الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَلالَةَ ويُرِيدُونَ أنْ تَضِلُّوا السَبِيلَ﴾ ﴿واللهُ أعْلَمُ بِأعْدائِكم وكَفى بِاللهِ ولِيًّا وكَفى بِاللهِ نَصِيرًا﴾ ﴿مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عن مَواضِعِهِ ويَقُولُونَ سَمِعْنا وعَصَيْنا واسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وراعِنا لَيًّا بِألْسِنَتِهِمْ وطَعْنًا في الدِينِ ولَوْ أنَّهم قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا واسْمَعْ وانْظُرْنا لَكانَ خَيْرًا لَهم وأقْوَمَ ولَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلا قَلِيلا﴾ (p-٥٧٠)الرُؤْيَةُ في قَوْلِهِ "ألَمْ تَرَ" مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ، وهي عِلْمٌ بِالشَيْءِ. وقالَ قَوْمٌ: مَعْناهُ: ألَمْ تَعْلَمْ. وقالَ آخَرُونَ: ألَمْ تُخْبَرْ، وهَذا كُلُّهُ يَتَقارَبُ. والرُؤْيَةُ بِالقَلْبِ تَصِلُ بِحَرْفِ الجَرِّ، وبِغَيْرِ حَرْفِ الجَرِّ. والمُرادُ بِـ "الَّذِينَ": اليَهُودُ، قالَهُ قَتادَةُ وغَيْرُهُ، ثُمَّ اللَفْظُ يَتَناوَلُ مَعَهُمُ النَصارى، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ في رِفاعَةِ بْنِ زَيْدِ بْنِ التابُوتِ اليَهُودِيِّ. و"أُوتُوا" أُعْطُوا، والنَصِيبُ: الحَظُّ، والكِتابُ: التَوْراةُ والإنْجِيلُ، وإنَّما جُعِلَ المُعْطى نَصِيبًا في حَقِّ كُلِّ واحِدٍ مُنْفَرِدٍ لِأنَّهُ لا يَحْصُرُ عِلْمَ الكِتابِ واحِدٌ بِوَجْهٍ. و"يَشْتَرُونَ" عِبارَةٌ عن إيثارِهِمُ الكُفْرَ وتَرْكِهِمُ الإيمانَ، فَكَأنَّهُ أخْذٌ وإعْطاءٌ، هَذا قَوْلُ جَماعَةٍ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: أرادَ الَّذِينَ كانُوا يُعْطُونَ أمْوالَهم لِلْأحْبارِ عَلى إقامَةِ شَرْعِهِمْ، فَهَذا شِراءٌ عَلى وجْهِهِ عَلى هَذا التَأْوِيلِ. ﴿وَيُرِيدُونَ أنْ تَضِلُّوا السَبِيلَ﴾، مَعْناهُ: أنْ تَكْفُرُوا، وقَرَأ النَخْعِيُّ: "وَتُرِيدُونَ أنْ تَضِلُّوا السَبِيلَ" بِالتاءِ مَنقُوطَةً مِن فَوْقٍ في "تُرِيدُونَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ الآيَةُ وما بَعْدَها تَقْتَضِي تَوْبِيخًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلى اسْتِنامَةِ قَوْمٍ مِنهم إلى أحْبارِ اليَهُودِ، في سُؤالٍ عن دِينٍ، أو في مُوالاةٍ أو ما أشْبَهَ ذَلِكَ، وهَذا بَيِّنٌ في ألْفاظِها، فَمِن ذَلِكَ: ﴿وَيُرِيدُونَ أنْ تَضِلُّوا﴾، أيْ: تَدَعُوا الصَوابَ في اجْتِنابِهِمْ، وتَحْسَبُوهم غَيْرَ أعْداءٍ، واللهُ أعْلَمُ بِهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿واللهُ أعْلَمُ بِأعْدائِكُمْ﴾ خَبَرٌ في ضِمْنِهِ التَحْذِيرُ مِنهُمْ، و"بِاللهِ" في قَوْلِهِ: "وَكَفى بِاللهِ" في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِتَقْدِيرِ زِيادَةِ الخافِضِ، وفائِدَةُ زِيادَتِهِ تَبْيِينُ مَعْنى الأمْرِ (p-٥٧١)فِي لَفْظِ الخَبَرِ، أيِ: اكْتَفُوا بِاللهِ، فالباءُ تَدُلُّ عَلى المُرادِ مِن ذَلِكَ، "وَلِيًّا" فَعِيلًا، و"نَصِيرًا" كَذَلِكَ، مِنَ الوِلايَةِ والنَصْرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هادُوا﴾ قالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ: "مِنَ" راجِعَةٌ عَلى "الَّذِينَ" الأُولى، فَهي -عَلى هَذا- مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "تَرَ". وقالَتْ طائِفَةٌ: هي مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "نَصِيرًا" والمَعْنى: يَنْصُرُكم مِنَ الَّذِينَ هادُوا، فَعَلى هَذَيْنَ التَأْوِيلَيْنِ لا يُوقَفُ في قَوْلِهِ: "نَصِيرًا". وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي لِابْتِداءِ الكَلامِ، وفِيهِ إضْمارٌ تَقْدِيرُهُ: يُحَرِّفُونَ، هَذا مَذْهَبُ أبِي عَلِيٍّ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ كانَتْ مِن جِمالِ أبِي أُقَيْشٍ يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ وقالَ الفَرّاءُ وغَيْرُهُ: تَقْدِيرُهُ: "مَن"، ومِثْلُهُ قَوْلُ ذِي الرُمَّةِ: فَظَلُّوا ومِنهم دَمْعُهُ سابِقٌ لَهُ ∗∗∗ وآخَرُ يَثْنِي دَمْعَةَ العَيْنِ بِاليَدِ فَعَلى هَذا التَأْوِيلِ يُوقَفُ في قَوْلِهِ: "نَصِيرًا"، وقَوْلُ سِيبَوَيْهِ أصْوَبُ، لِأنَّ إضْمارَ المَوْصُولِ ثَقِيلٌ، وإضْمارَ المَوْصُوفِ أسْهَلُ. و"هادُوا" مَأْخُوذٌ مِن هادَ إذا تابَ، أو مِن يَهُودَ بْنِ يَعْقُوبَ، وغَيَّرَهُ التَعْرِيبُ، أو مِنَ التَهَوُّدِ وهُوَ: الرُوَيْدُ مِنَ المَشْيِ واللِينُ في القَوْلِ. ذَكَرَ هَذِهِ كُلَّها الخَلِيلُ، وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُها وبَيانُها في [سُورَةِ البَقَرَةِ]. (p-٥٧٢)و تَحْرِيفُ الكَلِمِ عَلى وجْهَيْنِ: إمّا بِتَغْيِيرِ اللَفْظِ، وقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ في الأقَلِّ، وإمّا بِتَغْيِيرِ التَأْوِيلِ، وقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ في الأكْثَرِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الطَبَرِيُّ، وهَذا كُلُّهُ في التَوْراةِ عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ، وقالَتْ طائِفَةٌ: هو كَلِمُ القُرْآنِ، وقالَ مَكِّيٌّ: كَلامُ النَبِيِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، فَلا يَكُونُ التَحْرِيفُ عَلى هَذا إلّا في التَأْوِيلِ. وقَرَأ النَخْعِيُّ: "يُحَرِّفُونَ الكَلامَ" بِالألِفِ. ومَن جَعَلَ "مِن" مُتَعَلِّقَةً بِـ "نَصِيرًا" جَعَلَ "يُحَرِّفُونَ" في مَوْضِعِ الحالِ، ومَن جَعَلَها مُنْقَطِعَةً جَعَلَ "يُحَرِّفُونَ" صِفَةً. وقَوْلُهُ تَعالى عنهم "سَمِعْنا وعَصَيْنا" عِبارَةٌ عن عُتُوِّهِمْ في كُفْرِهِمْ وطُغْيانِهِمْ فِيهِ. و"مُسْمَعٍ" لا يَتَصَرَّفُ إلّا مِنِ "أسْمَعَ"، و"غَيْرَ مُسْمَعٍ"، يَتَخَرَّجُ فِيهِ مَعْنَيانِ: أحَدُهُما: غَيْرُ مَأْمُورٍ وغَيْرُ صاغِرٍ، كَأنَّهُ قالَ: غَيْرَ أنْ تَسْمَعَ مَأْمُورًا بِذَلِكَ، والآخَرُ: عَلى وجْهِ الدُعاءِ، أيْ: لا سَمِعْتَ، كَما تَقُولُ: امْضِ غَيْرَ مُصِيبٍ، وغَيْرَ ذَلِكَ، فَكانَتِ اليَهُودُ إذا خاطَبَتِ النَبِيَّ بِـ "غَيْرَ مُسْمَعٍ" أرادَتْ في الباطِنِ الدُعاءَ عَلَيْهِ، وأرَتْ ظاهِرًا أنَّها تُرِيدُ تَعْظِيمَهُ، قالَ نَحْوَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ، وكَذَلِكَ "راعِنا" كانُوا يُرِيدُونَ مِنهُ في نُفُوسِهِمْ مَعْنى الرُعُونَةِ، وحَكى مَكِّيٌّ مَعْنى رِعايَةِ الماشِيَةِ، ويُظْهِرُونَ مِنهُ مَعْنى المُراعاةِ، فَهَذا مَعْنى لَيِّ اللِسانِ، فَقالَ الزَجّاجُ: كانُوا يُرِيدُونَ: اجْعَلِ اسْمَكَ لِكَلامِنا مَرْعىً. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا جَفاءٌ لا يُخاطَبُ بِهِ نَبِيٌّ، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "راعُونا" ومَن قالَ: "غَيْرَ مُسْمَعٍ": غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنكَ فَإنَّهُ لا يُساعِدُهُ التَصْرِيفُ، وقَدْ حَكاهُ الطَبَرِيُّ عَنِ الحَسَنِ، ومُجاهِدٍ. و"لَيًّا" أصْلُهُ لَوْيًا، قُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ، و"وَطَعْنًا في الدِينِ" أيْ: تَوْهِينًا لَهُ، وإظْهارًا لِلِاسْتِخْفافِ بِهِ. (p-٥٧٣)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا اللَيُّ بِاللِسانِ إلى خِلافِ ما في القَلْبِ مَوْجُودٌ حَتّى الآنَ في بَنِي إسْرائِيلَ، ويُحْفَظُ مِنهُ في عَصْرِنا أمْثِلَةٌ، إلّا أنَّهُ لا يَلِيقُ ذِكْرُها بِهَذا الكِتابِ. "وَلَوْ أنَّهُمْ" الآيَةُ، المَعْنى: لَوْ أنَّهم آمَنُوا وسَمِعُوا وأطاعُوا، واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في قَوْلِهِ، "وانْظُرْنا"، فَقالَ مُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، وغَيْرُهُما: مَعْناهُ انْتَظِرْنا، بِمَعْنى: أفْهِمْنا وتَمَهَّلْ عَلَيْنا حَتّى نَفْهَمَ عنكَ، ونَعِيَ قَوْلَكَ، وهَذا كَما قالَ الحُطَيْئَةُ: وقَدْ نَظَرْتُكُمُ إيناءَ صادِرَةٍ لِلْخِمْسِ طالَ بِها مَسْحِي وتَنْساسِي وقالَتْ فِرْقَةٌ: انْظُرْ مَعْناهُ: انْظُرْ إلَيْنا، فَكَأنَّهُ اسْتِدْعاءُ اهْتِبالٍ وتَحَفٍّ، ومِنهُ قَوْلُ ابْنِ الرُقَيّاتِ: ظاهِراتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ نَ كَما تَنْظُرُ الأراكَ الظِباءُ و"وَأقْوَمَ" مَعْناهُ: أعْدَلُ وأصْوَبُ. واللَعْنَةُ: الإبْعادُ، فَمَعْناهُ: أبْعَدَهم مِنَ الهُدى، و"قَلِيلًا" نَعْتٌ، إمّا لِإيمانٍ، وإمّا لِنَفَرٍ أو قَوْمٍ، والمَعْنى مُخْتَلِفٌ، فَمَن عَبَّرَ بِالقِلَّةِ عَنِ الإيمانِ قالَ: إمّا هي عِبارَةٌ عن عَدَمِهِ عَلى ما حَكى سِيبَوَيْهِ مِن قَوْلِهِمْ: "أرْضٌ قَلَّما ما تُنْبِتُ كَذا" وهي لا تُنْبِتُهُ جُمْلَةً، وإمّا قَلَّلَ الإيمانَ لَمّا قَلَّتِ الأشْياءُ الَّتِي (p-٥٧٤)آمَنُوا بِها فَلَمْ يَنْفَعْهم ذَلِكَ، وذَلِكَ أنَّهم كانُوا يُؤْمِنُونَ بِالتَوْحِيدِ ويَكْفُرُونَ بِمُحَمَّدٍ وبِجَمِيعِ أوامِرِ شَرِيعَتِهِ ونَواهِيها. ومَن عَبَّرَ بِالقِلَّةِ عَنِ النَفَرِ قالَ: لا يُؤْمِنُ مِنهم إلّا قَلِيلٌ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ، وكَعْبِ الأحْبارِ، وغَيْرِهِما، وإذا قَدَّرْتَ الكَلامَ: نَفَرًا قَلِيلًا، فَهو نَصْبٌ في مَوْضِعِ الحالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب