذَواتُ الحُقُوقِ الواجِبَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَآتُوا النِساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ وابْنُ جُرَيْجٍ: إنَّ الخِطابَ في هَذِهِ الآيَةِ لِلْأزْواجِ، أمَرَهُمُ اللهُ أنْ يَتَبَرَّعُوا بِإعْطاءِ المُهُورِ نِحْلَةً مِنهم لِأزْواجِهِمْ. وقالَ أبُو صالِحٍ: الخِطابُ لِأولِياءِ النِساءِ، لِأنَّ عادَةَ بَعْضِ العَرَبِ كانَتْ أنْ يَأْكُلَ ولِيُّ المَرْأةِ مَهْرَها، فَرَفَعَ اللهُ ذَلِكَ بِالإسْلامِ وأمَرَ بِأنْ يُدْفَعَ ذَلِكَ إلَيْهِنَّ. وقالَ (p-٤٦٩)المُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ عن أبِيهِ: زَعَمَ حَضْرَمِيٌّ أنَّ المُرادَ بِالآيَةِ المُتَشاغِرُونَ الَّذِينَ كانُوا يَتَزَوَّجُونَ امْرَأةً بِأُخْرى، فَأُمِرُوا أنْ يَضْرِبُوا المُهُورَ.. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والآيَةُ تَتَناوَلُ هَذِهِ الفِرَقَ الثَلاثَ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ والسَبْعَةُ: "صَدُقاتِهِنَّ" بِفَتْحِ الصادِ وضَمِّ الدالِ، وقَرَأ مُوسى بْنُ الزُبَيْرِ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ وفَيّاضُ بْنُ غَزْوانَ وغَيْرُهُمْ: "صُدُقاتِهِنَّ" بِضَمِّ الصادِ والدالِ، وقَرَأ قَتادَةُ وغَيْرُهُ: "صُدْقاتِهِنَّ" بِضَمِّ الصادِ وسُكُونِ الدالِ، وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ والنَخْعِيُّ "صُدُقَتَهُنَّ" بِالإفْرادِ وضَمِّ الصادِ وضَمِّ الدالِ. والإفْرادُ مِن هَذا كُلِّهِ: صَدُقَةٍ، وصُدُقَةٍ. و"نِحْلَةً": مَعْناهُ: نِحْلَةً مِنكم لَهُنَّ، أيْ: عَطِيَّةً، وقِيلَ: التَقْدِيرُ: مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لَهُنَّ، وذَلِكَ لِأنَّ اللهَ جَعَلَ الصَداقَ عَلى الرِجالِ ولَمْ يَجْعَلْ عَلى النِساءِ شَيْئًا، وقِيلَ: نِحْلَةً مَعْناهُ: شِرْعَةً، مَأْخُوذٌ مِنَ النَحْلِ تَقُولُ: فُلانٌ يَنْتَحِلُ دِينَ كَذا، وهَذا يَحْسُنُ مَعَ كَوْنِ الخِطابِ لِلْأولِياءِ، ويَتَّجِهُ مَعَ سِواهُ، ونَصْبُها عَلى أنَّها مِنَ الأزْواجِ بِإضْمارِ فِعْلٍ مِن لَفْظِها، تَقْدِيرُهُ: انْحَلُوهُنَّ نِحْلَةً، ويَجُوزُ أنْ يَعْمَلَ الفِعْلُ الظاهِرُ وإنْ كانَ مِن غَيْرِ اللَفْظِ لِأنَّهُ مُناسِبٌ لِلنِّحْلَةِ في المَعْنى، ونَصْبُها عَلى أنَّها مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ بِإضْمارِ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ مِنَ اللَفْظِ، لا يَصِحُّ غَيْرُ ذَلِكَ، وعَلى أنَّها شَرِيعَةٌ هي أيْضًا مِنَ اللهِ. وقَوْلُهُ: ﴿فَإنْ طِبْنَ لَكم عن شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ الخِطابُ حَسْبَما تَقَدَّمَ مِنَ الاخْتِلافِ في الأزْواجِ والأولِياءِ، والمَعْنى: إنْ وهَبْنَ غَيْرَ مُكْرَهاتٍ طَيِّبَةً نُفُوسُهُنَّ. والضَمِيرُ فِي: "مِنهُ" راجِعٌ عَلى الصَداقِ، وكَذَلِكَ قالَ عِكْرِمَةُ وغَيْرُهُ، أو عَلى الإيتاءِ. وقالَ حَضْرَمِيٌّ: سَبَبُ الآيَةِ أنَّ قَوْمًا تَحَرَّجُوا أنْ يَرْجِعَ إلَيْهِمْ شَيْءٌ مِمّا دَفَعُوا إلى الزَوْجاتِ. "نَفْسًا" نُصِبَ عَلى التَمْيِيزِ، ولا يَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلى العامِلِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ إلّا في ضَرُورَةِ شِعْرٍ مَعَ تَصَرُّفِ العامِلِ، وإجازَةِ غَيْرِهِ في الكَلامِ. ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ .......................... ∗∗∗ وما كانَ نَفْسًا بِالفِراقِ تَطِيبُ (p-٤٧٠)وَ "مِن": تَتَضَمَّنُ الجِنْسَ هاهُنا، ولِذَلِكَ يَجُوزُ أنْ تَهَبَ المَهْرَ كُلَّهُ، ولَوْ وُقِفَتْ "مِن" عَلى التَبْعِيضِ لَما جازَ ذَلِكَ. وقُرِئَ "هَنِيًّا مَرِيًّا" دُونَ هَمْزٍ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ بْنِ أبِي الحَسَنِ والزُهْرِيِّ. قالَ الطَبَرِيُّ: ومِن هَناءِ البَعِيرِ أنْ يُعْطِيَ الشِفاءَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ؛ وإنَّما قالَ اللُغَوِيُّونَ: الطَعامُ الهَنِيءُ هو السائِغُ المُسْتَحْسَنُ الحَمِيدُ المَغَبَّةِ، وكَذَلِكَ المَرِيءُ، قالَ اللُغَوِيُّونَ: يَقُولُونَ هَنَأنِي الطَعامُ ومَرَأنِي عَلى الإتْباعِ، فَإذا أفْرَدُوا قالُوا: أمْرَأنِي عَلى وزْنِ أفْعَلَ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: وهَذا كَما جاءَ في الحَدِيثِ « "ارْجِعْنَ مَأْزُوراتٍ غَيْرَ مَأْجُوراتٍ"،» فَإنَّما اعْتَلَّتِ الواوُ مِن مَوْزُوراتٍ إتْباعًا لِلَفْظِ مَأْجُوراتٍ، فَكَذَلِكَ مَرَأنِي إتْباعًا لِهَنَأنِي. ودَخَلَ رَجُلٌ عَلى عَلْقَمَةَ وهو يَأْكُلُ شَيْئًا مِمّا وهَبَتْهُ امْرَأتُهُ مِن مَهْرِها، فَقالَ لَهُ: كُلْ مِنَ الهَنِيءِ المَرِيءِ، قالَ سِيبَوَيْهِ: هَنِيئًا مَرِيئًا صِفَتانِ نَصَبُوهُما نَصْبَ المَصادِرِ المَدْعُوِّ بِها بِالفِعْلِ غَيْرِ المُسْتَعْمَلِ إظْهارُهُ، المُخْتَزَلِ لِلدَّلالَةِ الَّتِي في الكَلامِ عَلَيْهِ، كَأنَّهم قالُوا: ثَبَتَ ذَلِكَ هَنِيئًا مَرِيئًا. وقَوْلُهُ: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُفَهاءَ﴾... الآيَةُ، اخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في المُرادِ بِـ "السُفَهاءَ"؛ فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ والسُدِّيُّ والضَحّاكُ والحَسَنُ وغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ في ولَدِ الرَجُلِ الصِغارِ وامْرَأتِهِ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ في المَحْجُورِينَ السُفَهاءِ، وقالَ مُجاهِدٌ: نَزَلَتْ في النِساءِ خاصَّةً، ورُوِيَ عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أنَّهُ مَرَّتْ بِهِ امْرَأةٌ لَها شارَةٌ فَقالَ لَها: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُفَهاءَ أمْوالَكُمُ﴾... الآيَةَ. وقالَ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ والطَبَرِيُّ وغَيْرُهُما: نَزَلَتْ في كُلِّ مَنِ اقْتَضى الصِفَةَ الَّتِي شَرَطَ اللهُ مِنَ السَفَهِ كانَ مَن كانَ، وقَوْلُ مَن خَصَّها بِالنِساءِ يَضْعُفُ مِن جِهَةِ الجَمْعِ، فَإنَّ العَرَبَ إنَّما تَجْمَعُ فَعَيْلَةً عَلى فَعائِلَ أو فَعِيلاتٍ. وقَوْلُهُ: "أمْوالَكُمُ" يُرِيدُ أمْوالَ المُخاطَبِينَ، هَذا قَوْلُ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ وابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ وقَتادَةَ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُرِيدُ أمْوالَ السُفَهاءِ، وأضافَها إلى المُخاطَبِينَ تَغْبِيطًا بِالأمْوالِ، أيْ: هي لَهم إذا احْتاجُوا، كَأمْوالِكم لَكُمُ الَّتِي تَقِي أعْراضَكُمْ، وتَصُونُكم وتُعَظِّمُ أقْدارَكُمْ، ومِن مِثْلِ هَذا: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] وما جَرى مَجْراهُ. (p-٤٧١)وَقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ والنَخْعِيُّ: "اللاتِي"، والأمْوالُ: جَمْعٌ لِما لا يَعْقِلُ، فالأصْوَبُ فِيهِ قِراءَةُ الجَماعَةِ. و"قِيامًا" جَمْعُ قِيمَةٍ كَدِيمَةٍ ودِيَمٍ، ولَكِنْ شَذَّتْ في الرَدِّ إلى الياءِ كَما شَذَّ قَوْلُهُمْ: جِيادٌ في جَمْعِ جَوادٍ، وكَما قالَتْ بَنُوضَبَّةَ: طَوِيلٌ وطِيالٌ، ونَحْوُ هَذا، وقِوْمًا وقِوامًا وقِيامًا مَعْناهُ: ثَباتًا في صَلاحِ الحالِ ودَوامًا في ذَلِكَ، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ: "قِيَمًا" بِغَيْرِ ألِفٍ، ورُوِيَ أنَّ أبا عَمْرٍو فَتَحَ القافَ مِن قَوْلِهِ: "قَوامًا، وقَيامًا" كانَ أصْلُهُ قِوامًا، فَرَدَّتْ كَسْرَةُ القافِ الواوَ ياءً لِلتَّناسُبِ. ذَكَرَها ابْنُ مُجاهِدٍ ولَمْ يَنْسُبْها، وهي قِراءَةُ أبِي عَمْرٍو والحَسَنِ، وقَرَأ الباقُونَ: "قِيامًا" وقَرَأتْ طائِفَةٌ: "قِوامًا". وقَوْلُهُ: ﴿وارْزُقُوهم فِيها واكْسُوهُمْ﴾ قِيلَ: مَعْناهُ: فِيمَن يَلْزَمُ الرَجُلَ نَفَقَتُهُ وكُسْوَتُهُ مِن زَوْجِهِ وبَنِيهِ الأصاغِرِ، وقِيلَ: في المَحْجُورِينَ مِن أمْوالِهِمْ، و: "مَعْرُوفًا" قِيلَ: مَعْناهُ: ادْعُوا لَهُمْ: بارَكَ اللهُ فِيكم وحاطَكم وصَنَعَ لَكُمْ، وقِيلَ: مَعْناهُ: عِدُوهم وعْدًا حَسَنًا، أيْ: إنْ رَشَدْتُمْ دَفَعْنا إلَيْكم أمْوالَكُمْ، ومَعْنى اللَفْظِ: كُلُّ كَلامٍ تَعْرِفُهُ النُفُوسُ وتَأْنَسُ إلَيْهِ ويَقْتَضِيهِ الشَرْعُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب