الباحث القرآني
(p-٥٥٧)قَوْلُهُ تَعالى:
﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وعَصَوُا الرَسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ ولا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾
تَقَدَّمَ في الآيَةِ قَبْلَها الإعْلامُ بِتَحْقِيقِ الأحْكامِ يَوْمَ القِيامَةِ، فَحَسُنَ -بَعْدَ ذَلِكَ- التَنْبِيهُ عَلى الحالَةِ الَّتِي يُحَضَّرُ ذَلِكَ فِيها، ويُجاءُ فِيها بِالشُهَداءِ عَلى الأُمَمِ. ومَعْنى الآيَةِ: أنَّ اللهَ يَأْتِي بِالأنْبِياءِ شُهَداءَ عَلى أُمَمِهِمْ بِالتَصْدِيقِ والتَكْذِيبِ، ومَعْنى الأُمَّةِ -فِي هَذِهِ الآيَةِ- غَيْرُ المَعْنى المُتَعارَفِ في إضافَةِ الأُمَمِ إلى الأنْبِياءِ، فَإنَّ المُتَعارَفَ أنْ تُرِيدَ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ جَمِيعَ مَن آمَنَ بِهِ. وكَذَلِكَ في كُلِّ نَبِيٍّ، وهي هُنا: جَمِيعُ مَن بُعِثَ إلَيْهِ. مَن آمَنَ مِنهم ومَن كَفَرَ. وكَذَلِكَ قالَ المُتَأوِّلُونَ: إنَّ الإشارَةَ "بِهَؤُلاءِ" إلى كُفّارِ قُرَيْشٍ وغَيْرِهِمْ مِنَ الكُفّارِ، وإنَّما خُصَّ كُفّارُ قُرَيْشٍ بِالذِكْرِ لِأنَّ وطْأةَ الوَعِيدِ أشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنها عَلى غَيْرِهِمْ.
"فَكَيْفَ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ بِفِعْلٍ تَقْدِيرُهُ في آخِرِ الآيَةِ: تَرى حالَهُمْ، أو يَكُونُونَ، أو نَحْوُهُ، وقالَ مَكِّيٌّ في الهِدايَةِ: "جِئْنا" عامِلٌ في "فَكَيْفَ"، وذَلِكَ خَطَأٌ.
ورُوِيَ « "أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ إذا قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ فاضَتْ عَيْناهُ"،» وكَذَلِكَ ذَرَفَتْ عَيْناهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ حِينَ قَرَأها عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ في الحَدِيثِ المَشْهُورِ، وما ذَكَرَهُ الطَبَرِيُّ مِن شَهادَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ بِتَبْلِيغِ الرُسُلِ، وما جَرى في مَعْنى ذَلِكَ مِنَ القَصَصِ الَّذِي ذَكَرَ مَكِّيٌّ كَسُؤالِ اللَوْحِ المَحْفُوظِ، ثُمَّ إسْرافِيلَ، ثُمَّ جِبْرِيلَ، ثُمَّ الأنْبِياءِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ آيَتَهُ، وإنَّما آيَتُهُ: ﴿لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى الناسِ﴾ [البقرة: ١٤٣].
(p-٥٥٨)وَ"يَوْمَئِذٍ" ظَرْفٌ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ نَصْبُ -يَوْمَ- في هَذا المَوْضِعِ عَلى الظَرْفِ، عَلى أنَّهُ مُعْرَبٌ مَعَ الأسْماءِ غَيْرِ المُتَمَكِّنَةِ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ نَصْبُهُ عَلى أنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى النَصْبِ مَعَ الأسْماءِ غَيْرِ المُتَمَكِّنَةِ، والوُدُّ إنَّما هو في ذَلِكَ اليَوْمِ.
وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ: "تَسَّوّى" عَلى إدْغامِ التاءِ الثانِيَةِ مِن "تَتَسَوّى"، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: "تَسَوّى" بِتَخْفِيفِ السِينِ وتَشْدِيدِ الواوِ، عَلى حَذْفِ التاءِ الثانِيَةِ المَذْكُورَةِ، وهُما بِمَعْنىً واحِدٍ، واخْتُلِفَ فِيهِ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: تَنْشَقُّ الأرْضُ فَيَحْصُلُونَ فِيها ثُمَّ تَتَسَوّى هي في نَفْسِها عَلَيْهِمْ وبِهِمْ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ لَوْ تُسَوّى هي مَعَهم في أنْ يَكُونُوا تُرابًا كَآبائِهِمْ، فَجاءَ اللَفْظُ عَلى أنَّ الأرْضَ هي المَسْوِيَّةُ مَعَهُمْ، والمَعْنى إنَّما هو أنَّهم يَسْتَوُونَ مَعَ الأرْضِ، فَفي اللَفْظِ قَلْبٌ يَخْرُجُ عَلى نَحْوِ اللُغَةِ الَّتِي حَكاها سِيبَوَيْهِ: أدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رَأْسِي، وأدْخَلْتُ فَمِي في الحَجَرِ، وما جَرى مَجْراهُ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو: "تُسَوّى" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، فَيَكُونُ اللهُ تَعالى يَفْعَلُ ذَلِكَ عَلى حَسَبِ المَعْنَيَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: إمالَةُ الفَتْحَةِ إلى الكَسْرَةِ، والألِفِ إلى الياءِ فِي: "تُسَوّى" حَسَنَةٌ.
قالَتْ طائِفَةٌ: مَعْنى الآيَةِ أنَّ الكُفّارَ لِما يَرَوْنَهُ مِنَ الهَوْلِ وشِدَّةِ المَخاوِفِ يَوَدُّونَ أنْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ فَلا يَنالُهم ذَلِكَ الخَوْفُ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الكَلامَ فَأخْبَرَ أنَّهم لا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا لِنُطْقِ جَوارِحِهِمْ بِذَلِكَ كُلِّهِ، حِينَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: ﴿واللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] فَيَقُولُ اللهُ: كَذَبْتُمْ، ثُمَّ يُنْطِقُ جَوارِحَهم فَلا تَكْتُمُ حَدِيثًا، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وقالَ فِيهِ: إنَّ اللهَ إذا جَمَعَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ ظَنَّ بَعْضُ الكُفّارِ أنَّ الإنْكارَ يُنْجِي فَقالُوا: ﴿واللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، فَيَقُولُ اللهُ: كَذَبْتُمْ، ثُمَّ يُنْطِقُ جَوارِحَهم فَلا تَكْتُمُ حَدِيثًا، وهَكَذا فَتَحَ ابْنُ عَبّاسٍ عَلى سائِلٍ أشْكَلَ عَلَيْهِ الأمْرُ. وقالَتْ طائِفَةٌ مِثْلَ القَوْلِ الأوَّلِ إلّا أنَّها (p-٥٥٩)قالَتْ: إنَّما اسْتَأْنَفَ الكَلامَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا﴾ لِيُخْبِرَ عن أنَّ الكَتْمَ لا يَنْفَعُ وإنْ كَتَمُوا، لِأنَّ اللهَ تَعالى يَعْلَمُ جَمِيعَ أسْرارِهِمْ وأحادِيثِهِمْ، فَمَعْنى ذَلِكَ: ولَيْسَ ذَلِكَ المَقامُ الهائِلُ مَقامًا يَنْفَعُ فِيهِ الكَتْمُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
الفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ أنَّ الأوَّلَ يَقْتَضِي أنَّ الكَتْمَ لا يَنْفَعُ بِوَجْهٍ، والآخَرَ يَقْتَضِي أنَّ الكَتْمَ لا يَنْفَعُ وقَعَ أو لَمْ يَقَعْ، كَما تَقُولُ: هَذا مَجْلِسٌ لا يُقالُ فِيهِ باطِلٌ، وأنْتَ تُرِيدُ: لا يُنْتَفَعُ بِهِ ولا يُسْتَمَعُ إلَيْهِ. قالَتْ طائِفَةٌ: الكَلامُ كُلُّهُ مُتَّصِلٌ، ومَعْناهُ: يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ، ويَوَدُّونَ ألّا يَكْتُمُوا اللهَ حَدِيثًا، ووُدُّهم لِذَلِكَ إنَّما هو نَدَمٌ عَلى كَذِبِهِمْ حِينَ قالُوا: ﴿واللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]. وقالَتْ طائِفَةٌ: هي مَواطِنُ وفُرُوقٌ، وقالَتْ طائِفَةٌ: مَعْنى الآيَةِ: يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ، وأنَّهم لَمْ يَكْتُمُوا اللهَ حَدِيثًا، وهَذا عَلى جِهَةِ النَدَمِ عَلى الكَذِبِ أيْضًا، كَما تَقُولُ: ودِدْتُ أنْ أعْزِمَ كَذا، ولا يَكُونُ كَذا عَلى جِهَةِ الفِداءِ، أيْ: يَفْدُونَ كِتْمانَهم بِأنْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ.
والرَسُولُ -فِي هَذِهِ الآيَةِ-: لِلْجِنْسِ، شُرِّفَ بِالذِكْرِ، وهو مُفْرَدٌ دَلَّ عَلى الجَمْعِ، وقَرَأ أبُو السَمّالِ، ويَحْيى بْنُ يَعْمُرَ: "وَعَصَوِا الرَسُولَ" بِكَسْرِ الواوِ مِن: "عَصَوْا".
{"ayahs_start":41,"ayahs":["فَكَیۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۭ بِشَهِیدࣲ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰۤؤُلَاۤءِ شَهِیدࣰا","یَوۡمَىِٕذࣲ یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَعَصَوُا۟ ٱلرَّسُولَ لَوۡ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضُ وَلَا یَكۡتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِیثࣰا"],"ayah":"فَكَیۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۭ بِشَهِیدࣲ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰۤؤُلَاۤءِ شَهِیدࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق