الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقًا لِما مَعَكم مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّها عَلى أدْبارِها أو نَلْعَنَهم كَما لَعَنّا أصْحابَ السَبْتِ وكانَ أمْرُ اللهِ مَفْعُولا﴾ ﴿إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ ومَن يُشْرَكَ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إثْمًا عَظِيمًا﴾ هَذا خِطابٌ لِلْيَهُودِ والنَصارى، و"لِما مَعَكُمْ" مَعْناهُ: مِن شَرْعٍ ومِلَّةٍ، لا لِما كانَ مَعَهم مِن مُبَدَّلٍ ومُغَيَّرٍ. والطامِسُ: الداثِرُ المُغَيَّرُ الأعْلامِ، كَما قالَ ذُو الرُمَّةِ: ؎ مِن كُلِّ نَضّاخَةِ الذِفْرى إذا عَرِقَتْ عُرْضَتُها طامِسُ الأعْلامِ مَجْهُولُ ومِن ذَلِكَ قِيلَ لِلْأعْمى المَسْدُودَةِ عَيْناهُ: أعْمى مَطْمُوسٌ. وقالَتْ طائِفَةٌ: طَمْسُ الوُجُوهِ هُنا: أنْ تُعَفّى أثَرُ الحَواسِّ فِيها، وتُزالَ الخِلْقَةُ مِنها، فَيَرْجِعَ كَسائِرِ الأعْضاءِ في الخُلُوِّ مِن أعْضاءِ الحَواسِّ، فَيَكُونَ الرَدُّ عَلى الأدْبارِ في هَذا المَوْضِعِ بِالمَعْنى، أيْ: خُلُوُّهُ مِنَ الحَواسِّ دُبْرًا لِكَوْنِهِ عامِرًا بِها، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعَطِيَّةُ العَوْفِيُّ: طَمْسُ الوُجُوهِ أنْ تُزالَ العَيْنانِ خاصَّةً مِنها، وتُرَدَّ العَيْنانِ في القَفا، فَيَكُونَ ذَلِكَ رَدًّا عَلى الدُبُرِ، ويَمْشِي القَهْقَرى. وحَكى الطَبَرِيُّ عن فِرْقَةٍ: أنَّ طَمْسَ الوُجُوهِ أنْ تَتَغَيَّرَ أعْلامُها وتَصِيرَ مَنابِتَ لِلشَّعْرِ، فَذَلِكَ هو الرَدُّ عَلى الدُبُرِ، ورَدَّ عَلى هَذا القَوْلِ الطَبَرِيُّ. وقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: كانَ أوَّلُ إسْلامِ كَعْبٍ أنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ مِنَ اللَيْلِ وهو يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ: (p-٥٧٥)﴿يا أيُّها الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ﴾ فَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلى وجْهِهِ، ورَجَعَ القَهْقَرى إلى بَيْتِهِ، فَأسْلَمَ مَكانَهُ، وقالَ: واللهِ لَقَدْ خِفْتُ ألّا أبْلُغَ بَيْتِي حَتّى يُطْمَسَ وجْهِي. وقالَ مُجاهِدٌ، والحَسَنُ، والسُدِّيُّ، والضَحّاكُ: ذَلِكَ تَجَوُّزٌ، وإنَّما المُرادُ بِهِ وُجُوهُ الهُدى والرُشْدِ، وطَمْسُها: حَتْمُ الإضْلالِ والصَدُّ عنها والتَصْيِيرُ إلى الكُفْرِ، وهو الرَدُّ عَلى الأدْبارِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الوُجُوهُ هي أوطانُهم وسُكْناهم في بِلادِهِمُ الَّتِي خَرَجُوا إلَيْها، وطَمْسُها: إخْراجُهم مِنها، والرَدُّ عَلى الأدْبارِ: هو رُجُوعُهم إلى الشامِ مِن حَيْثُ أتَوْا أوَّلًا. و"أصْحابَ السَبْتِ" هم أهْلُ أيْلَةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا في السَبْتِ في الصَيْدِ حَسْبَما تَقَدَّمَ، وكانَتْ لَعْنَتُهم أنْ مُسِخُوا خَنازِيرَ وقِرَدَةً، قالَهُ قَتادَةُ، والحَسَنُ، والسُدِّيُّ. و"أمْرُ اللهِ" في هَذا المَوْضِعِ: واحِدُ الأُمُورِ، دالٌّ عَلى جِنْسِها، لا واحِدُ الأوامِرِ، فَهي عِبارَةٌ عَنِ المَخْلُوقاتِ كالعَذابِ واللَعْنَةِ هُنا، أو ما اقْتَضاهُ كُلُّ مَوْضِعٍ مِمّا يَخْتَصُّ بِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآيَةُ. هَذِهِ مَسْألَةُ الوَعْدِ والوَعِيدِ، وتَلْخِيصُ الكَلامِ فِيها أنْ يُقالَ: الناسُ أرْبَعَةُ أصْنافٍ: كافِرٌ ماتَ عَلى كُفْرِهِ فَهَذا مُخَلَّدٌ في النارِ بِإجْماعٍ. ومُؤْمِنٌ مُحْسِنٌ لَمْ يُذْنِبْ قَطُّ وماتَ عَلى ذَلِكَ، فَهَذا في الجَنَّةِ مَحْتُومٌ عَلَيْهِ حَسَبَ الخَبَرِ مِنَ اللهِ تَعالى بِإجْماعٍ، وتائِبٌ ماتَ عَلى تَوْبَتِهِ فَهو عِنْدَ أهْلِ السُنَّةِ وجُمْهُورِ فُقَهاءِ الأُمَّةِ لاحِقٌ بِالمُؤْمِنِ المُحْسِنِ، إلّا أنَّ قانُونَ المُتَكَلِّمِينَ أنَّهُ في المَشِيئَةِ. ومُذْنِبٌ ماتَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ، فَهَذا مَوْضِعُ الخِلافِ، فَقالَتِ المُرْجِئَةُ: هو في الجَنَّةِ بِإيمانِهِ، ولا تَضُرُّهُ سَيِّئاتُهُ، وبَنَوْا هَذِهِ المَقالَةَ عَلى أنْ جَعَلُوا آياتِ الوَعِيدِ كُلَّها مُخَصَّصَةً في الكُفّارِ، وآياتِ الوَعْدِ عامَّةً في المُؤْمِنِينَ، تَقِيِّهِمْ وعاصِيهِمْ. وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: إذا كانَ صاحِبَ كَبِيرَةٍ فَهو في النارِ ولا بُدَّ. وقالَتِ الخَوارِجُ: إذا كانَ صاحِبَ كَبِيرَةٍ أو صَغِيرَةٍ فَهو في النارِ مُخَلَّدٌ، ولا إيمانَ لَهُ، لِأنَّهم يَرَوْنَ كُلَّ الذُنُوبِ كَبائِرَ، وبَنَوْا هَذِهِ المَقالَةَ عَلى أنْ جَعَلُوا آياتِ الوَعْدِ كُلَّها مُخَصَّصَةً في المُؤْمِنِ المُحْسِنِ الَّذِي لَمْ يَعْصَ قَطُّ، والمُؤْمِنِ التائِبِ، وجَعَلُوا آياتِ الوَعِيدِ عامَّةً في العُصاةِ كُفّارًا أو مُؤْمِنِينَ. وقالَ أهْلُ السُنَّةِ والحَقِّ: آياتُ الوَعْدِ ظاهِرَةُ العُمُومِ، وآياتُ الوَعِيدِ ظاهِرَةُ العُمُومِ، ولا يَصِحُّ نُفُوذُ كُلِّها لِوَجْهِهِ بِسَبَبِ تَعارُضِها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَصْلاها إلا الأشْقى﴾ [الليل: ١٥] ﴿الَّذِي كَذَّبَ (p-٥٧٦)وَتَوَلّى﴾ [الليل: ١٦]، وقَوْلِهِ: ﴿وَمَن يَعْصِ اللهَ ورَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ﴾ [الجن: ٢٣]، وهَذِهِ الآيَةُ هي الحاكِمَةُ بِبَيانِ ما تَعارَضَ مِن آياتٍ فَلابُدَّ أنْ نَقُولَ: إنَّ آياتِ الوَعْدِ لَفْظُها لَفْظُ عُمُومٍ، والمُرادُ بِها الخُصُوصُ في المُؤْمِنِ المُحْسِنِ، وفي التائِبِ، وفِيمَن سَبَقَ في عِلْمِهِ تَعالى العَفْوُ عنهُ دُونَ تَعْذِيبٍ مِنَ العُصاةِ، وأنَّ آياتِ الوَعِيدِ لَفْظُها عُمُومٌ، والمُرادُ بِها الخُصُوصُ في الكَفَرَةِ، وفِيمَن سَبَقَ في عِلْمِهِ تَعالى أنَّهُ يُعَذِّبُهُ مِنَ العُصاةِ، ونُحْكِمُ بِقَوْلِنا: "هَذِهِ الآيَةُ" النَصَّ في مَوْضِعِ النِزاعِ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ، ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ فَإنَّها جَلَتِ الشَكَّ، ورَدَّتْ عَلى الطائِفَتَيْنِ: المُرْجِئَةِ، والمُعْتَزِلَةِ، وذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ فَصْلٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وقَوْلَهُ: ﴿وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ﴾ فَصْلٌ قاطِعٌ بِالمُعْتَزِلَةِ، رادٌّ عَلى قَوْلِهِمْ رَدًّا لا مَحِيدَ عنهُ، ولَوْ وقَفْنا في هَذا المَوْضِعِ مِنَ الكَلامِ لَصَحَّ قَوْلُ المُرْجِئَةِ، فَجاءَ قَوْلُهُ: "لِمَن يَشاءُ" رادًّا عَلَيْهِمْ، مُوجِبًا أنَّ غُفْرانَ ما دُونَ الشِرْكِ إنَّما هو لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، بِخِلافِ ما زَعَمُوهُ مِن أنَّهُ مَغْفُورٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ورامَتِ المُعْتَزِلَةُ أنْ تَرُدَّ هَذِهِ الآيَةَ إلى قَوْلِها بِأنْ قالُوا: "لِمَن يَشاءُ": هو التائِبُ، وما أرادُوهُ فاسِدٌ، لِأنَّ فائِدَةَ التَقْسِيمِ في الآيَةِ كانَتْ تَبْطُلُ، إذِ التائِبُ مِنَ الشِرْكِ يُغْفَرُ لَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ورامَتِ المُرْجِئَةُ أنْ تَرُدَّ الآيَةَ إلى قَوْلِها بِأنْ قالُوا: "لِمَن يَشاءُ": مَعْناهُ: يَشاءُ أنْ يُؤْمِنَ، لا يَشاءُ أنْ يَغْفِرَ لَهُ، فالمَشِيئَةُ مُعَلَّقَةٌ بِالإيمانِ مِمَّنْ يُؤْمِنُ، لا بِغُفْرانِ اللهِ لِمَن يَغْفِرُ لَهُ، ويُرَدُّ ذَلِكَ بِأنَّ الآيَةَ تَقْتَضِي -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ﴾ عامٌّ في كافِرٍ ومُؤْمِنٍ، فَإذا خُصِّصَ المُؤْمِنُونَ بِقَوْلِهِ: "لِمَن يَشاءُ" وجَبَ أنَّ الكافِرِينَ لا يُغْفَرُ لَهم ما دُونَ ذَلِكَ، ويُجازَوْنَ بِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وذَلِكَ -وَإنْ كانَ مِمّا قَدْ قِيلَ- فَهو مِمّا لَمْ يُقْصَدْ بِالآيَةِ عَلى تَأْوِيلِ أحَدٍ مِنَ (p-٥٧٧)العُلَماءِ، ويُرَدُّ عَلى هَذا المَنزَعِ بِطُولِ التَقْسِيمِ، لِأنَّ الشِرْكَ مَغْفُورٌ أيْضًا لِمَن شاءَ اللهُ أنْ يُؤْمِنَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ومِن آياتِ الوَعِيدِ الَّتِي احْتَجَّ بِها المُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٩٣]، والآيَةُ مُخْرَجَةٌ عنهم لِوُجُوهٍ، مِنها: أنَّ الأصَحَّ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: "مُتَعَمِّدًا" ما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّهُ أرادَ: مُسْتَحِلًّا، وإذا اسْتَحَلَّ أحَدٌ ما حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ فَقَدْ كَفَرَ، ويَدُلُّ عَلى ما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ أنّا نَجِدُ اللهَ تَعالى في أمْرِ القَتْلِ إذا ذَكَرَ القِصاصَ لَمْ يَذْكُرِ الوَعِيدَ، وإذا ذَكَرَ الوَعِيدَ بِالنارِ لَمْ يَذْكُرِ القِصاصَ، فَيَظْهَرُ أنَّ القِصاصَ لِلْقاتِلِ المُؤْمِنِ العاصِي، والوَعِيدَ لِلْمُسْتَحِلِّ الَّذِي في حُكْمِ الكافِرِ، ومِنها مِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ الخُلُودَ -إذا لَمْ يُقْرَنْ بِقَوْلِهِ: "أبَدًا"- فَجائِزٌ أنْ يُرادَ بِهِ الزَمَنُ المُتَطاوِلُ، إذْ ذَلِكَ مَعْهُودٌ في كَلامِ العَرَبِ، ألا تَرى أنَّهم يُحَيُّونَ المُلُوكَ بِخَلَّدَ اللهُ مُلْكَكَ؟ ومِن ذَلِكَ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ وهَلْ يَعِمَن إلّا سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ ∗∗∗ قَلِيلُ الهُمُومِ ما يَبِيتُ بِأوجالِ؟ وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: «لَمّا نَزَلَتْ ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللهِ إنَّ اللهِ يَغْفِرُ الذُنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٥٣] قالَ بَعْضُ أصْحابِ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: والشِرْكُ يا رَسُولَ اللهِ؟ فَنَزَلَتْ: ﴿إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ، ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾» ولَمّا حَتَّمَ عَلى أنَّهُ لا يَغْفِرُ الشِرْكَ ذَكَرَ قُبْحَ مَوْضِعِهِ، وقَدْرَهُ في الذُنُوبِ. والفِرْيَةُ: أشَدُّ مَراتِبِ الكَذِبِ قُبْحًا، وهو الِاخْتِلاقُ لِلْعَصَبِيَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب