الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ الناسَ بِالبُخْلِ ويَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وأعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا﴾ ﴿والَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم رِئاءَ الناسِ ولا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ ومَن يَكُنِ الشَيْطانُ لَهُ قَرِينًا فَساءَ قَرِينًا﴾ ﴿وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وأنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اللهُ وكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ قالَتْ فِرْقَةٌ: "الَّذِينَ" في مَوْضِعِ نَصْبِ بَدَلٍ مِن "مَن" في قَوْلِهِ: ﴿مَن كانَ مُخْتالا فَخُورًا﴾ [النساء: ٣٦] ومَعْناهُ -عَلى هَذا-: يَبْخَلُونَ بِأمْوالِهِمْ "وَيَأْمُرُونَ الناسَ" يَعْنِي: (p-٥٥١)إخْوانَهُمْ، ومَن هو مَظِنَّةُ طاعَتِهِمْ بِالبُخْلِ بِالأمْوالِ، فَلا تُنْفَقُ في شَيْءٍ مِن وُجُوهِ الإحْسانِ إلى مَن ذَكَرَهُ ﴿وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ﴾، يَعْنِي: مِنَ الرِزْقِ والمالِ، فَيَجِيءُ -عَلى هَذا- أنَّ الباخِلِينَ مَنفِيَّةٌ عنهم مَحَبَّةُ اللهِ، والآيَةُ إذًا في المُؤْمِنِينَ، فالمَعْنى: أحْسِنُوا أيُّها المُؤْمِنُونَ إلى مَن سَمّى، فَإنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَن فِيهِ الخِلالُ المانِعَةُ مِنَ الإحْسانِ إلَيْهِمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وأمّا الكافِرُونَ فَإنَّهُ أعَدَّ لَهم ﴿عَذابًا مُهِينًا﴾، فَفَصَلَ تَوَعُّدَ المُؤْمِنِينَ مِن تَوَعُّدِ الكافِرِينَ بِأنْ جَعَلَ الأوَّلَ عَدَمَ المَحَبَّةِ، والثانِيَ عَذابًا مُهِينًا. وقالَتْ فِرْقَةٌ: "الَّذِينَ" في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ -بَعْدَ قَوْلِهِ: "مِن فَضْلِهِ"-: مُعَذَّبُونَ، أو مُجازَوْنَ، أو نَحْوُهُ. وقالَ الزَجّاجُ: الخَبَرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها﴾ [النساء: ٤٠]، وفي هَذا تَكَلُّفٌ ما، والآيَةُ عَلى هَذا كُلِّهِ في كُفّارٍ. وقَدْ رُوِيَ أنَّها نَزَلَتْ في أحْبارِ اليَهُودِ بِالمَدِينَةِ، فَإنَّهم بَخِلُوا بِالإعْلامِ بِصِفَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، وبِما عِنْدَهم مِنَ العِلْمِ في ذَلِكَ، وأمَرُوا الناسَ بِالبُخْلِ عَلى جِهَتَيْنِ: بِأنْ قالُوا لِأتْباعِهِمْ وعَوامِّهِمُ: اجْحَدُوا أمْرَ مُحَمَّدٍ وابْخَلُوا بِهِ، وبِأنْ قالُوا لِلْأنْصارِ: لِمَ تُنْفِقُونَ أمْوالَكم عَلى هَؤُلاءِ المُهاجِرِينَ فَتَفْتَقِرُونَ؟ ونَحْوُ هَذا مَرْوِيٌّ عن مُجاهِدٍ، وحَضْرَمِيٍّ، وابْنِ زَيْدٍ، وابْنِ عَبّاسٍ. وحَقِيقَةُ البُخْلِ: مَنعُ ما في اليَدِ، والشُحُّ: هو البُخْلُ الَّذِي تَقْتَرِنُ بِهِ الرَغْبَةُ فِيما في أيْدِي الناسِ، وكِتْمانُ الفَضْلِ هو -عَلى هَذا-: كِتْمانُ العِلْمِ، والتَوَعُّدُ بِالعَذابِ المُهِينِ لَهم. وقَرَأ عِيسى ابْنُ عُمَرَ، والحَسَنُ: "بِالبُخُلِ" بِضَمِّ الباءِ والخاءِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ بِضَمِّ الباءِ وسُكُونِ الخاءِ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ هُنا وفي [الحَدِيدِ] "بِالبَخَلِ" بِفَتْحِ الباءِ والخاءِ، وقَرَأ ابْنُ الزُبَيْرِ وقَتادَةُ وجَماعَةٌ بِفَتْحِ الباءِ وسُكُونِ الخاءِ، وهي كُلُّها لُغاتٌ. وأعْتَدْنا مَعْناهُ: يَسَّرْنا وأعْدَدْنا وأحْضَرْنا، والعَتِيدُ: الحاضِرُ. والمُهِينُ: الَّذِي يَقْتَرِنُ بِهِ خِزْيٌ وذُلٌّ، وهو أنْكى وأشَدُّ عَلى المُعَذَّبِ. (p-٥٥٢)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ الآيَةُ، قالَ الطَبَرِيُّ: "والَّذِينَ" في مَوْضِعِ خَفْضِ عَطْفٍ عَلى "الكافِرِينَ"، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلى "الَّذِينَ يَبْخَلُونَ" عَلى تَأْوِيلِ: مَن رَآهُ مَقْطُوعًا ورَأى الخَبَرَ مَحْذُوفًا، وقالَ: إنَّها نَزَلَتْ في اليَهُودِ. ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى العَطْفِ وحَذْفِ الخَبَرِ، وتَقْدِيرُهُ: -بَعْدَ "اليَوْمِ الآخِرِ"-: مُعَذَّبُونَ. وقالَ مُجاهِدٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في اليَهُودِ، قالَ الطَبَرِيُّ: وهَذا ضَعِيفٌ، لِأنَّهُ نَفى عن هَذِهِ الصِفَةِ الإيمانَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، واليَهُودُ لَيْسُوا كَذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَوْلُ مُجاهِدٍ مُتَّجِهٌ عَلى المُبالَغَةِ والإلْزامِ، إذْ إيمانُهم بِاليَوْمِ الآخِرِ كَلا إيمانٍ، مِن حَيْثُ لا يَنْفَعُهم. وقالَ الجُمْهُورُ: نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ، وهَذا هو الصَحِيحُ، وإنْفاقُهُمْ: هو ما كانُوا يُعْطُونَ مِن زَكاةٍ، ويُنْفِقُونَ في السَفَرِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، رِياءً ودَفْعًا عن أنْفُسِهِمْ، لا إيمانًا بِاللهِ، ولا حُبًّا في دِينِهِ. و"رِئاءَ" نُصِبَ عَلى الحالِ مِنَ الضَمِيرِ في "يُنْفِقُونَ"، والعامِلُ: "يُنْفِقُونَ"، ويَكُونُ قَوْلُهُ: "وَلا يُؤْمِنُونَ" في الصِلَةِ، لِأنَّ الحالَ لا تُفَرَّقُ إذا كانَتْ مِمّا هو في الصِلَةِ، وحَكى المَهْدَوِيُّ أنَّ الحالَ تَصِحُّ أنْ تَكُونَ مِنَ "الَّذِينَ" فَعَلى هَذا يَكُونُ "وَلا يُؤْمِنُونَ" مَقْطُوعًا لَيْسَ مِنَ الصِلَةِ، والأوَّلُ أصَحُّ، وما حَكىالمَهْدَوِيُّ ضَعِيفٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "وَلا يُؤْمِنُونَ" في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: غَيْرَ مُؤْمِنِينَ، فَتَكُونَ الواوُ واوَ الحالِ. والقَرِينُ: فَعِيلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ، مِنَ المُقارَنَةِ، وهِيَ: المُلازَمَةُ والِاصْطِحابُ، وهي هاهُنا- مُقارَنَةٌ مَعَ خُلْطَةٍ وتَوادٍّ، والإنْسانُ كُلُّهُ يُقارِنُهُ الشَيْطانُ، لَكِنَّ المُوافِقَ عاصٍ لَهُ، ومِنهُ قِيلَ لِما يُلَزُّ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ قَرِينانِ، وقِيلَ لِلْحَبْلِ الَّذِي يُشَدّانِ بِهِ: قَرَنٌ، قالَ الشاعِرُ: : (p-٥٥٣) ؎ كَمُدْخِلٍ رَأْسَهُ لَمْ يُدْنِهِ أحَدٌ بَيْنَ القَرِينَيْنِ حَتّى لَزَّهُ القَرَنُ فالمَعْنى: ومَن يَكُنِ الشَيْطانُ لَهُ مُصاحِبًا ومُلازِمًا، أوشَكَ أنْ يُطِيعَهُ فَتَسُوءُ عاقِبَتُهُ، و"قَرِينًا" نُصِبَ عَلى التَمْيِيزِ، والفاعِلُ لِـ "ساءَ" مُضْمَرٌ، تَقْدِيرُهُ: ساءَ القَرِينُ قَرِينًا، عَلى حَدِّ "بِئْسَ"، وقَرَنَ الطَبَرِيُّ هَذِهِ الآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلا﴾ [الكهف: ٥٠] وذَلِكَ مَرْدُودٌ، لِأنَّ "بَدَلًا"، حالٌ، وفي هَذا نَظَرٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَماذا عَلَيْهِمْ﴾ "ما" رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، و"ذا" صِلَةٌ، و"عَلَيْهِمْ" خَبَرُ الِابْتِداءِ، التَقْدِيرُ: وأيُّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ؟ ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ "ما" اسْمًا بِانْفِرادِها، و"ذا" بِمَعْنى "الَّذِي" ابْتِداءٌ وخَبَرٌ، وجَوابُ "لَوْ" في قَوْلِهِ: "ماذا" فَهو جَوابٌ مُقَدَّمٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وكَأنَّ هَذا الكَلامَ يَقْتَضِي أنَّ الإيمانَ مُتَعَلِّقٌ بِقُدْرَتِهِمْ، ومِن فِعْلِهِمْ. ولا يُقالُ لِأحَدٍ: "ما عَلَيْكَ لَوْ فَعَلْتَ". إلّا فِيما هو مَقْدُورٌ لَهُ. وهَذِهِ شُبْهَةٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ، والِانْفِصالُ عنها أنَّ المَطْلُوبَ إنَّما هو تَكَسُّبُهم واجْتِهادُهم وإقْبالُهم عَلى الإيمانِ، وأمّا الِاخْتِراعُ فاللهُ المُنْفَرِدُ بِهِ، وفي هَذا الكَلامِ تَفَجُّعٌ ما عَلَيْهِمْ، واسْتِدْعاءٌ جَمِيلٌ يَقْتَضِي حِيطَةً وإشْفاقًا. ﴿وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ إخْبارٌ يَتَضَمَّنُ وعِيدًا، ويُنَبِّهُ عَلى سُوءِ تَواطُئِهِمْ، أيْ: لا يَنْفَعُهم كَتْمٌ مَعَ عِلْمِ اللهِ تَعالى بِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب